سيطرة الاعتبارات الثنائية والمصالح النفطية على السياسات الصينية والروسية لم تخدم العراق، بل ساهمت في تضليله. وها هي الموازين ذاتها تسيّر سياسات هاتين الدولتين الكبيرتين نحو مختلف الملفات الدولية، ومنها إيران والسودان، مروراً بسورية ولبنان.تحامل السياسات الأميركية على العرب والمسلمين وتضامنها مع إسرائيل بكل عدوانها واحتلالها وتحقيرها للحقوق الفلسطينية، أمور واضحة تبرر الغضب الشعبي العربي والإسلامي منها. إنما من الخطأ أن تفترض هذه الشعوب أن أميركا هي العدو الأبدي، وأن الصين وروسيا هما الصديقتان الدائمتان، وكأن سياسات الكرملين تكرّم مسلمي الشيشان وسياسات بكين تحتضن مسلمي الصين وتطلق حرياتهم. فلقد حان للشعوب العربية والمسلمة أن تثقف نفسها قليلاً في ما يخص مواقف الآخرين منها، وأن تتوقف عن هذا الخلط الخطير بين الكراهية للسياسات الأميركية وبين التقبل للسياسة الروسية والصينية من دون تدقيق في أسبابها وأهدافها وفي الضرر الذي تلحقه بالمصالح والطموحات العربية والإسلامية في نهاية المطاف. حان لهذه الشعوب أن تقود مثلاً الحملات الدولية ضد المجازر في دارفور كي توصل الى الصين رسالة واضحة هي أن الحماية التي تقدمها الى حكومة السودان حرصاً على مصالحها النفطية معها تساهم في تلطيخ سمعة المسلمين والعرب. ولذلك إنها مرفوضة عند هذا الرأي العام لأن الاغتصاب وحرق القرى والتهجير والقتل الجماعي أدوات قذرة لم يعد الصمت ازاءها مقبولاً، لأنها لم تعد تُطاق. لا يوجد مبرر للصمت العربي القاطع على مآسي ومجازر دارفور بغض النظر إن كانت تسميتها الصحيحة "إبادة" جماعية أم لا. لا مبرر لتكون قيادة الاحتجاج العالمي على هذه المجازر مسيحية أو يهودية إذ كان يجب أن تكون قيادة الاحتجاج مسلمة أولاً بمشاركة جميع أتباع الأديان الأخرى.بالطبع، هناك عناصر دينية على نسق تبني الانغليكانية الأميركية قضية جنوب السودان ودفعها في المحافل الأميركية والدولية. وقد تكون هناك حقاً غايات مبيتة لتقسيم السودان، انطلاقاً من حرب دينية فيه. إنما الحكومة السودانية ليست بريئة من "الجنجاويد" ومجازرهم ضد المسلمين أساساً وليس فقط ضد المسيحيين في دارفور.آخر ما يحتاجه السودانيون هو تلك »المساعدة« التي عرضها أسامة بن لادن، زعيم تنظيم »القاعدة« الذي وجد الوقت مناسباً للتحدث عن »قوات صليبية لاحتلال دارفور« وسرقة ثرواتها النفطية. فقد هاجم بن لادن اتفاق السلام الذي أنهى الحرب الأهلية في جنوب السودان، وناشد المسلمين بالزحف الى السودان مسلحين بالألغام والقذائف استعداداً لحرب طويلة ضد »الكفار« وضد القوات الدولية لحفظ السلام. ما يحتاجه السودانيون هو أن ينهض العرب والمسلمون ضد تحريض بن لادن وأن يقودوا، أو على الأقل، أن يشاركوا في حملات وحشود الاحتجاج العالمي ضد المجازر في دارفور. يحتاج السودانيون من الحكومات العربية ومن جامعة الدول العربية ليس الالتفاف حول الرئيس عمر البشير، باسم الحفاظ على وحدة السودان، والاستثمار في عقد مؤتمر قمة في الخرطوم. يحتاجون من العرب أن يدركوا ويفهموا ما يحدث في كامل السودان بدءاً من دارفور.فليس طبيعياً أن يصمت العرب على ما بين 300 ألف و400 ألف ضحية حتى الآن مع توقع تضاعف الكارثة ليصل عدد الضحايا الى المليون قريباً، ثم يتحدثون عن الاخوة العربية والتعاطف العربي.وبصراحة، يبدو أنه يوجد عنصر مقرف وراء الصمت العربي على ما يحدث في السودان، وهو العنصرية ضد الأفارقة السود بغض النظر عن مزاعم العروبة المشتركة. لذلك لا تهتز الشعوب العربية لرقم نصف مليون أو مليون ضحية، لأنها ضحية سوداء في دارفور وليست ضحية سمراء في المنطقة العربية. ولقد حان الوقت للتخلص من هذا العيب.فإذل لم يول العرب الأهمية والمشاركة الضرورية في انقاذ السودان من أزماته وعلى رأسها دارفور، لربما سقط السودان في مخالب الاستقطاب الإرهابي كما يدعو اليه أسامة بن لادن، أو في مخالب التقسيم. الاتحاد الافريقي يلعب دوراً مفيداً وقد كلّف رجلاً له خبرة وصدقية واحترام دولي، هو سالم أحمد سالم، هذا الملف. مفاوضات أبوجا للتوصل الى تسوية سياسية التي يقودها سالم مهمة جداً وضرورية، لكن التغيب العربي عن المساهمة الفعلية في الجهود الافريقية يوسّع الفجوة العربية - الافريقية، ويكسب العرب المزيد من الكراهية.إيران وجدت في أزمة السودان مدخلاً لها للمكابرة والتحدي الدولي تستغلها من أجل حسابات امتلاك القدرة النووية والزعامة والهيمنة على المنطقة العربية برمتها. لذلك لاقى الرئيس السوداني عمر البشير الاحتفاء الكبير في طهران هذا الأسبوع ليس فقط من الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وإنما على أيادي مرشد الجمهورية علي خمنئي. فأثناء استقباله البشير أكد خامنئي استعداد طهران لـ »نقل خبرة علمائها ومعرفتهم التقنية" الى دول أخرى صديقة فيما اعتبر البشير "نجاحات إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية السلمية نصراً كبيراً للعالم الإسلامي".حفاوة القيادة الإيرانية البالغة بالرئيس السوداني هي مؤشر على مدى العزل الذي تقع فيه إيران عالمياً، على رغم سيطرتها واستفادتها في العراق، فإيران في محور مع الأنظمة المعزولة، بل انها القائدة في محور العزل الذي يضم سورية وحكومة »حماس« في فلسطين، ولربما سيشمل حكومة البشير في السودان. صحيح أن الدول الأوروبية تحاول اقناع إيران بالامتثال لمطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتجتمع بها في هذا الإطار. وصحيح أن السياسة الأميركية المبعثرة ترحب بها في حوار محصور بالعراق وترفضه شاملاً، انما ايران تتصرف بدرجة من المكابرة والاستقواء والتحدي تفيد بأنها متوترة في عزلتها، وخائفة في صميمها، ومفرطة في مزاعمها المتعلقة بقدراتها النووية. ما يحميها ويجعلها تعتقد انها فوق المحاسبة في هذه المرحلة هو الموقف الروسي والصيني. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يتولى قيادة ملف ايران في مجلس الأمن، فيما تدير الصين ملف السودان، وكلاهما يلعب الأدوار المتبادلة والغامضة أحياناً في ملفي سورية ولبنان. لافروف تولى ملف العراق أثناء عقد العقوبات الشاملة عليه وأثناء العد العكسي الى الحرب الاميركية والبريطانية وهو ساهم في الإيحاء الى صدام حسين بأن روسيا لن تسمح بحرب عليه. ثم حدث ما حدث. وكما في العراق، كذلك في ايران، فلا روسيا ولا الصين ستدخلان طرفاً مع ايران في حال اتخذت الولايات المتحدة قراراً انفرادياً بعمل عسكري ضدها إذا فشلت المساعي الديبلوماسية. بل ان روسيا تساعد اسرائيل على مراقبة ايران وصواريخها ونشاطاتها النووية بإطلاقها هذا الاسبوع القمر الاصطناعي "ساتلايت" لصالح اسرائيل ليمكنها من التجسس على البرنامج النووي الايراني والصواريخ البعيدة المدى. لكن التصعيد الايراني واللجوء الى التدريب على الارهاب يجعلان مهمة روسيا والصين في حماية طهران من المحاسبة أكثر صعوبة. صحيفة »الشرق الأوسط« نقلت عن مصادر ايرانية موثوقة أن طهران »تحشد جماعات أصولية لمهاجمة مصالح اميركية في حال تعرضت لضربة عسكرية« وان لديها خطة مسماة بخطة »القيامة« تشمل احتمال استخدام القنابل الكيماوية والجرثومية في المراحل الأخيرة من أي مواجهة عسكرية.إضافة الى ذلك، وحسب الصحيفة، رسمت الاستخبارات الايرانية خطة شاملة تتضمن توجيه ضربات صاروخية مباشرة ضد القواعد الاميركية في الخليج والعراق، بالإضافة الى »تنفيذ عمليات انتحارية وتخريبية في 80 موقعاً في الدول العربية والاسلامية الصديقة للولايات المتحدة«. وتضيف الصحيفة ان الخطة الايرانية تعتمد على مساهمة مجموعات مسلحة عدة في العمليات ضد الولايات المتحدة، بما فيها "جيش المهدي" في العراق وتنظيم "الجهاد الاسلامي" في فلسطين و "حزب الله" في لبنان.هذه المعلومات يجب ان تقلق الدول الخليجية المجاورة لإيران أكثر مما تقلق الولايات المتحدة علماً أن ساحة الانتقام الايراني من الولايات المتحدة ستكون الساحة العربية وبخدمات تؤديها منظمات عربية ولاؤها لطهران، حتى وان كان على حساب بلادها. لذلك، على العرب، حكومات وشعوباً، ان يفكروا ملياً في الخيارات أمام التحديات الايرانية الرامية الى إرغام العالم على مباركة طموحاتها النووية لتحقيق زعامتها الاقليمية. فإذا وجد العرب في القنبلة النووية الايرانية خطراً عليهم، أقله لأن أحد أهداف امتلاكها هو اخضاع العرب، وامكان قيام محور ايراني - إسرائيلي نووي على رغم العداء بينهما اليوم، فليتصرفوا، وإذا وجد العرب بينهم من يسهل ويوفر وسائل الانتقام منهم في حال وقوع مواجهة ايرانية - اميركية بسبب الطموحات النووية الايرانية، يجب عليهم التفكير استراتيجياً في الوسائل المتاحة لقطع الطريق على الخطط المبيتة.ومن هنا تبرز أهمية تداخل الملفات المعنية بإيران، العراقية منها بالفلسطينية والسورية واللبنانية على السواء.روسيا والصين لن تساعدا الولايات المتحدة على الخروج من ورطة العراق لأن ادارة جورج دبليو بوش حفرت لنفسها الحفرة التي باتت لها مستنقعاً غير قادرة على الخروج منه. الصين وروسيا على اقتناع بأن جورج دبليو بوش لن يتخذ قرار الخروج من العراق، مهما كان، طبقاً لعناده الشهير بغض النظر عن منطق الحسابات. وعليه، هذه فرصة لهما لإبلاغ الدولة التي تكابرت وتعاظمت انها كانت دولة عظمى للحظة، وان الدول العظمى في التاريخ تتصرف الآن وتستعيد مكانتها بأي ثمن كان.فالرهان هو على ان جورج دبليو بوش ووزراءه لن يتوصلوا الى الاستنتاج الضروري بأن العظمة الاميركية ستتدهور على عناد هذه الحفنة الرافضة ان ترى كيف ان إبقاء القوات الاميركية في العراق يجعل مستحيلاً على الولايات المتحدة ان تفرض هيبتها وتتخذ القرارات. فطالما ان الجنود الاميركيين في العراق في مصيدة الانتقام الايراني: لا مجال للجرأة الاميركية المطلوبة في هذه الحقبة من النزاع على القيادة العالمية الذي تخوضه روسيا والصين معاً في وجه التفرد الاميركي بموقع العظمة. ولكن، وحسب المثل القائل »عندما تتصارع الدببة، يموت العشب«، ان المنطقة العربية هي العشب المرشح للموت، إذ ان ايران ترمي الى ان تدخل النادي الأكبر الى جانب اسرائيل وتركيا والذي يعلو على عشب العرب. نقلا عن صحيفة "الحياة" اللندنية
الخيارات العربية أمام التحديات الإيرانية
أخبار متعلقة