سعيد محمد سالمينمع حلول 19 يناير من كل عام ميلادي جديد، تعود عجلة الذكرى والتذكير في بلادنا إلى يوم احتلال الانجليز لعدن في التاسع عشر من يناير عام 1839م، حيث كانت عدن الآمنة في شواطئها البحرية الهادئة هي الواجهة الحقيقية لذلك الغزو البحري الاستعماري الذي قاد حملته العسكرية الكابتن هنس، وكانت ذريعتهم الواهية التي مهدت الطريق لقيام هذا الغزو هو ادعاؤهم بأن صيادي عدن قد نهبوا كل ما في سفينة «داريا دولت» التجارية من سلع ومواد غذائية، والتي كانت راسية في شاطئ صيرة، فطالبوا السلطنة العبدلية - حينذاك - بدفع تعويضات باهظة للبضائع المنهوبة.وعندما تعثرت المفاوضات بين الطرفين لسبب أو لآخر، ووصلت إلى طريق مسدود، قررت بريطانيا الشروع في احتلال عدن بالقوة العسكرية، مهما كلفها الأمر من تضحيات، لأنها تنظر إلى عدن كموقع استراتيجي هام يحقق لها أطماعها الاستعمارية في اتخاذ مينائها محطة وقود لسفنها التجارية وبوارجها الحربية، وإحكام سيطرتها على التجارة والطرق البحرية ما بين البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي.وبعد أن ثبَّت المستعمر الانجليزي أقدامه في عدن، وضمن وجوده فيها، أخذ يتوغل إلى بقية أراضي الجنوب اليمني، والتي كانت عبارة عن كيانات سياسية قبلية مشطرة ذاتياً بلغت حوالي 22 سلطنة ومشيخة، حيث وجد الانجليز ضالتهم في مثل هذا الوضع التشطيري، المفكك البنيان، المجزأ الكيان، فانتهج مع سلاطينها وزعماء قبائلها المتناحرة « سياسة فرق تسد» ، تارة باللين والترغيب وإخضاع سلاطينهم للتوقيع على معاهدات حماية أو اتفاقات صداقة أو استشارية بشروط استعمارية مجحفة تتيح للضباط المستشارين الانجليز حق التدخل المباشر في شؤون السلاطين الداخلية، والتحكم في اتخاذ القرار السياسي في كل صغيرة وكبيرة لدعم مصالحهم الاستعمارية، وتارة أخرى التلويح بعصا الترهيب واستخدام القوة العسكرية مالم يرضخوا لرغبات الانجليز السياسية في الهيمنة على شؤونهم الداخلية.وهكذا أحكم الانجليز قبضتهم على كل السلطنات والمشيخات، بالرغم من امتعاض بعض السلاطين لتصرفات المستشارين الانجليز في تسيير شؤونهم الداخلية، ولكن لم يكن في اليد حيلة. وفي أواخر الخمسينات ابتكر الانجليز مشروع قيام الاتحاد الفيدرالي للجنوب العربي، وتأسيس حكومة اتحادية فيدرالية، ومجلس اتحادي أعلى، يتناوب السلاطين رئاسة اجتماعاته الدورية بالتعاقب. وقد كانت عدن أشد المعارضين لقيام هذا الاتحاد الفيدرالي للجنوب العربي، ولهذا خرجت القوى الوطنية من كل ألوان الطيف السياسي، تشاركهم المنظمات الجماهيرية لمنظومة المجتمع المدني في عدن، وجموع غفيرة من المواطنين، والاتحادات الطلابية والنسائية، في مظاهرات شعبية كاسحة الشوارع الرئيسية والزحف نحو - المجلس التشريعي - منددة بذلك المشروع الاستعماري البريطاني الذي يكرس التجزئة والتشطير لمناطق الجنوب اليمني المحتل تحت الجنوب العربي.وقد ظل الاحتقان السياسي والشعبي مكبوتاً في نفوس المواطنين منذ ذلك الحين، فكانت ثورة 26 سبتمبر 1962م في شمال الوطن الحبيب إشارة ضوء اخضر في تفجير هذا الاحتقان السياسي الذي عبرت عنه انطلاقة الثورة الأكتوبرية من جبال ردفان الشماء في الرابع عشر من أكتوبر 1963م ضد الوجود الاستعماري الانجليزي، بعد أن توفر لها الظهير الأيمن في حمايتها وضمان مساندتها ودعمها مادياً ومعنوياً وسياسياً من قيادة قادة الثورة السبتمبرية.
وهكذا اندلعت الثورة الأكتوبرية في جنوب اليمن المحتل في مقاومة قوات الاحتلال البريطاني من بين جبال ردفان، وسرعان ما أنتشر صدى الثورة الملتهبة في كل أرجاء المناطق الجنوبية، فاستقطبت مجاميع كبيرة من المناضلين الوطنيين الذين انخرطوا طواعية في صفوف المقاومة الثورية، وإشعال لهيبها في إحراق الوجود الاستعماري الانجليزي أينما كان مرابطاً، وإقلاق مضاجعه ، مقدمين أرواحهم الغالية هدية للوطن في سبيل تحرره من الحكم الانجليزي الاستعماري، وتتويج هذا النضال الوطني المسلح بالنصر ونيل الاستقلال والحرية في 30 نوفمبر 1967م، ورحيل المستعمر الانجليزي عن بلادنا بدون رجعة ، بعد أن دام حكمة لعدن ومناطق الجنوب اليمني المحتل قرابة 129 عاماً.ولعل الدروس المستخلصة من ذلك الغزو الانجليزي لمدينة عدن واحتلال بقية أراضينا في المناطق الجنوبية، هو أنه جاء في وقت كان الجهل يعشعش في عقولنا، والتفكير الخرافي سائد في حياتنا الاجتماعية، والأمية الأبجدية والثقافية والسياسية منتشرة في صفوفنا، كما أننا كنا مشطرين، وتحكمنا دويلات سياسية - قبلية متناصرة ومتصارعة فيما بينها، لا يربطها رابط موحد في تماسكها الوطني والمصيري في مواجهة أي قوة أجنبية غازية، ونتيجة لغياب التعليم النظامي بين المواطنين، وغياب الوعي السياسي، وتفشي الجهل والجهالة بيننا، وبسبب ذلك الضعف، والتجزئة والفرقة والتمزق في دويلات سياسية - قبلية هزيلة، كنا فريسة سهلة للغزاة الانجليز.ومنذ تسلم السلطة الوطنية مقاليد الحكم لشطر اليمن الجنوبي في الثلاثين من نوفمبر 1967م، كان أعظم انجاز تحققه هو توحيد 22 سلطنة ومشيخة في إطار كيان سياسي واحد لدولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية سابقاً. ولاشك أن هذه الخطوة المتحققة في الجنوب اليمني قد سَهَّلت مهمة كلتا السلطتين السياسيتين لشطري اليمن يوم الإعلان عن توحيد اليمن أرضاً وإنساناً، والتئام لحمة الجسد اليمني الواحد الموحد، وقيام الجمهورية اليمنية الفتية في الثاني والعشرين من مايو 1990م لكي تشكل قوة وعزة ومنعة في تماسك القوى الوطنية الداخلية على مستوى الساحة اليمنية كلها، وصون مصالح الوطن العليا، وحماية موارده الطبيعية والبشرية، والذود من استقلاله الوطني، وسلامة أراضيه السيادية، ومياهه الإقليمية.ومن مفارقات الزمان والمكان والأهداف بين داريا دولت البريطانية (19 يناير 1839م)، وكول الأمريكية، البارجة الحربية (12 أكتوبر 2000م)، هو أن الأولى أرست على شواطئ صيرة، وتعرضت شحنتها من البضائع للنهب من قبل صيادي عدن - حسب الرواية الانجليزية - فكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إيذاناً باحتلال عدن لأهمية موقعها الجغرافي الاستراتيجي الهام، مستغلة الأوضاع السياسية المهترئة والهزيلة لدويلات السلطنات والمشيخات المجزأة سياسياً في حكمها القبلي المناطقي الذاتي فيما بينها، أما الثانية ( كول الأمريكية) ما كادت أن ترسو في مياه ميناء التواهي، حتى نُسفت في متنها بقذائف صاروخية، أصابتها إصابة بالغة، فأقعدتها عن الحركة. وقد أرادت أمريكا أن تتخذ من ضرب البارجة (كول) ذريعة في غزو عدن، مستغلة تداعيات حرب 94م الأهلية وما خلّفته من آثار نفسية، وأن الطريق سيكون مفروشاً لها بالورود، ولكنها تناست أنها جاءت و اليمن قوية بوحدتها أرضاً وإنساناً، والشعب كله لا يزال متماسكاً، يداً واحدة تحت قيادة ربان السفينة الوحدوية اليمنية، الأخ/ علي عبدالله صالح، رئيس الجمهورية اليمنية المظفرة، - حفظه الله ورعاه - الذي كان يقظاً لكل مؤامرة خبيثة محاكة في تجزئة الوطن، بل ولأي نوايا مبيتة يشتم منها غزو عدن الحبيبة، بوابة اليمن الكبرى، فكان لها بالمرصاد. وأثبتت قواتنا اليمنية المسلحة اليقظة - في لحظة مدهشة - أنها كانت في مستوى المسئولية الوطنية الدفاعية في من تسول له نفسه من الغزاة وتفويت الفرصة عليهم في تحقيق مآرب وأطماع استعمارية خبيثة.وهكذا تتجلى قيمة الوحدة اليمنية ويقظة قواتها المسلحة الباسلة في التصدي لأي غاز خارجي يسعى إلى تجزئة البيت اليمني الكبير - وطن 22 مايو - وشق عصا الطاعة والولاء والانتماء لهذا الوطن العظيم، فالأمس شيء واليوم شيء آخر فهل أدركنا المفارقات التاريخية وظروفها الزمنية والمكانية بين داريا دولت البريطانية وكول الأمريكية؟