اللعبة العمياء لمشاريع الشوارع (2 ـ 2 )
واجهت الحركة الوطنية اليمنية أشكالاً متنوعة من التحديات في مختلف مراحل الكفاح ضد النظام الامامي والحكم الاستعماري الأنجلو سلاطيني ، ومن أجل ألحرية والاستقلال والوحدة . و في السياق ذاته واجهت الثورة اليمنية بعد انطلاقتها الظافرة في السادس والعشرين من سبتمبر 1962م والرابع عشر من أكتوبر 1963م تحديات خطيرة استهدفت إيقاف مسيرتها ، والقضاء على مكاسبها وفي مقدمتها النظام الجمهوري والاستقلال الوطني ، فيما واجهت الجمهورية اليمنية الموحدة منذ قيامها في الثاني والعشرين من مايو 1990م تحديات مختلفة من خلال الأزمات والمؤامرات التي استهدفت عرقلة مسيرة الوحدة والقضاء عليها .وعلى الدوام كانت الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية ــ ومازالت ــ تواجه تحديات التخلف والفقر والفساد ومصاعب النمو وضعف مستوى الثقافة السياسية ، وما يترتب على كل ذلك من اشكاليات وكوابح ترافق عملية بناء البيئة السياسية الديمقراطية التعددية، بما هي الاساس الموضوعي لتجفيف رواسب ثقافة الاستبداد ، وتعظيم الحقوق والحريات المدنية والتطور الديمقراطي التراكمي . لا نبالغ حين نقول إن التحديات التي تواجه النظام السياسي حاليا تتميزبكونها جديدة وغير مسبوقة ، بما تنطوي عليه من انبعاث تراكمي ومتصاعد لمشاريع صغيرة ولاتاريخية تستهدف تسويد التاريخ الوطني لشعبنا اليمني ، وتسفيه نضال حركته الوطنية المعاصرة ، وتصفية مكاسبها التي عمدها شعبنا بالدماء والتضحيات الجسيمة ، وصولاً الى التشكيك العلني بالهوية الوطنية اليمنية ، والدعوة الصريحة لإعادة الاعتبار لأوضاع ما قبل ثورتي 26 سبتمبر و 14 اكتوبر والاستقلال والوحدة ، والإمعان في نشر ثقافة الكراهية بين أبناء الوطن اليمني الواحد ،بما تنطوي عليه هذه الثقافة من مخاطر مريرة تنذر بالتمييز بين المواطنين على أساس الجينات الوراثية ، وتمهيد التربة لحروب وجرائم التطهير العرقي المعادية للإنسانية . وبوسعنا القول إن التحديات الراهنة تحت مسمى (الحراك الجنوبي ) تختلف عن كل التحديات التي واجهتها بلادنا منذ أربعينيات القرن الماضي ، الأمر الذي يستوجب التخلص من طرائق التفكير والعمل القديمة في التعامل مع هذه التحديات كشرط لقراءة المشهد السياسي الراهن ، وإعادة اكتشاف تناقضاته واشكالياته ، وتحديد نقاط التجاذبات والتقاطعات التي يمكن معالجتها بالحوار السياسي ، و رصد ومحاصرة نقاط التجاوز والاشتباك التي تدفع بالأوضاع السياسية نحو الزوايا الحادة . و لعل أخطر ما يميز التحديات الراهنة ويجعلها فريدة وغير مسبوقة هو ان التحديات السابقة كانت تستهدف ـــ في حدود وسقوف معينة ومتفاوتة ــ الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية . اما التحديات الناجمة عن ما يسمى ( الحراك الجنوبي ) فهي تستهدف تزييف الوعي وتشطير النفوس وطمس هوية الأرض وتدمير الوجدان الوطني للانسان . وحين يبدأ العدوان على التاريخ والجغرافيا والوعي الانساني ، يرتعش الزمن منذراً بولادة مصير تراجيدي للثورة والجمهورية والوحدة بعد ان يكون الخطر قد نال من تاريخها الذي يمنحها الشرعية ، والجغرافيا التي تعزز وجودها ، والانسان الذي يرفدها بقوة الاستمرار عبر نشاطه الواعي . من هذا المنطلق يتوجب الحذر وعدم الاستهانة بهذه التحديات الخطيرة ، والابتعاد عن تبسيط طريقة التعامل معها ، والتوجه الجاد نحو إعادة بناء البيئة السياسية التي نشآت على تربتها هذه التحديات، وصولاً الى العمل الدؤوب من أجل تصحيح الأخطاء التي مهدت لها ، وصياغة مهمات جديدة يتم انجازها بأدوات جديدة ، الأمر الذي يتطلب بالضرورة التعرف على هذه التحديات ، ومقاربتها بالمفاعيل الأساسية للمشاريع الصغيرة المدمرة التي تندرج ضمن ما يسمى ( الحراك الجنوبي) ، وتتجلى في خطابه السياسي والاعلامي ، وأهدافه المعلنة والوسائل المستخدمة لتحقيق تلك الاهداف ، وصولا الى القوى والتحالفات والمصالح المكونة لذلك الحراك ، والتي تغطي حقبا تاريخية مختلفة تنطوي على سجل ضخم من الصراعات والتجاوزات والتآمرات . والحال أننا نجد أنفسنا أمام تحديات غير مسبوقة شكلاً ومضموناً .. فالخطاب السياسي والاعلامي لذوي المشاريع الصغيرة في ما يسمى ( الحراك الجنوبي ) يتميز بالعدوانية والإفراط في التسفيه والتضليل واشاعة ثقافة الكراهية .. أما أهدافه المعلنة فقد تجاوزت كل السقوف والخطوط الحمراء. والأخطر من كل ذلك هو اعتماد قوى المشاريع الصغيرة على أدوات ديناميكية تتراوح بين استخدام وسائل التعبير والاحتجاج والحشد بالطرق السلمية التي تتماهى مع العنف حين تلجأ إلى تكتيك إستدراج قوى الأمن للاشتباك تمهيدا لفتح جولة جديدة من المواجهات الأمنية والسياسية والقانونية . أما القوى المحركة لهذه المشاريع الصغيرة والمدمرة فهي تتسع باستمرار وتمتد لتغطي مصالح واجندات سياسية متناقضة ،ولعل أخطر مايميز حركة هذه القوى هو تمددها عمودياً وأفقياً في مختلف البنى الإجتماعية الحديثة والتقليدية في الأرياف والمدن ، وخاصة في اوساط الجيل الذي ولد أو تفتح وعيه على الوحدة ولم يجد فيها ما يحقق له مصالحه ومتطلباته في الحياة الكريمة. تأسيساً على ذلك يتوجب إعادة صياغة وتجديد الخطاب السياسي و الاعلامي الوطني لمناهضة هذه المشاريع الصغيرة ، وصياغة مهام جديدة ونوعية ، مع مراعاة ان يكون ذلك جزءاً لايتجزأ من عملية سياسية متكاملة ، تأخذ مداها عبر حراك وطني شامل ، تشارك فيه مختلف هيئات الدولة المركزية والمحلية ، والمجتمع المدني ممثلاً بالأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات غير الحكومية التي تناهض هذه المشاريع العدمية ، وتعمل من أجل بناء وحدة قابلة للنمو والاستمرار في ظل دولة مدنية حديثة يسودها النظام والقانون . وما من شك في ان اعادة انتاج الخطاب السياسي القديم سواء على صعيد الادوات او المفردات لن تكون فاعلة وقادرة على الانجاز في مواجهة هذه المشاريع .. وبالقدر نفسه فان أي توجه لإعادة صياغة الخطاب السياسي والاعلامي الوطني وتجديد ادواته ومهامه ، لن يكون فاعلاً بالضرورة مالم يكن مكملاً لعملية سياسية معززة بمشروع وطني ديمقراطي ، يستهدف تصحيح كافة الاختلالات والممارسات الخاطئة التي أساءت الى صورة ومعاني الوحدة ، ومعالجة كافة الظواهر السلبية التي تشوه البيئة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتعليمية ، وتتعارض مع اهداف الثورة اليمنية والنظام الجمهوري والدستور والقوانين المنظمة للعمل السياسي والاعلامي والتربوي والتعليمي ، بما تنطوي عليه من مخاطر عديدة تهدد السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية ،وتروج للعقائد والمفاهيم التي تنكر حقيقة الوطن وتضعف الشعور بالانتماء الوطني . إن قوة وفعالية الخطاب الاعلامي الوطني الجديد بمهامه وادواته ومفرداته لايمكن ان تتحقق بشكل فعال ، اذا لم يسندها حراك سياسي وطني على أرض الواقع بهدف اصلاح الاختلالات التي تغذي المشاريع الصغيرة لما يسمى ( الحراك الجنوبي ). وهو ما يستوجب بلورة رؤية متكاملة للآثار السلبية الناجمة عن حرب صيف 94م وسبل معالجتها، بدلاً من التعاطي معها بخطاب استهلاكي سطحي وعمومي على نحو ماهو حاصل الآن ، وصولا الى صياغة مهام تنفيذية في ضوء الرؤية التي سيتم بلورتها لمعالجة آثار حرب 1994م ، ووقف وتصحيح الممارسات الخاطئة باسم الوحدة والتي تسيىء اليها وتشوه معانيها ، و مواجهة الأفكار والتوجهات والمشاريع السياسية التي تحرض على العودة الى ماقبل الثورة والوحدة من خلال التصدي للدعوات الرجعية التي تستهدف مصادرة وتصفية الحقوق التي تحققت للنساء بعد قيام الثورة اليمنية ( 26 سبتمبر - 14 اكتوبر )، والعمل الدؤوب من أجل تنفيذ تعهدات البرنامج الانتخابي لفخامة رئيس الجمهورية بحماية المكاسب والحقوق التي تحققت للمرأة بعد قيام الثورة اليمنية ، وإزالة كل أشكال التمييز ضد النساء وتعديل النصوص القانونية المسيئة لكرامة المرأة والطفل والتي أدخلها حزب التجمع اليمني للاصلاح على بعض القوانين ، أثناء مشاركته في الحكم بعد حرب صيف 1994 كجزء من استحقاقاته غير المشروعة في تلك الحرب المشؤومة .في هذا السياق يتوجب دعم وتفعيل الحكم المحلي في كافة المحافظات بما فيها المحافظات الجنوبية والشرقية ووقف تدخل القوى المتنفذة في شؤون الحكم المحلي لأي محافظة من خارجها ، وتنشيط وتفعيل لجنة مكافحة الظواهر السلبية التي تضر بالسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية وتحويلها من لجنة استشارية الى جهاز فعال للرقابة السياسية على مستوى تنفيذ المعالجات المطلوبة . من المتفق عليه ان الوحدة ارتبطت بالديمقراطية التعددية والنظام الجمهوري . ومن الوهم أن يراهن المدافعون عن الوحدة على القوى التي تنشط في المجتمع المدني والسياسي ضد الديمقراطية والنظام الجمهوري سواء من خلال تكفير الديمقراطية والانتخاابات ، أو من خلال الدعوة الى التراجع عن النظام الجمهوري وإحياء نظام الخلافة أو الامامة . ومن المهم أن يعلم الجميع خطورة السكوت والتهاون إزاء الجماعات التي تدعو علنا ـــ وبدعم من بعض مراكز القوى المتنفذة في الدولة ـــ الى إعادة نظام الخلافة والامامة ، وتعمل على تسويق الفكر التكفيري الذي يعتبر الديمقراطية والانتخابات كفرا وضلالا ً ، وتنشط في مجال تضليل الشبان والصبيان وتربيتهم بروح معاداة القيم الوطنية والديمقراطية.والثابت ان تكفير الديمقراطية وإنكار حقيقة الوطن اليمني وضرورة الولاء لهذا الوطن بذريعة أن انتماء المسلم لعقيدته وان دار الاسلام هو وطنه الحقيقي ، يعد خروجا عن الثوابت الوطنية والدستورية ، وتحريضا مباشرا للانقلاب على الوحدة والديمقراطية ، ودعوة غير مقبولة للعودة الى ما قبل الثورة والجمهورية والوحدة . وهو خطر لايمكن السكوت أو التهاون أمامه ، شأنه في ذلك شأن خطر المشاريع الصغيرة التي تدعو الى التراجع عن الوحدة ، وتحرض على نشر ثقافة الكراهية بين صفوف أبناء الوطن الواحد . وبالنظر الى إمعان القوى الناشطة في إطار ما يسمى ( الحراك الجنوبي ) على رفع شعارات انعزالية وتسويق مفاهيم محرضة على الكراهية ، ينبغي الاعتراف بأن مفاعيل هذا الحراك تستمد وجودها من حالة الفراغ السياسي الموجود في المحافظات الجنوبية ، الأمر الذي يستدعي إطلاق حراك سياسي وجماهيري وطني بدعم من المجتمع المدني .ولاريب في أن التنفيذ الفوري لتوجيهات فخامة رئيس الجمهورية بشأن قضايا الأراضي في المحافظات الجنوبية ، ووضع حد حاسم لمحاولة الالتفاف عليها من قبل المتنفذين العسكريين والمدنيين في هذه المحافظات ، وبالذات محافظة عدن ، يحتلان أهمية حيوية لدعم التوجهات الرئاسية الرامية الى معالجة الظواهر السلبية التي تضر بالسلام الاجتماعي والوحدة الوطنية ، بما في ذلك ضرورة دعم النجاح الذي تحقق في محافظة أبين على صعيد تصفية بؤر التطرف والتخريب والارهاب ، وما يترتب على ذلك من وجوب مساعدة السلطة المحلية المنتخبة في محافظتي عدن وأبين ، وتمكينها من أن تلعب دورا محوريا في معالجة قضايا الأراضي المنهوبة ، وحماية أراضي الدولة والملكية العامة كشرط لتحريك عجلة الاستثمار التي توقفت بسبب استيلاء المتنفذين العسكريين والقبليين على الأراضي بهدف المضاربة بها وبيعها على المستثمرين بأسعار خيالية ، الأمر الذي أفقد قانون تشجيع الاستثمار الحوافز التي تجتذب الاستثمارات الداخلية والخارجية من خلال تقديم الأرض مجانا للاستثمارات التي تخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، وتسهم في توفير فرص العمل للشباب . ويبقى القول ان واجب حماية الوحدة يرتبط ارتباطا ً وثيقا ، برعاية جيل الوحدة ومعالجة المشاكل التي يعانيها شباب هذا الجيل من الجنسين وتحقيق أكبر قدر من المصالح التي تحفزه على التمسك بالوحدة والدفاع عن مكاسبها بعد ان تغدو جزءاً لايتجزأ من حياته . وبالقدر ذاته فان حماية الوحدة لا تنفصل عن إبداع الصيغ الواقعية لادارة شؤون الحكم في مختلف المجالات ، بما يسهم في تحويل الوحدة الى اطار جامع بين شركاء في الوطن على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات والمصالح والمصير.[c1]--------------------------------* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]