من ذاكرة رمضان
مرت بالمسلمين في تاريخهم فترات من الضعف والفرقة والشتات ، كثرت فيها الخلافات وتعدّدت فيها الرايات ، وتمزقوا شر ممزق حتى طمع فيهم أعداؤهم ، ومن رحمة الله بهذه الأمة أن قيّض لها بين الفينة والأخرى رجالاً يذودون عن حماها ويعيدون لها هيبتها وكرامتها ، ومن هؤلاء الملك العادل نور الدين محمود زنكي المشهور بـ نور الدين الشهيد الذي عرف بعدله وتقواه وورعه وعبادته وحبه للجهاد .وكان نور الدين قد انهزم من الفرنجة في سنة 558 هـ في المعركة التي عُرفت بـ “ البقيعة “ ، وسببها أنه رحمه الله جمع عساكره ودخل بلاد الفرنجة ونزل في “ البقيعة “ تحت حصن الأكراد محاصرًا له ، عازماً على قصد طرابلس ومحاصرتها ، فاتفق الفرنجة على مباغتة المسلمين نهاراً وهم آمنون ، وبينما الناس في خيامهم وسط النهار لم يرُعْهم إلا ظهور الفرنجة من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد ، فأراد المسلمون منعهم فلم يطيقوا ذلك ، فأرسلوا إلى نور الدين يُعِلمونه بما حصل ويطلبون منه النجدة ، إلا أن مباغتة الفرنجة لهم حالت دون أخذ العدة والاستعداد للقائهم ، فهجم عليهم الفرنح قبل أن يتمكنوا من ركوب الخيل أو أخذ السلاح ، وأكثروا فيهم القتل والأسر ، واستطاع نور الدين أن ينجو بنفسه على فرسه حتى نزل على بحيرة “ قدس “ بالقرب من حمص في موضع يبعد أربعة فراسخ عن مكان المعركة ، ولحق به من سلم من الجند حتى اجتمعوا به وكان مما قاله له بعضهم : « ليس من الرأي أن تقيم هاهنا ، فإن الفرنجة ربما حملهم الطمع على المجيء إلينا فنؤخذ ونحن على هذه الحال ، فقال لهم : “ إذا كان معي ألف فارس لقيتهم ولا أبالي بهم ، ووالله لا أستظل بسقف حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام « .وكان الفرنجة قد عزموا على التوجه إلى حمص بعد انتصارهم ، لأنها كانت أقرب البلاد إليهم ، ولما بلغهم نزول نور الدين بينها وبينهم قالوا : لم يفعل هذا إلا وعنده قوة يمنعنا بها ، فراسلوه يطلبون منه الصلح فلم يجبهم ، وتركوا عند حصن الأكراد من يحميه وعادوا إلى بلادهم . وقبيل المعركة انفرد نور الدين بنفسه تحت تل “ حارم “ ، وسجد لله ومرَّغ وجهه وتضرع وقال : “ يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك ، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك ، فانصر أولياءك على أعدائك “ ..... “ أيش فضول محمود في الوسط “ وهو يعني أنك إن نصرتنا فدينك نصرت فلا تمنع النصر عن المسلمين بسببي ، ثم قال : “ اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً ، من محمود الكلب حتى يُنصر “ ؟! . وبدأ القتال والتحمت الصفوف ، فهجم الفرنجة في البداية على ميمنة الجيش الإسلامي حتى تراجعت الميمنة وبدا وكأنها انهزمت ، وكانت تلك خطة من قبل المسلمين اتُّفِق عليها لكي يلحق فرسان الفرنجة فلول الميمنة ، ومن ثم تنقطع الصلة بينهم وبين المشاة من قواتهم ، فيتفرغ المسلمون للقضاء على المشاة ، فإذا رجع الفرسان لم يجدوا أحداً من المشاة الذي كانوا يحمون ظهورهم . وبهذه الخطة أحاط بهم المسلمون من كل جانب ، وألحقوا بهم هزيمة مدوية ، وخسائر فادحة قُدِّرت بعشرة آلاف قتيل ، ومثل هذا العدد أو أكثر من الأسرى ، وكان من بين الأسرى أمير “ أنطاكية “ ، وأمير “ طرابلس “ ، وحاكم “ قيليقية “ البيزنطي ، وقد أسر جميع الأمراء عدا أمير “ الأرمن “. وفي اليوم التالي استولى نور الدين على “ حارم “ بعد أن أجلى الفرنجة عنها ، وكان ذلك فتحاً كبيراً ، ونصراً مبيناً أعاد للمسلمين الهيبة في قلوب أعدائهم ، وأعز الله جنده وأولياءه في هذا الشهر المبارك .