حسين جلعادظلت موسيقى الشعر العربي بأوزانه وعروضه تقود الذائقة الشفاهية في تلقي نشيدها أو الإعراض عنه عصورا طويلة، وحين وصلت طلائع الحداثة لتستوطن الثقافة العربية، انتبه كثير من المجددين الى ما سمّاه أدونيس “الثورة الكوبرنيكية” في علم الإيقاع العربي، وطفق كثير من المنظّرين يوسعون فهمهم لتلك الثورة الإيقاعية أفقيا وعموديا على هدي تحولات اللغة الشعرية الحداثية، حتى أن البعض استخدم مناهجه بأثر رجعي منسحبا الى تراث اللغة العربية بكامل رعويتها وقداستها مرورا بعصور الأمويين والعباسيين وكتّاب السلاطين، متكئين على محيي الدين بن عربي الذي قال مرة: “السماع اذا لم يوجِد في الإيقاع غيرَ الإيقاع، لا يُعوَّل عليه”. “فلسفة الايقاع في الشعر العربي” للباحث والشاعر البحريني علوي الهاشمي والصادر حديثا عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، هو من احدث الأبحاث التي تمنح الإيقاع أهمية قصوى نظرا الى ما له من أهمية بالغة وأثر حاسم في التفريق بين ما هو شعري وغير شعري، وتطمح الدراسة الى التموضع بوصفها تأملا فلسفيا لإبراز بعدين مختلفين للإيقاع احدهما “ميتافيزيقي” والآخر “فيزيائي”، الأمر الذي يعتبره الأكاديمي كمال ابو ديب في تقديمه للكتاب “تمييزا فذّا في فضاءات الدراسات العربية، بل وقلّ ما يماثله تمييزا في الدراسات الغربية للإيقاع”.يجعل الهاشمي كتابه اربعة فصول يسبقها بمقدمتين نظريتين، فيما تتسع حيثيات الفصول ومتونها الى مناقشة مجمل التعريفات الأكاديمية السابقة لموضوع البحث، مرورا بإنتاج اكاديمين كبار في نظر المؤلف، ثم يدعم التأملات النظرية بتطبيقات تفصيلية يجتهد الباحث في استخلاص نتائجها عبر مقايسته الخاصة، فيفرد الفصل الأول لمناقشة ما يسمّيه “جدلية السكون المتحرك” تحت عنوان “مدخل الى فلسفة بنية الايقاع في الشعر العربي”، فيما يتطرق الثاني الى “النص الشعري الجديد في أبعاده التواصلية ايقاعيا”، ويجيء الثالث بعنوان “وقفات نقدية في مسألة الايقاع الشعري”. ويفرد الباحث فصله الرابع والأخير لدراسة تطبيقية بعنوان “كيف يبني شاعر الظل عالمه الشعري ايقاعيا؟”، يتناول فيها تجربة شاعر متوار هو السعودي علي بافقيه الذي لم يكن اصدر ديوانه الأول حتى عام 1993 وكان حينذاك قد بلغ من العمر نحو ستة واربعين عاما، ومع ذلك يسوغ الهاشمي احتفاءه بشاعره بالقول ان كتابة الشعر مسؤولية ثقافية، وإن شعراء الكتابة في الظل نجوا من إغواء الشهرة السهلة وشهوة الانتشار الإعلامي الرخيص، فأصبحت قلة إنتاجهم سببا في تميز شعرهم بملامح فنية خاصة جديرة بالدرس، وصالحة لتكون موضوع تحقيق في قضايا الجودة!ينطلق الهاشمي في تنظيره لتصور ميتافيزيقي حول الايقاع من تعريف تتفق عليه غالبية الباحثين وهو أن “مفهوم الايقاع يتصل أساسا بعنصر الزمن في ديمومته التي لا تعرف الانقطاع وفي اتصاله وصيرورته ولا نهائيته، انه النهر الخالد الذي لا منبع له ولا مصب، او الدائرة التي لا اول لمحيطها ولا آخر”. ويسوق الهاشمي في سعيه لتحديد ماهية الايقاع تعريف إليزابيث درو في أن “الوزن ليس الا عنصرا واحدا من عناصر الايقاع”، حيث أن “نقرة الوزن المنتظمة بالنسبة الى الشاعر الحاذق هي الأساس او القاعدة الحاذقة التي يتباعد عنها ثم يعود اليها، وهي عنصر اكبر حركة، وتلك الحركة هي الايقاع، والإيقاع يعني التدفق، او الانسياب، وهذا يعتمد على المعنى اكثر مما يعتمد على الوزن، وعلى الإحساس أكثر من التفعيلات”.واستنباطا من ذلك يبحث الهاشمي في أهم خصائص الايقاع بالقياس الى الوزن، فيرى أن أولى خصائصه أنه خط رأسي يسقط من أعلى النص الشعري حتى اسفله متقاطعا مع كل خطوطه الأفقية في نقطة ارتكاز محورية اي الوزن في هذه الحالة، غير ان الايقاع يظل “عنصرا خفيا لا يبين الا من خلال جسد النص بأكمله”. وتتمثل خاصية الايقاع الثانية بكونه خفيا لا يبين الا في تمظهره الصوتي، اما ثالثة خصائصه فهي شموليته التي تتصل بانسرابه في بقية خطوط القصيدة وعناصرها “مما يحيلها على مستويات إيقاعية تتجمع في شكل انساق او وحدات خاضعة لايقاع طبيعتها الخاص ولايقاع النص العام معا”، فيما تكمن خاصية الايقاع الرابعة في خضوعه لعنصر الزمن وإخضاعه له في الوقت نفسه “بتقسيمه وحدات متساوية أو متآلفة أو متضادة أو متكررة تتضح في جميع تمظهراته الإيقاعية الممتدة بين الصوت الصريح وزناً ولغة وبين الصوت المتخفي”. اما خامس خصائص الايقاع، فخضوعه ولو مؤقتا لقانون المادة وعناصرها، “حيث لا يتجسد الا من خلال آلة او مادة خام موسيقية او لغوية أو تشكيلية او بدنية او حتى طبيعية حيث الأصل”.رغم ما قد يتبادر إلى الذهن في أن الكتاب محض تنظير أكاديمي لقضايا بالغة التخصص والتعقيد، الا أن الباحث يفرد في فصليه الثاني والثالث محاور واسعة للمناقشة، سواء على المستوى الأكاديمي او على المستوى الثقافي المهتم بشؤون تطورات الشعر العربي وخصوصا في أكثر أشكاله حداثة اي قصيدة النثر، لجهة بحث أسس تلقيها عبر ذائقة سماعية، وذلك انطلاقا من حضور الباحث لأحد المهرجانات الشعرية العربية في مدينة القاهرة، حيث رصد علاقة الجمهور بنوع القصيدة وشكلها في ذلك المهرجان، إذ تصدرت قصيدة النثر واجهة القراءات. ويركز البحث على الجانب التواصلي لهذه القصيدة بناء على الفرضيات العامة للبحث في الايقاع وإشكالاته. كما يقترح جملة من المعايير يرى فيها مقترحات عملية تتعلق بإيقاع الشعر العربي الراهن والقديم، منها ما يتصل بمصطلحات ما يسميه علم إيقاع الشعر الحديث، وكذلك إعداد موسوعة لايقاع الشعر العربي، إضافة الى استخلاص تجارب الشعر العربي في جداول إيقاعية علمية، وفقا لمقترحاته. يشار أخيرا الى أن الناقد والشاعر السوري المقيم في لندن كمال ابو ديب يعلي في تقديمه من شأن جهود الهاشمي، فيذهب الى أن “هذه الأبحاث تستحق أن توضع في مرتبة عالية من مراتب الأبحاث الفكرية والمنهجية والنقدية التي حققتها الحداثة العربية في مشروعها الطموح - المتعثر خلال نصف القرن الغابر، وفي موقع هو أجمل وعدا بمستقبل أقل حلكة، من التطلعات التي لا تزال - رغم كل الانكسارات التي تزدحم بها حياتنا - تجمع بالمبدعين الاصلاء، بيننا وتشد أحداقهم الى ذرى قد تكون ثمة وقد لا تكون”.
|
ثقافة
فلسفة الإيقاع في الشعر العربي
أخبار متعلقة