حفرت كل من إسرائيل و«حماس» مأزقاً لنفسها وللآخر تترتب عليه عواقب خطيرة بتصعيدها في غزة بلا هدف محدد ولا إستراتيجية خروج. كلتاهما تحتاج الآن للمساعدة والإنقاذ من الورطة، وإلا فإن تهورهما سيؤدي الى المزيد من هدر الأرواح البريئة وسيسفر عن حروب سائبة وإجراءات كارثية يجب ألا يُسمح بها. فلا إسرائيل ولا «حماس» ستتمكن من الانتصار في هذه الحرب، فقط نساء وأطفال غزة والأبرياء من المدنيين في طرفي النزاع هم الخاسرون. «حماس» أخذت الفلسطينيين إلى حرب بلا استئذان ولا صلاحية وبلا تحضير وتهيئة. القادة الإسرائيليون فقدوا صوابهم مرة أخرى بشنهم حرباً لن يتمكنوا من إنهائها من دون ذبح المزيد من مئات المدنيين. «حماس» قد ترحب بغزو غزة كي تتمكن من اصطياد الجنود الإسرائيليين في الأرض التي يعرفها مقاتلو «حماس» جيداً. لكن قادة «حماس» يدركون أيضاً وجيداً أن مثل هذا التطور سيؤدي الى نهاية «حماس» كمنظمة سياسية وأن انتقام إسرائيل سيكون مكلفاً لجميع الفلسطينيين. ولذلك، أن التباهي والبهورة قد تم تقليصها. إسرائيل من جهتها لا تريد استعادة غزة ولا هي واثقة من قدرتها على إلحاق الهزيمة القاضية بـ «حماس»، إما عبر القصف الجوي أو عبر الغزو البري. وعليه، فإن إسرائيل، واقعياً، وقعت أسيرة مصيدة حرب تسرعت إليها وهي الآن تبحث عن إستراتيجية خروج منها. قادة إسرائيل و «حماس» على السواء تصرفوا وفي أذهانهم معطيات الانتخابات والسلطة عندما استدعوا بعضهم البعض الى التصعيد وتصرفوا على أساس احتياج مساهمات بعضهم البعض في طموحاتهم السياسية. كلتا القيادتين لربما رغبت في تغيير قواعد اللعبة على الأرض قبل تسلم الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما، مهمات السلطة في 20 كانون الثاني (يناير). فإذا لم يباشر قادة العالم فوراً إلى خطط شجاعة وخلاّقة وشاملة لمعالجة النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، سيؤدي الوضع في غزة ليس فقط إلى الانهيار التام لحل الدولتين وإنما أيضاً إلى انهيار السلطة الفلسطينية والى حالة فوضى عارمة لا يمكن الرهان على ضبط إفرازاتها.أحد السيناريوهات المظلمة ينطوي على تصعيد كامل تستخدمه إسرائيل كذريعة لطرد جماعي للمواطنين الفلسطينيين داخل اسرائيل ضمن تحرك استراتيجي لمعالجة أزمة إسرائيل الديموغرافية المترتبة على مواطنية مليون فلسطيني في «الدولة اليهودية». وزيرة خارجية إسرائيل تسيبي ليفني كسرت طوق الصمت أخيراً وتحدثت علناً عن الحاجة إلى «دولة يهودية» من دون فلسطينيين. إجراءات «حماس» تخدم في تبرير مثل هذا الإجراء الذي يصعب تخيله في القرن الواحد والعشرين، فإعادة رسم الخريطة من شأنها أن تؤدي إلى إغلاق غزة تماماً ودفعها إلى أحضان مصر بالقوة - بكل ما فيها - وذلك كي تتحول «حماس» من مشكلة إسرائيلية إلى مشكلة مصرية. واندلاع الفوضى في الضفة الغربية يصبح العذر لإحياء ما يسمى بالخيار الأردني القائم على مزاعم «الوطن البديل» للفلسطينيين في الأردن.أبعد من هذا الاحتمال الذي يصعب تصديقه والقائم على التنظيف العرقي وهو قطعاً لا أخلاقي، أن مثل هذا السيناريو لن يأتي أبداً على إسرائيل بالسكون مهما نصبت من جدران عزل. فقط حل الدولتين يمكن أن يؤمن العيش بسلام وطمأنينة للإسرائيليين. وحتى لو هُزمت «حماس» - هذا إذا هُزمت - فإنها ستبقى مصدر توتر للإسرائيليين وسيبقى قطاع غزة ككيان متطرف ومسلح جاراً مباشراً مهما تم اتخاذه من إجراءات لقطعه عن إسرائيل. ثم أن بروز اللااستقرار في مصر سيكون خطراً على إسرائيل لا سيما إذا حصدت إيران «فوائد» التطرف الإسرائيلي ونجحت في استخدام ورطة غزة لتقويض الحكومة المصرية.إيران هي قائد محور «حماس» - «حزب الله» - سورية. العلاقات بين الجمهورية الإسلامية في إيران ومصر تدهورت بصورة ملحوظة. الأمين العام لـ «حزب الله»، السيد حسن نصرالله، دعا الشعب المصري والقوات المسلحة الى الانقلاب على الحكومة وحرضهما عليها بتهمة خذل الفلسطينيين. هذا التصعيد اللفظي قد يؤدي الى نتائج عكسية وينقلب على الناطقين به ويحيي الوطنية المصرية برفض التحريض والإهانة. إنما الانشقاق والخلاف السني - الشيعي قد يتضاعف ويطلق مستوى آخر من العنف وربما الحروب المتعددة.لبنان يبقى صندوق «باندورا» للمفاجآت، مصيره تقرره، جزئياً، إيران التي لها السيطرة التامة على قرارات «حزب الله» بالحرب كونها مموله الأساسي بالسلاح.سورية لم تقدم حدودها المشتركة مع إسرائيل للمتطوعين للمقاومة، لا اولئك الذين يتظاهرون في الشوارع العربية ولا أولئك الذين يدعوهم الملالي في طهران إلى التدريب في إيران.قادة إسرائيل يخدعون أنفسهم وغيرهم بزعمهم أن اطلاق عملياتهم ضد «حماس» هو في مصلحة ولدعم المعتدلين العرب. انه هراء قاطع هذا التظاهر بدعم المعتدلين العرب فيما قادة إسرائيل يتجنبون ويتحايلون على كل فرصة لدفع وتقرير خيار التفاوض الذي تتبناه السلطة الفلسطينية.واقع الأمر أن الصراع بين السلطة الفلسطينية و«حماس» هو تماماً حول ما إذا كان الخيار الأفضل هو المفاوضات السلمية مع إسرائيل نحو حل الدولتين أو خيار الكفاح المسلح لتحرير فلسطين. إجراءات إسرائيل، وتهربها من استحقاقات التفاوض، هي التي وفرت ما يكفي من الذخيرة لأولئك الذين يتهكمون على المعتدلين العرب والتي قوضت حقاً الاعتدال. وفي هذا المنعطف، أن المعتدلين العرب لن يكونوا كبش فداء ولا منطقة عازلة بين «حماس» وإسرائيل.ما يجب القيام به يتعدى غزة ويجب أن يكون عملاً جماعياً لقادة دوليين وإقليميين بغض النظر عن مستوى ووتيرة الخلافات والانقسامات. المطلوب أكثر من الدعوة إلى وقف النار والعودة الى «التهدئة». يجب على قادة ما يسمى بـ «الرباعية» أن يصيغوا خطة يمكن للرئيس المنتخب، أوباما، أن يجدها صالحة لتبنيها عندما يتسلم السلطة.كثير من الحكماء والأذكياء في مختلف العالم يفكرون بعناصر خطة كهذه. بعض الأفكار يصب حصراً في خانة إنقاذ كل من «حماس» وإسرائيل من الورطة. آخرون يصرون على ان لا شيء ممكن ما لم يتم تدمير «حماس» وبنيتها التحتية عسكرياً، كنقطة انطلاق. هناك اقتراحات لإيفاد مراقبين دوليين عسكريين لمراقبة نقاط ومعابر فصل بين غزة وإسرائيل وبين غزة ومصر. هناك دعوات إلى شراكات أمنية في بناء نظام جديد للشرق الأوسط يضم دولاً غربية وإسرائيل مع إيران وتركيا وباكستان.الضروري في أي من السيناريوهات هو فهم كم هي المطالب للحل السلمي للنزاع غير معقدة. أية شروط مسبقة كتلك التي تشترط إيقاف العنف وتحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية أفعال «حماس» والفصائل الفلسطينية الأخرى ستؤدي فقط الى تقويض وتبخر خيار التفاوض والآمال بالاعتدال. يجب ألا تكون هذه المسألة على نسق أيهما أولاً، الدجاجة أم البيضة.أن السلطة الفلسطينية هي الشريك الشرعي لإسرائيل في الحل التفاوضي. يجب على إسرائيل أن تنخرط مع السلطة الفلسطينية، الممثل الشرعي المسئول عن الفلسطينيين، على صعيد المفاوضات بجدية، والشراكة في مراقبة المعابر الى غزة.يجب على القادة الدوليين والإقليميين أن يعطوا فوراً الأولوية العليا للدفع بجدية بكل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية إلى استكمال مفاوضاتهما بغض النظر عن أين تنتهي «حماس». لا مناص من المسؤولية الدولية في هذا المنعطف ان تمثلت في اجتماع عاجل لقادة إقليميين ودوليين أو في تحضير مدروس لمؤتمر دولي في موسكو أو في أية عاصمة أوروبية. فإذا ارتأت «حماس» ان تنقلب على نفسها وتوافق على الدخول طرفاً في تسوية سياسية، كان به. إنما مسؤولية إجراء واستكمال المفاوضات هي من شغل السلطة الفلسطينية وليست من شغل «حماس».فلا انخراط «حماس» ولا دمارها يجب أن يكونا شرطاً مسبقاً لنجاح المفاوضات. أن الشريك واضح وهو السلطة الفلسطينية التي، إذا انهارت، ستكون عواقب الانهيار مدمرة للفلسطينيين والإسرائيليين على السواء.قد ينجح القصف الإسرائيلي بإقفال المعابر تحت الأرض وقطع أنفاس الناس ومقاتلي «حماس» على السواء بإغلاق المعابر أكثر وأكثر. انما هذا العقاب الجماعي سيرتد عليها. وقد حان الوقت لنظرة جدية الى الخيارات المتاحة، بنزاهة ومن دون اعتذاريه.إسرائيل ترفض حل الدولة الواحدة حيث الشعوب متساوية وحيث ترتكز الديمقراطية إلى كل رجل صوت. بدلاً من ذلك، يريد الإسرائيليون من العالم أن يبارك إسرائيل كـ «دولة يهودية» محضة حيث ليس لأي آخر مواطنية متساوية، هكذا الأمر بكل بساطة.بعض القادة الإسرائيليين يؤمن أن حل الدولتين لن يعالج المشكلة الديموغرافية داخل دولة إسرائيل، لذلك يرفضونه. يريدون أن يكون الأردن الوطن البديل للفلسطينيين وأن يدفعوا فلسطينيي اسرائيل الى تلك الدولة بأية وسيلة ممكنة.الأمر الوحيد الذي سيوقف مثل هذا الجنون من أن يتحول إلى واقع هو أن تقول الولايات المتحدة: هذا مرفوض قطعاً. ولقد حان الوقت الآن لهذه الـ «لا» أكثر من أي وقت مضى. ان إعادة الالتزام بأمن الأردن ودولته على مستوى الرئيس المنتخب أوباما بالغ الضرورة الآن، وكذلك، إعادة تأكيد الجدية الاميركية في التزامها بحل الدولتين.كذلك، هنالك حاجة الى رسالة واضحة من الرئيس المنتخب باراك أوباما الى كل المعنيين - ايران وغيرها - بأن اللااستقرار في مصر مرفوض. فالأمر ليس متعلقاً بمحبة أو كراهية النظام الحاكم في مصر وانما هو حول ما من شأن اللااستقرار في مصر أن ينتجه. على واشنطن أن تضغط على نظام الرئيس حسني مبارك انما يجب عليها في الوقت ذاته أن ترسم الخطوط الحمر.إيران في حاجة لأن تسمع من الإدارة المقبلة بأن الرئيس الجديد سيستمع وينخرط مع الجمهورية الاسلامية في ايران انما فقط على أساس توقفها عن التدخل والتخريب في فلسطين ولبنان ومصر. يجب ايصال الرسالة الى الملالي والثوريين الذين يحكمون في طهران بأن هناك شروطاً جديدة للانخراط مع ايران، وهي، ان على قادتها التوقف عن الدفع نحو الفوضى في جيرتهم العربية.على القادة العرب ايضاً ان يتوقفوا عن انماط المزايدة عندما يتعلق الأمر بمسألة فلسطين. اولئك الذين يدعمون «حماس» في تبنيها خيار المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين يجب أن يقفوا علناً ليشهروا بأنفسهم - ان يفتحوا الحدود أمام المقاومة، ان يدفعوا السلاح الى «حماس»، أن يسحبوا اعترافهم بالسلطة الفلسطينية - والا، فليكفوا عن النفاق الذي يقتل المزيد من الفلسطينيين.القادة العرب الذين يتبنون خيار المفاوضات السلمية يجب أن يجرؤوا على الوقوف بوضوح ضد «حماس» لاختطافها المدنيين الفلسطينيين رهينة في مغامراتها الفاشلة من أجل السلطة. عليهم أن يدعموا السلطة الفلسطينية بكل نشاط وأن يطلقوا حملة ديبلوماسية هجومية في أوروبا والولايات المتحدة لإبراز أخطاء اعفاء أي طرف في النزاع من المحاسبة والمسؤولية.الرئيس المنتخب باراك أوباما يفضل بالتأكيد لو لم يتزامن تسلمه السلطة مع هذه الورطة ولو كان في وسعه التملص من الانجرار الى الطرق المزحلقة في دهاليز الشرق الأوسط. الآن، قد لا يكون أمامه خيار آخر. انما قد تكون هناك فرصة للرئيس الآتي ليقوم بصوغ قيادته في شأن هذه المسألة بدلاً من الانجرار للسير في خطوات يتمنى مختلف الأطراف أن ترسمها له. فإذا قام في طليعة الأمر بتعريف الهوامش بتوقيعه الشخصي وبخطوات جريئة يرسمها بنفسه، فإنه بذلك يقدم لنفسه وللعالم خدمة عظيمة .[c1]----------------------* عن صحيفة ( الحياة )[/c]