قصة قصيرة
فراس الحركةخرج رجل من سجنه بعد خمسة عشر عاماً, أمضاها في صمت كامل, دون أن ينطق كلمة واحدة. كان يتوقع أن ما وفره من ليرات قليلة يستطيع أن يبدأ به حياته من جديد, لكن ليراته لم تكفِ إلا لشراء زجاجة خمر, ومن النوع الرديء. عاد إلى بيته المتواضع المليء بالغبار, دخل غرفة الجلوس, مسح الغبار عن الصور المعلقة, جلس على الأرض المتسخة متأملاً الصور, جرع زجاجة الخمر دفعة واحدة, تجشأ.. نـزع الصور من أُطرها, وضعها تحت قميصه المهترئ, وذهب إلى المقبرة. أخرج الصور, وضع صورة أخته الكبرى على القبر, ونبس بحروف مغمومة: - لماذا مت؟ ثم ابتسم وِسع شدقيه:- لا تقولي لأنك احتسيت الخمر, أنتِ تعلمين أن الخمر حرام؟سمعها تصرخ بعصبية:- حرام على النساء وحلال على الرجال؟ كان زوجي يعود كل يوم في آخر الليل مخموراً تماماً, وأنا محبوسة بين أربعة جدران, لا أجرؤ أن أخرج دون إذنه, وفي يوم من أيام جنوني, فرشت أغراض سكرتي, وجرعت الكثير من الخمر.. عاد زوجي ليراني مخمورة مثله, وراح يضربني ويسبني ويشتمني, فضربته وسببته وشتمته, فقتلني. هز الرجل رأسه بأسى, أخذ الصورة, قلب الصور, أخذ صورة أخته الصغرى, وضعها على القبر هامساً: - لماذا متّ؟سمعها تبكي, وتقول: - حضرت مع حبيبي فيلماً سينمائياً جديداً, وتأخرت في عودتي إلى المنـزل.. غضب أبي كثيراً, وراح يضربني, لم أسكت له, صرخت في وجهه, وقلت له الحقيقة كاملة, فذبحني بسكينه, وبكى بجواري. أخذ الصورة مغمغماً, قلب الصور, وضع صورة أمه على القبر, وجلس بجواره باكياً, ثم معاتباً بصوت محشرج: - لو مد الله بعمرك يا أمي لما حصل لنا ما حصل.شعر أن مساً خفيفاً يدف على رأسه, ثم سمع صوتها الحنون:- ما الفائدة يا بني؟ أبوك كان يلاطف ابنة اختي اليتيمة, وهي ابنة الرابعة عشرة من عمرها, عندما صارحته بالأمر ضربني, فحرمت نفسي عليه أمام الله, وطلبت الطلاق, فاغتصب ابنة أختي ليهينني.. الحمد لله يا ولدي, لقد استطعت أن أزوجها, واسترها, إلا أني مت قهراً وأنتم صغار. بكى الرجل كثيراً, رعشة مؤلمة كانت تغشى ذاكرته المرهقة, أخذ الصورة, قلب الصور, وضع صورة والده على القبر, يخطر بين أهدابه المبتلة وجهه الصارم, تنبعث منه ومضات مؤلمة, فصاح: - لقد دمرتني يا أبي.سمع صراخ أبيه الغاضب:- وأنت قتلتني لأني غسلت عار أختك.مسح دموعه بشيء من العصبية والحقد, أزاح عن جبينه بعض قطرات عرقه التي أعاقت سرده: - لقد اغتصبت ابنة خالتي, وقتلت أمي قهراً, وقتلت أختي, صدقني يا أبي, لو عدت حياً الآن لقتلتك مرة أخرى. وبكى.. تخفق حوله أطياف أخواته يحترقن, أخذ الصورة, وضع الصور حوله, وهو جالس بين القبور, وأضرم النار بها, وبنفسه.. تحولت المقبرة, وما حولها, إلى مجتمع من الأموات, ونـزل الناس من بيوتـهم لإخماد النار, درءاً للفضيحة, وخوفاً من امتداد النار إلى كامل المقبرة!