مشادة كلامية عنيفة على الهواء مباشرة على قناة NTV المصرية، جسدت دون لبس جوهر المعضلة التي ما فتئت أحدثكم عنها ، وهي معضلة التمسك بتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية في عصرنا الحالي.جرت المشادة بين الدكتورة سعاد صالح، أستاذ الفقة المقارن وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، التي انضمت إلى حزب الوفد قبل يوم من المقابلة، وبين القيادي في حزب الوفد المصري صلاح سليمان وعدد من المشاهدين الذين اعترضوا على رأيها الفقهي .ردت الدكتورة سعاد صالح على سؤال المذيع جابر القرموطي في برنامج (مانشيت) عن حق المصري المسيحي في تولي رئاسة الدولة، بالقول إنه لا يجوز دينيا وسياسيا أن يكون في يوم من الأيام الرئيس المصري مسيحيا، ولكي تدعم رأيها بالحجة أشارت إلى الآية القرانية ( لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ).. بمعنى أنها أرادت أن تكحلها فعمتها.لم تكتفِ بذلك، بل تابعت قائلة “لابد أن تكون الولاية من المسلم على الكافر وليس العكس، لذلك أباح الله زواج المسلم من غير المسلمة وليس العكس، لأن الولاية في الزواج تكون للرجل، كما أن القوامة تكون للدين الأعلى وليس الأدنى، مؤكدة أن شهادة غير المسلم على المسلم غير جائزة بالإجماع لأنه أقل دينا، إلا أن أبا حنيفة أباحها !!.رد الدكتورة آنذاك كان واضحاً لا لبس فيه. هي تصف المسيحيين بالكافرين. تعتبر أن الإسلام هو دين (أعلى) من الدين المسيحي (الأدنى)، ولذلك فإن الولاية هي للمسلمين (الأعلى) على المسيحيين (الأدنى).المشادة الكلامية التي حدثت بعد ذلك أظهرت الهوة الفاصلة بين رؤية (فقهية دينية) تصر على تصنيف البشر حسب انتماءاتهم الدينية، وتضعهم في درجات، ولا تعترف بحقوقهم إلا من زاوية هذا الانتماء الديني، وفي الواقع لا تعترف أن هناك شيئا اسمه الوطن، وبين رؤية مدنية تصر على أن المواطنة هي المحك في تعامل الدولة مع مواطنيها، بغض النظر عن الانتماء الديني أو النوع.القيادي البارز في حزب الوفد صلاح سليمان اتصل بالبرنامج وأبدى انزعاجه الشديد من كلام الدكتورة ، طلب منها توخي الحذر في ما تقوله من تصريحات تُحسب على حزب الوفد، ثم توجه بحديثه إلى المذيع قائلا : (الدكتورة سعاد بتتكلم في الدين ومش بتتكلم كقيادة وفدية، لأن حزب الوفد حزب علماني وبيرفض كل الكلام ده، وبيطالب بالمساواة والمواطنة اللي من أهم بنودها حقوق الأقباط والمرأة في الوصول إلى الرئاسة).فردت الدكتورة قائلة : ( اللي بيتكلم عنه الأستاذ صلاح أهواء بشرية، وده بيعارض الدين، وأنا موافقش على أهواء البشر.. وموافقش على ولاية لغير المسلم.. وأي حزب يتعارض مع الدين الإسلامي أنا مش هنضم له) ، هنا واصل الأستاذ صلاح حديثه قائلا: (لا يجوز أبدا أن حد شغلته في الدين يطلع يتكلم في السياسة ) .بطبيعة الحال اضطرت الدكتورة سعاد بعد يومين من المشادة إلى التراجع عن حديثها، تراجعت لتقول إن ما قالته كان فى معرض الحديث عن مسألة تولي الخلافة، مسيرة الى إن نظام الخلافة انقرض وتحول الأمر إلى دولة مؤسسات، وعليه يصبح للمسيحي حق تولي رئاسة الدولة، بينما يظل التحريم متعلقا بالخلافة، وإنها لا يمكنها أن تصف المسيحيين بالكافرين!!!؟يا اللهِ؟كل هذا، ولم يكن قصدها؟يالله كم تأرجحت.يالله كم تذبذبت.يالله كيف تراجعت؟تراجعت الدكتورة عن موقفها رغم وضوحه. فهي طوال حديثها كانت تتكلم عن ( رئاسة الدولة ) لا (الخلافة) ، وعن ( الكافرين) في وصفها للمسيحيين.لكنها تراجعت. نحمد الله أنها فعلت.تراجعت، ربما لأن أحد المحامين قرر رفع قضية عليها بتهمة ضرب الوحدة الوطنية واثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين.. وربما يعود تراجعها أيضا الى أن هناك من همس في أذنها من دوائر عليا بأن (الأحرى أن تتحرى الدقة في ما تقول )، وربما لأنها وجدت أن المسألة جادة، وأن ما قالته خطير بالفعل.ربما. نحن في الواقع لا نعرف دوافعها في التراجع.كل ما نعرفه هو ما قالته على الهواء مباشرة، فالبرنامج موجود، وما قالته فيه يستحق الإدانة بالفعل.[c1] *** [/c]رأي الدكتورة سعاد هو رأي ( فقهي ) يعكس بوضوح رأي إجماع الفقهاء المسلمين، وهو رأي ( سياسي) تصر عليه قوى الإسلام السياسي، وعلى رأسها حزب الإخوان المسلمين، وقبله بالطبع التياران السلفي والشيعي.وفي الواقع لن نجد فرقاً بين إجماع الفقهاء، وإجماع حركات الإسلام السياسي في هذا الشأن . فهما في أحيان كثيرة يبدوان كما لو كانا وجهين لعملة واحدة.لكن كونهم مجمعين على شيء، لا يعني أنهم على حق.لمجرد أن جماعة من الفقهاء على مر التاريخ الإسلامي عبرت عن رأي لا يعني أبداً أنها كانت تعبر عن رأي صحيح . فالفقهاء المسلمون أجمعوا أيضا على مر القرون على أن استعباد البشر (أمر جائز شرعاً ) . والفاتيكان اعتذر عن خطأ موقف رجال الدين المسيحيين الاسلاف عندما أعدموا جاليليو بسبب اكتشافه كروية الأرض ودورانها حول الشمس وهو ما أصبح اليوم حقيقة علمية وواقعية لا ينكرها الا مخبول . وأتساءل ـــ بخبثٍ طبعاً ـــ ماذا لو طرح أحدهم سؤالاً على الدكتورة سعاد عن (العبودية).. هل هي جائزة شرعاً أم لا . هل سترد أيضا (الدين كده) كما ردت على المهندس نجيب ساويرس؟فالدين “كده” أيضا عندما يتعلق بمسألة العبودية.لم يحرّمها، بل أشار إليها في آيات قرآنية كثيرة كواقع اجتماعي قائم.وأقترح على القارئ الكريم أن يقرأ كتاب (هداية المريد في شراء الجواري وتقليب العبيد: الأوضاع الاجتماعية للرقيق في مصر)، للناشر محمد مختار، الذي قرر الكتابة في الموضوع عام 1996 “دفاعاً عن الإسلام” كما يبدو.في هذا الكتاب نرى كيف أجمع الفقهاء على التسري بالجواري، واستخدام العبيد، وكيف خرجوا بمجموعة من القواعد، أجمعوا عليها أيضاً، في كيفية التعامل مع من يولد للجواري والعبيد من أطفال، يباعون أو يحتفظ بهم أو يُعترف بهم (إذا كان الطفل من مالك الجارية).الهدف كما اجتهد الناشر مختار في التأكيد (هو حفظ الأنساب، وتأمين عدالة التعامل مع العبد والجارية). لكن الناشر اللبيب لم يتساءل قط لِمَ لمْ يتخذ أحدٌ من هؤلاء الفقهاء موقفاً يقول إن استعباد البشر لا يجوز شرعاً؟السبب بسيط، لان الفقه الاسلامي لا يدين هذه الممارسة، ولا يدعو إلى إلغائها. ونصوص ومؤلفات الفقهاء كانت تعكس الواقع الاجتماعي للقرن السابع الميلادي على الأرجح.ولأن الأمر كذلك، فإن الفقهاء لم يجدوا مفرا من “الإجماع” على أن العبودية، امتلاك البشر، بيعهم وشراءهم، أمر “جائز شرعاً”. وبالمنطق نفسه يعكس حديث الدكتورة إجماعاً للفقهاء من نوع آخر.إجماع يقول بأن الوطن لا وجود له، والمساواة بين المواطنين لا وجود لها، بل “الأمة” هي المحك، وهي “أمة من مسلمين”، ومن يتبع ديناً آخر عليه أن يعيش في هذه الأمة “كذمي” ويدفع الجزية كي يعيش في هذه الأمة “بأمان”، ولكن كجزء “دخيل” عليها، “جزء أدنى”.هذا الإجماع يعكس واقع المجتمعات في القرون الوسطى. يعكس واقعا كان موجوداً.لكنه لا يعكس حياتنا، في العالم الواقعي ولا يعكس قوانين الدولة القائمة حالياً.الدكتورة سعاد كانت تتحدث كما لو كانت تعيش في عصر نظام الخلافة ، لا في مصر. مصر التي ينص دستورها على المساواة بين مواطنيها بغض النظر عن الدين.ولعلها عبرت في الحقيقة عما هو ممارس فعلاً في الواقع. أليس كذلك؟الدستور المصري يقول بالمساواة، ثم يخرج علينا في الوقت ذاته بعبارة “دين الدولة الإسلام”، ويضيف عليها أن الشريعة “مصدر أساسي للقانون”. وكلاهما يدقان إسفيناً في نعش “الوطن”.والمجتمع تغير، أصبح مسعوراً بموجة التأسلم السياسي، فنسي أن المصريين تميزوا دائماً عن غيرهم من الشعوب في المنطقة بعشقهم المجنون لأم الدنيا؛ مصر. ولأنهم كانوا كذلك، كانوا دوماً مصريين أولاً.اليوم، أصبح الانتماء دينياً بل مذهبيا. ولأن الانتماء أصبح دينياً، اضطرت الأقلية المصرية المسيحية إلى الانكفاء على نفسها، انزوت، تسمع كل من حولها يقول لها إنها “مختلفة”، فبحثت هي الأخرى عن موطن “الاختلاف”، فلجأت إلى “الهوية الدينية” هي الأخرى كَمخَرج.انها دائرة شرسة تعكس في الواقع الأزمة التي نعيشها في دول المنطقة.أزمة فكر ديني، يرفض أن يخرج من دائرة القرون الوسطى، فتلقفته جماعات الإسلام السياسي، مستخدمة إياه كي تصل إلى “السلطة”.وأزمة دولة، لم تتمكن إلى يومنا هذا من التعامل مع مواطنيها على أنهم متساوون أمام قوانينها بغض النظر عن الدين والنوع. دولة لم تنجح إلى يومنا هذا في أن تكون وطناً لمواطنيها.. دولة تصر على التعامل مع مواطنيها بمعيار الانتماء الديني والمذهبي.فلمن لا يعرف، في مصر هناك قوانين “غير مكتوبة”، يدعمها العرف، تقول بأن المصري المسيحي لا يمكنه أن يصل إلى مناصب “حساسة” أمنية وعسكرية. تماماً كما أن هناك قوانين “شفهية”، يدعمها الفقه السلفي، تقول بأن المواقع القيادية في الجيش والحرس الوطني ووزارة الخارجية لا يصل إليها المواطنون السعوديون من أتباع المذهب الشيعي.والمشادة بين الدكتورة سعاد والقيادي في حزب الوفد سليمان، عبرت عن هذه الأزمة بوضوح.فالخلاف كان بين رؤية دينية قروسطية، أصبحت لها الغلبة في مجتمعاتنا، وبين رؤية حداثية علمانية، تكالبت عليها قوى الإسلام السياسي والفقهاء والفقيهات والدولة، فأصبح صوتها ضعيفاً محشرجاً.والأزمة ستستمر ما دمنا نصر على إقحام هذه الرؤية الدينية السلفية في تنظيم حياتنا العامة، ومادامت الدولة تصر على أنها لا تمثل مواطنيها بل هي حارس شخصي لانتماءات دينية ومذهبية وطائفية و مناطقية و قبلية، أو لمصالح شخصية .الأزمة ستستمر، مادمنا نصر على أن بعض أبناء وبنات الوطن “ذميون”، نتصدق عليهم بالاعتراف، نمن عليهم “بحق تولي منصب أو غيره”، كأننا أصحاب الوطن.بيد أن الوطن ليس ملكاً لفئة دون غيرها من المواطنين. الوطن ملك للجميع.ونحن جميعاً مواطنون.
أخبار متعلقة