في أي حدث وكل حدث، غالباً ما نجد أن الخطاب السياسي العربي يتعامل معه من منطلق واحد، وآليات تحليل واحدة، ونتيجة واحدة في النهاية. فسواء كنا نتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية، أو الغزو العراقي للكويت، أو الغزو الأميركي للعراق، أو قضية فلسطين في مختلف حالاتها ونقاطها التاريخية او التطورات الاخيرة في لبنان ، فإن التحليل لا يختلف كثيراً، والنتائج لا تختلف كثيراً، والآليات والمفاهيم المستخدمة هي ذاتها، بغض النظر عن ظروف الزمان والمكان والقضية محل التحليل، فالتغير حالة طارئة في الخطاب الثقافي العربي عامة، وما ينبثق عن هذا الخطاب من خطابات سياسية وغيرها. بإيجاز العبارة، فإن آفة الخطاب السياسي العربي هي الأدلجة المفرطة، على اختلاف اتجاهات هذه الأدلجة، القائمة على ترميز الواقع، وقياس ما هو مشهود من أحداث على ما هو غائب من وقائع. فالمتابع العربي للشأن العام، أو الممارس له، سواء كان ممارساً للسياسة، أو عالماً من علماء السياسة، أو صحفياً يغطي أحداث السياسية، أو فرداً من العامة تجري السياسة في دمه مجرى الدم، كحال غالب العرب، كل أولئك لا يستطيعون الإنفكاك من أسر مقولات ومفاهيم إيديولوجية معينة لا يستطيعون رؤية العالم إلا بها ومن خلالها. وسواء كنا نتحدث عن الإسلاموي أو القومي أو الوطني أو اليساري أو اليميني أو الرجعي أو التقدمي، فإن القاسم المشترك بين كل هؤلاء هو أدلجة الواقع، وفق هذا المنظور أو ذاك، اعتماداً على آليات تحليل ومفاهيم معرفية ثابتة لا تتغير، رغم تغير الأحداث وتقلبات العالم.النتيجة الدائمة في أي تحليل سياسي عربي معروفة سلفاً، فهي في غالب الأحوال أن هناك صراعاً ما بين الأمة وأعدائها، أو مؤامرة ما ضد الأمة، بمثل ما كان عليه الوضع في لحظات معينة من التاريخ الإسلامي، في حالة المرجعية الإسلامية، أو التاريخ العربي الحديث والمعاصر، في حالة المرجعية القومية، أو لحظات أخرى تتعدد وفق الاتجاه الإيديولوجي للخطاب، ولكن تبقى النتيجة واحدة. وفي النهاية فإن السلوك السياسي الموصوف بعد مثل هذا التحليل هو غالباً الرفض، أو الدعوة إلى مجرد الرفض لكل شيء، والذي ينتهي بقبول كل شيء في النهاية، بعد أن تكون الطيور المبكرة قد غادرت بأرزاقها، دون أن يكون هنالك هامش حركة بين طرفي الرفض المطلق والقبول المطلق.أما ما يمكن أن يكون خطاباً سياسياً يقوم على أسس من التحليل السببي والعقلاني، فإن ذلك يكاد يكون شبه غائب عن الخطاب السياسي العربي وآليات إنتاجه. تحليل آليات الفعل، ودوافع السلوك، والعلاقة بين القوى الإقليمية والدولية وفق أبجديات علم السياسة مثلاً، فإن ذلك يبقى شبه غائب عن الساحة العربية وخطابها المهيمن، وما يتفرع عنه من خطابات مختلفة. فالحرب العراقية الإيرانية مثلاً كانت حرباً بين العرب والفرس، أو بين الإسلام والمجوسية، أو حرباً للدفاع عن البوابة الشرقية للأمة في أفضل الأحوال. وما يجري في العراق اليوم هو نتيجة تلك المؤامرة التي لا تريد أن تترك العرب في حالهم كي ينهضوا، أو أنها جزء من مخطط استعماري أو صليبي، على اختلاف ايديولوجيا المتحدث، للهيمنة على المنطقة التي تهدد حضارة العصر، ألا وهي المنطقة العربية، أو الإسلامية. وفي أفضل حالات التحليل فإن الهدف هو السيطرة على موارد المنطقة، ولكن النتيجة تبقى واحدة، ألا وهي التركيع والهيمنة. فنعم الهيمنة جزء من سياسات القوى الكبرى، ولكن ليس من أجل الأهداف التي يعرضها الخطاب السياسي العربي بمختلف تياراته الإيديولوجية.الصورة الدائمة في الخطاب السياسي العربي غالباً ما تكون مرتكزة إلى تصور رمزي ورغبوي، لا مكان للتحليل السياسي الواقعي أي أثر فيه. ليس في تلك الصورة مكان لتحليل صراع المصالح، أو المنافسة على النفوذ السياسي الإقليمي أو الدولي بين قوتين أو أكثر، أو تحليل لأوضاع هذا البلد أو ذاك يقوم على صلابة الواقعة لا هلامية التصور، بحثاً عن أسباب الصراع والانفجار. كل ذلك، والذي هو من أبجديات علم السياسة والتحليل السياسي الحديث، لا تجد له أثراً كبيراً في الخطاب السياسي العربي المعاصر، حتى لدى أولئك المعتبرين من علماء السياسة في عالم العرب. ففي ظل الهيمنة الايديولوجية على الخطاب الثقافي العربي عامة، والخطاب السياسي خاصة، ينسى عالم السياسة العربي كل ما تعلمه، ويغرق في مقولات الايديولوجيا، ومفاهيم الصراع، وترميز الواقع، ليصبح مثله مثل أي عربي آخر منغمس في السياسة، وما أكثرهم في عالم العرب.وإذا كانت الأدلجة هي علة الخطاب السياسي العربي، التي تمنعه من ممارسة مهمته في الفهم والتحليل ومن ثم التوجيه السليم، فإن ذلك يدفعنا إلى الخوض في بعض تفصيلات هذه الأدلجة، لتبين بعض تلك المعوقات التي يزخر بها هذا الخطاب، فتعيقه عن تجديد نفسه، وتعيقه عن فهم العالم من حوله. وفي تصوري، فإن هنالك خمسة مفاهيم أساسية تكبل الخطاب السياسي العربي وتقيده، وتسجنه في قمقم مغلق لا يمكن له معها إلا أن يعيد إنتاج نفسه، بآليات لا تتغير، فتمنعه عن العصر وتمنع العصر عنه. تلك المفاهيم تشكل في مجموعها نوعاً من الوهم المانع من استيعاب الواقع المعاش كما هو، من أجل فهمه كما هو كائن، وذلك إذا كان المراد الوصول إلى ما يجب أن يكون. هذه المفاهيم الخمسة، أو لنقل الأوهام الخمسة، هي السيادة والمؤامرة والسلطة والفرادة والزعامة. فمن ناحية السيادة، فإن هنالك نوعاً من القناعة لدى العرب أجمعين بأنه لا قيام لأمة العرب، أو المسلمين، دون أن يكون ذلك مرتبط بوجه من الوجوه بنوع من السيادة العالمية، وفق مقولة: " لنا الصدر دون العالمين أو القبر "، دون أن يكون حلم السيادة هذا مرتبطاً بمعرفة علمية لواقع العرب وإمكانياتهم. فالحلم جميل ومبرر حين يكون مؤسساً على قاعدة من معرفة حقيقية لأوضاع واقعية، ولكنه يكون مخدراً في حالة غياب مثل تلك المعرفة، ويصبح وهماً من الأوهام.وفيما يتعلق بالمؤامرة، فإن الخطاب السياسي العربي يحاول أن يخلق نوعاً من آليات الدفاع عن الذات، وذلك بإعطاء تفسير للإخفاقات المرئية والملموسة، عن طريق إرجاع السبب إلى وجود حالة من العداء الدائم " للأمة "، لا يرتبط وجودها بزمان ومكان محدد بقدر ما أنها فوق كل الظروف، تمنع الأمة من تحقيق ذاتها. مثل هذا الوهم يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يستطيع مثل هذا الخطاب أن يكون أداة مفهومية سليمة لمعرفة العالم، ومن ثم التفاعل مع هذا العالم. فالخطاب في النهاية لا عيب فيه، والذات لا خلل فيها، ولكن المشكلة في قوى الداخل والخارج التي لا تريد أن تهدأ أو أن تستريح. والسلطة، في الخطاب السياسي العربي، هي حجر الفلاسفة القادر على تحويل كل ما هو غث إلى ثمين، كل المعادن الرديئة إلى معادن نفيسة. فالسلطة هي كعبة الخطاب السياسي العربي التي يدور حولها الجميع، مما يعمي الأبصار عن العلاقات التحتية التي تجعل من السلطة سلطة، ومن كونها بهذا الوضع أو ذاك الشكل. أن تكون السلطة، والسلطة السياسية تحديداً، هي المحور الرئيس للخطاب، تجعله أسير مثل هذا المفهوم، وبالتالي فإن كل شيء خارج هذا المحور هو مجرد هوامش على دفتر السلطة: كل شيء يبدأ من السلطة، وكل شيء ينتهي بالسلطة. قد يكون مثل هذا الوضع معبراً عن واقع سياسي عربي معين، ولكن عدم معرفة مثل هذا الواقع معرفة موضوعية سليمة، يجعل من أسر السلطة عائقاً في طريق تجديد الخطاب لنفسه، والبحث عن آليات ومفاهيم جديدة قادرة على وصف الواقع في المقام الأول.أما الفرادة والتميز فهي المفهوم الأثير لدى الخطاب السياسي العربي، صراحة أو ضمناً في أحوال كثيرة. فالأمة، على اختلاف في التعريف والتحديد، ليست أمة ضمن أمم، بقدر ما أنها شيء له فرادة خاصة، وتميز فريد. ورغم أن هذا الأمر ينطبق على أي أمة وكل جماعة في العصر والتاريخ، إلا أنه في الحالة العربية يتخذ نوعاً من التسامي على القوانين التاريخية والاجتماعية التي تنطبق على الجميع، في ضياع شبه تام للحدود الفاصلة بين ما هو عام وما هو خاص. وفي الختام يأتي الزعيم ومفهوم الزعامة، ليكون خامسة الأثافي المشكلة لآليات الخطاب السياسي العربي. فالمخيلة السياسية العربية، لا يختلف في ذلك عالم أو جاهل في كثير من الأحيان، لا ترى الحركة السياسية إلا من خلال " مُنقذ " يأتي فجأة من بطن الغيب، ليعيد للأمة أمجادها، أو يدحر أعداءها، أو يملأ الأرض عدلاً بعد أن امتلأت جوراً، أو يكون مستبداً عادلاً. هو دائماً عمر بن الخطاب أو صلاح الدين أو عبدالناصر، أو حتى صدام حسين. شخصنة السياسية، في مقابل مأسستها، علة دائمة من علل الخطاب السياسي العربي، ولا يمكن له أن يتخلص منها ما لم يتخلص من بقية أوهامه، وتلك المفاهيم التي تقف حاجزاً بين هذا الخطاب والاندماج في عصره، وذلك لا يكون إلا بنقد صريح ومباشر وجذري لهذا الخطاب ومقولاته.والخلاصة هي أن الثقافة العربية، والتي يقوم عليها الخطاب السياسي العربي، هي ثقافة مؤدلجة من قمة الرأس حتى أخمص القدم، فلا ترى الأشياء إلا من خلال عدسات ترى فيها الأبيض والأسود الأخضر والأحمر والأصفر بشكل أحادي منفرد، ولكنها في النهاية لا تكون إلا لوناً واحداً، والعالم هو كل هذه الألوان. وسواء كنا نتحدث عن أهل الدين أو أهل الدنيا، اليسار أو اليمين، الرجعيين أو التقدميين، الموضوعيين والذاتيين، فإن العلة واحدة غالب الأحوال. أميركا إما أن تكون استعمارية أو صليبية، أو تكون رائدة الديموقراطية والعولمة في عالم اليوم، ولكن أن تكون دولة وقوة عظمى قابلة للتحليل والتعامل وفق نتائج ذلك التحليل، فتلك مسألة غير واردة على العقل المنتج للخطاب في الغالب الأعم. وما لم يتخلى الخطاب السياسي العربي عن أدلجته المفرطة هذه، بتبني مفاهيم جديدة وآليات معرفة جديدة، تتيح الفهم والتفسير، قبل القفز إلى التحويل والتغيير، فإن الحالة العربية ستبقى بركة من المياه الساكنة، لا فرق عندها بين ما جرى في كربلاء أيام الحسين، وما جرى في كربلاء أيام صدام حسين..فالزمان غير معترف به، والمكان دائماً هو المكان.[c1]* مفكر وأكاديمي سعودي[/c]
|
فكر
من أجل خطاب سياسي عربي جديد
أخبار متعلقة