في الشهر الماضي أصابت سلطنة عمان كارثة طبيعية مدمرة أثارت قلقا كبيرا لدى محبي هذا البلد المنكوب ، كما أثارت في الوقت نفسه قلقا مماثلا لدى جيران عمان الذين تملكهم الخوف من شبح زيارة ثقيلة الظل لهذا الضيف غير المرغوب فيه . بيد أن كل من تابع تداعيات هذا الإعصار الذي وصل الى عدد من مدن عمان الساحلية وفي مقدمتها العاصمة العمانية مسقط أصابتهم دهشة ذات وجهين ليس من حجم الخسارة المهولة التي تكبدتها عمان الحديثة من جراء هذه الكارثة ، بل ومن الطريقة النموذجية غير المسبوقة التي تعاملت بها عمان حكومة وشعبا مع هذا المصاب .رفض العمانيون في سابقة لا مثيل لها في التاريخ الحديث قبول أي مساعدات خارجية للتخفيف من آثار هذه الكارثة الرهيبة ، فيما لا زالت حية في الذاكرة مشاهد كارثية مماثلة تسابقت فيها دول العالم الكبرى والغنية ومنظمات الإغاثة الدولية لمساعدة البلدان التي أصابتها كوارث طبيعية مدمرة وآخرها الولايات المتحدة الأميركية وإيران واندنوسيا وسيرلانكا ، حيث فتحت هذه البلدان موانئها الجوية والبحرية لتلقي المساعدات الخارجية ، فيما انفرد العمانيون بموقف نادر المثال برفضهم قبول أي مساعدات خارجية والمضي في الإعتماد على النفس لمواجهة تلك الكارثة الطبيعية المدمرة ، على الرغم من أن ثمة دولا كثيرة ــ من بينها اليمن ــ كانت ترغب في رد الجميل لهذا البلد الذي لم يتردد في أوقات سابقة وعصيبة عن تقديم العون والغوث والمساعدة لكل شقيق وصديق . بوسعي القول إن الذين يعرفون عمان جيدا ً وأتيحت لهم فرصة قراءة مشهد النهضة العصرية العمانية ومنجزاتها على الواقع ، لن يعجزوا عن فهم وإدراك مفاعيل الصمود الإبداعي الذي اجترحه العمانيون وهم يواجهون مخاطر تلك الكارثة العصيبة . قبل أن يضرب الإعصار غونو عددا من المدن العمانية المنكوبة وعلى رأسها العاصمة مسقط استعد العمانيون جيدا لاستقبال هذا المصاب وخططوا لتحويله الى أزمة عابرة يتم إدارتها بآليات جديدة وفاعلة تجسد ميكانزمات الدولة العصرية والمجتمع المدني المتحضر في هذا البلد الذي يشق طريقه نحو ذرى التقدم والحداثة والتجدد الحضاري . وبعد ان فرغوا من إدارة هذه الأزمة والتصدي لتداعيات إعصار غونو المدمر اتجه العمانيون لإحصاء قتلاهم وخسائرهم والشروع في تضميد ومعافاة جراحهم .ضرب الاعصار المدمر بقوة الأراضي العمانية مصحوبا برياح عاتية وأمواج بحرية بلغ إرتفاعها 14 مترا . وتسبب بهطول امطار غزيرة فوق العاصمة مسقط ، كما تسبب أيضا ً في مصرع نحو 80 شخصا ، واقتلاع العديد من الأشجار وغرق عدد من الشوارع وإلحاق أضرار بالغة بمئات المباني والمنازل والآليات والمركبات . كما أدت الرياح والامطار العزيرة التي رافقت الاعصار الى انقطاع التيار الكهربائي و المياه في معظم مناطق سلطنة عمان ، حيث اغلقت السلطات العمانية مطار العاصمة مسقط وميناء صحار، بعد ان تم إجلاء 11 ألف شخصا يعملون في ذلك الميناء الاستراتيجي، وحوالي 20 الف شخص تم اجلاؤهم عن المناطق الساحلية قبل وصول الاعصار ومن بينهم سكان جزيرة مصيرة العمانية ، فيما تم اخلاء المدارس والمباني الحكومية لايواء المرحلين. صحيح ان حجم الخسائر كبيرجدا بمقياس حاجة المجتمع العماني لكل إنسان لقي مصرعه ولكل حجر او شجر تهدم بفعل هذا الإعصار المدمر ، لكن الخسارة تعد قليلة جدا بمقياس قوة الإعصار الذي كان سيلحق بهذا البلد الجميل والطيب خسائر بشرية ومادية مهولة لولا الاستعداد المسبق لمواجهة الكارثة ، والادارة العلمية الناجحة لمعالجة تداعياتها .ومن المثير للدهشة أن مستوى الإعصار من حيث ارتفاع أمواج البحر وسرعة الرياح العاتية والمدمرة يقترب قليلا ً من مستوى إعصار كاترينا وتسونامي اللذين أصابا السواحل الغربية للولايات المتحدة الأميركية والسواحل الجنوبية الشرقية لإندونيسيا في وقت سابق من عام 2005 وعام 2006 . وقد تعرضت الإدارة الأميركية والحكومة الإندنوسية للنقد من الرأي العام والمنظمات غير الحكومية بسبب تقصيرهما في الاستعداد للكارثة أو مواجهتها والتعامل مع تداعياتها ونتائجها التي كانت مروعة ، على عكس الخسائر المحدودة التي تكبدتها عمان جراء هذا الإعصار الذي تعامل معه العمانيون بنجاح منقطع النظير وبدون أية مساعدات خارجية! اللافت للنظر ان الحكومة العمانية تعاملت مع هذه الكارثة بشفافية وكفاءة قبل وبعد وقوعها ، حيث كان العمانيون رجالا ونساء ومن مختلف الأجيال والأعمار والفئات في قلب المشهد الذي يشير إلى ثقافة حداثية في مجالي القيادة والمشاركة بمعنى أن القيادة العلمية العصرية للدولة والمجتمع في عمان الحديثة وفرت حضورا ً واسعا للمشاركة والفعالية والإنجاز ، حيث لا وجود للمفاهيم والتقاليد والعادات والقيود التي تكرس التمييز ضد المرأة بما هي نصف المجتمع وتجميد قدراتها ، وتغيببها عن الحياة العامة ،ناهيك عن قوة سلطة القانون وغياب مظاهر الترف والتعالي والاسراف التي تبدد طاقات وموارد المجتمع وتسخرها لخدمة مصالح وفئات طفيلية على حساب حقوق المجتمع في التنمية العصرية وحقوق الأجيال في حياة آمنة ومزدهرة كما هو الحال في العديد من البلدان النامية.الثابت ان المجتمع العماني الذي يشهد منذ أكثر من ثلاثة عقود نهضة عصرية متعددة الأبعاد نجح في القضاء على العديد من مظاهر ومعوقات وقيم التخلف بما هي ثقافة معيقة للتقدم والنمو ، حيث يخطئ من يعتقد بأن تجاوز فجوة التخلف مرهون فقط بإدخال تغييرات شكلية على البنى المادية دون المساس بالبنى الثقافية التي تفرغ التحولات من مضمونها، وتحول دون الاندماج في الحضارة الحديثة واستيعاب منجزاتها قيمها وأدواتها .من حق البعض أن يختلف مع كاتب هذه السطور في قراءة مشهد الكارثة الطبيعية التي أصابت عمان الشقيق لجهة دور الثقافة السائدة في دعم الخطط والجهود التي إجترحها .العمانيون حكومة وشعبا في تحويل إعصار غونو من كارثة طبيعية مدمرة الى أزمة عابرة تتطلب إسلوبا علميا وإبداعيا في إدارتها أكثر مما تتطلبه من إعانات ومساعدات وإغاثات خارجية على النحو التقليدي الذي تستخدمه دول عديدة في التعامل مع الكوارث الطبيعية المدمرة .ومن حق كاتب هذه السطور في الوقت نفسه أن يرى دورا إيجابيا للمفاعيل الثقافية التي تسهم في تسريع وتحصين إنجازات وتحولات النهضة العصرية في عمان الجديدة ، حيث يمكن إعتبار نجاح العمانيين في مواجهة هذه الكارثة بالإعتماد على الذات رصيدا إضافيا لهذه النهضة واحد إفرازاتها .قبل عامين ــ وتحديدا في خريف عام 2005 ــ كنت في عمان للمشاركة في مناسبة وطنية هي الوحيدة التي يشارك فيها السلطان قابوس بن سعيد سلطان عمان ، ويلقي فيها خطابه الوحيد كل عام . ولفت نظري عدد من الظواهر المثيرة للتأمل . فقد جاء خطاب السلطان خاليا من أي إشارة للإنجازات التي تحققت في عمان خلال الفترة بين خطابه السنوي السابق وخطابه الذي كان يلقيه في ذلك العام ، بينما ركز الخطاب على ما عجزت الدولة عن إنجازه مضيفا ً اليه عددا ً من النواقص التي يعاني منها المجتمع العماني في مجالات مختلفة ، بحيث تصبح هذه النواقص والسلبيات القديمة والجديدة متطلبات حيوية وعاجلة ينبغي العمل على إنجازها . أما الإيجابيات والإنجازات فقد أصبحت واقعا ُ ملموسا يحتاج الى عمل متواصل للمحافظة عليه وصيانته ولايحتاج الى مزيد من إهدار الوقت والجهد للحديث عنه والإنشغال به على حساب القضايا الملحة .!!استرعى انتباهي أيضا إختفاء المظاهر الإستعراضية، وغياب المجاميع المدججة بالسيارات الفارهة والاسلحة العنترية التي لا ترافق المسؤولين العمانيين كالوزراء وأعضاء مجلس الشورى والمجلس الوطني وشيوخ القبائل حيث يقومون هؤلاء - وهم من كبار القوم في الدولة والمجتمع - بقيادة سياراتهم بأنفسهم وبدون مرافقين، ويحترمون أنظمة المرور ويخضعون للمخالفات التي يسجلها ضد المخالفين منهم رجال المرور ، حيث يتوجب عليهم مراجعة محكمة المرور بأنفسهم لدفع الغرامات المستحقة عليهم بدون إرسال من ينوب عنهم !!على الصعيد الإجتماعي يلاحظ الزائر لعمان الجديدة حضورا قويا للمرأة في كل المجالات ، فيما ينخرط العمانيون في حركة نقاش واسعة حول قضايا تتعلق بالعلم والمستقبل بعيدا عن الإنشغال بثقافة الخرافات التي تركز على الثعبان الأقرع وطريقة دخول الحمام ، وتسرف في تحقير المرأة و تشبيهها بالغربان والكلاب السوداء ، وصولا ً الى الهروب من واجبات الدولة والمجتمع في حماية حقوق الانسان وتوفير شروط الحياة الكريمة له ، الى الإفراط في الحديث عن الموت وعذاب القبر وظهور علامات قيام الساعة وقصص الإنس والجان والعلاج ببول الإبل !!وبوسع كل من يزور عمان ويتعرف عن قرب على مختلف مظاهر النهضة العصرية في عمان ، ملاحظة الحضور الملموس والواسع للمرأة في تشكيلة مجلس الوزراء ومجلس الدولة ومجلس الشورى والأجهزة الحكومية والشركات العامة والخاصة ومختلف مواقع العمل والدراسة والإدارة والتجارة والإنتاج والنشاط الرياضي والاجتماعي إلى جانب الرجل ، في جو تسوده قيم المساواة الانسانية التي تجد تجسيدا ً لها في حرص العمانيين على تأنيث نسب المرأة العمانية الى قبيلتها بصورة غير مسبوقة و لا مثيل لها في أي بلد عربي او اسلامي ، حيث يتم تأنيث الصفة القبلية للمرأة بدلا من تذكيرها ، بمعنى ان العمانيين بفضل نهضتهم العصرية يعارضون تذكير نسب المرأة الذي يشير إلى إلحاقها بالمجتمع الذكوري ، بدلاً من الاعتراف بأنّ الله خلق الذكر والانثى من نفس واحدة على حدٍ سواء .وفي العام الماضي 2006 أتيحت لي فرصة زيارة عمان مرة أخرى مصحوبة باتساع نطاق اللقاءات مع عدد كبير من المسؤولين والناشطات من النساء في الشأن العام ورجال الأعمال والمثقفين والأكاديميين .وأثار انتباهي هذه المرة أن ما يشغل العمانيين ليس " عذاب القبر والتداوي ببول الإبل وظهور علامات قيام الساعة وضرورة حبس المرأة في البيت ووجوب عدم التشاور معها والحرص على مخالفتها لأن في خلافها بركة " ، بقدر ما يشغلهم الحديث عن العولمة بصفتها إحدى حقائق العالم المعاصر ، وتحديات الإندماج في الحضارة الحديثة التي دخلت حقبة تاريخية جديدة تنطوي على تناقضات وإشكاليات معقدة في مسار الفتوحات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والمعرفية .حيث يتفق الكثير من العمانيين على خطورة تجاهل الميول الموضوعية للعولمة ، وخطأ الاعتقاد بإمكانية إغلاق الأبواب امام رياح التحولات والمتغيرات التي تحدث بفعل تعاظم منجزات الثورة الصناعية ، وبناء ستار حديدي يحول دون وصول هذه الرياح إلى مجتمعاتنا التي تدفع بسبب عزلتها الطويلة عن العصر وانقطاعها عن ميدان إبداع الحضارة، فواتير إرث التخلف والأمية والجهل.ولعل أكثر ما أدهشني كلام سمعته على لسان مسؤولين بارزين في الحكومة العمانية أوضحوا فيه حاجة البلدان العربية والإسلامية للتعامل مع العولمة ، والانفتاح على إنجازاتها وتحولاتها في مجالات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد والتجارة والإدارة ، مع التحذير من خطورة إدارة الظهر لها، والإقامة الدائمة في الماضي ، والعودة إلى نمط حياة الأسلاف القائمة على أدوات الإنتاج والاستهلاك التقليدية التي ارتبطت باقتصاد النخيل والإبل، وثقافة القراءة الشفهية في الكتاتيب وزوايا الجوامع.أينما يذهب المرء في عمان لا يجد أثرا للثقافة المتكلسة التي تجره الى الماضي وتعزله عن العصر وهمومه وتحدياته ، الأمر الذي يؤهل المجتمع العماني تحت تأثير الثقافة الجديدة ، بما هي نتاج المزج الخلاق بين الأصالة والمعاصرة ، للتفاعل مع الأسئلة التي تطرح أمام العقل العربي والإسلامي ــ وليس أمام النقل السلفي ــ تحديات البحث عن صيغ متوازنة تضمن ما يسميه العمانيون إنفتاحا ً آمنا ً على أدوات العولمة وقيمها المتغيرة، وصولاً إلى المزاوجة بينها من جهة ، وبين ثوابت الهوية والخصوصية من جهة أخرى، بما يحقق للهوية والخصوصية تجددا ً متناميا ًً يسقي جذورها بماء الحياة المستديمة، ويغذيها بمقومات النماء والبقاء، ويدرأ عنها مخاطر الجفاف والتيبس والذبول. تأسيسا على ذلك يمكن القول ان الطريقة الرائعة وغير المسبوقة التي أدار فيها العمانيون معركتهم مع إعصار غونو قدمت دليلا إضافيا على فاعلية ودينامكية النهضة العصرية التي تجري في عمان منذ أكثر من ثلاثة عقود ، لأن ما جرى من تميز ونجاح غير مسبوقين في معركة مواجهة الإعصار على نحو أثار دهشة العالم ، لا يمكن فصلهما عن ما جرى ويجري في عمان على صعيد بناء الدولة العصرية ، وتحديث المجتمع والاقتصاد والعمران والثقافة والوعي ، كشرط لمواصلة مسيرة النهضة والانطلاق صوب آفاق الحداثة والبناء والتقدم .[c1]* نقلا عن / صحيفة " 26 سبتمبر "[/c]
|
فكر
الدولة العصرية في عمان تجتاز اختبار " غونو " بنجاح
أخبار متعلقة