مع الأحداث
سيطرت عليَّ في عطلة العيد مجموعة من الأوهام المتصلة بالشأن الدولي العام تركزت أساساً حول نظرية المؤامرة، ووجدتني أفسِّر كل ما يحيط بنا وفقاً لها وأعتمد التفسير التآمري للتاريخ منهجاً لفهم الأمور واستجلاء المواقف ولقد حدث ذلك نتيجة متابعتي اليومية لأحداث الأزمة المالية التي هزت الاقتصاد الأميركي فتأثرت بها البنوك والأسواق، البشر والمؤسسات، المداخيل والأرزاق، فنحن أمام أزمة تعيد الى الأذهان ما حدث عام 1929 لكنها أسوأ منها مئة مرة، بحكم التغيرات الدولية والتطورات العالمية والأرقام الفلكية في عالم المال والتجارة التي لا يستطيع الإنسان أحياناً مجرد قراءتها أو النطق بها، وفي ظنِّي أن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 التي هزَّت الدنيا وغيَّرت العالم ليدفع العرب والمسلمون الفاتورة الكبرى فيها، تتكرر اليوم ولكن في ظل أطرٍ اقتصادية تنذر بوضع جديد وعالم مختلف.وإذا كان لي أن أسجِّل عدداً من الملاحظات المرتبطة بالوضع الدولي الراهن من جوانبه الاقتصادية والسياسية والثقافية فإنني أوجز ذلك في ما يلي:1 - إذا كنَّا نرفض التفسير التآمري للتاريخ فإننا لا نرفض نظرية المؤامرة برُمتها بل نعتقد أنها موجودة منذ ظهور الإنسان على الأرض. فمنذ الجريمة الأولى عندما قتل «قابيل» «هابيل» وحاول أن يخفي فعلته فإننا كنا مع الميلاد المبكر لما يمكن أن نطلق عليه «فقه المؤامرة»، وأنا أعتقد أحياناً أن كثيراً من الأحداث التي مرت في القرن الأخير تندرج تحت المفهوم الواسع لنظرية المؤامرة، فسقوط الخلافة العثمانية قد يكون مؤامرة، كما أن سقوط الاتحاد السوفياتي قد يكون هو الآخر مؤامرة، كذلك فإن اغتيال الرئيس الاميركي جون كيندي والأميرة ديانا هما حدثان يرقيان إلى مستوى المؤامرة أيضاً، وأنا شخصياً لا يخالجني شك في اختفاء كثير من الظواهر والأحداث تحت مظلة مؤامرة كبرى في عالمٍ تقدمت فيه أجهزة التخابر ومراكز الأبحاث بشكل ملحوظ حيث لا توجد فوارق واضحة بين السياق الطبيعي والسياق المصطنع. ويكفي أن نتذكر هنا أن الأساليب الجديدة في الحكومات الخفية للنظم الكبرى أصبحت قادرة على خلق المصادفة وتركيب سياق أحداثٍ متعمد ليكون حصاده إيجابياً لمن صنعوه ووقفوا وراءه.2 - اختلفت الذكرى السابعة لهجمات 11 أيلول عن سابقاتها وسمعنا أصواتاً عالية تعيد قراءة ما جرى وتفسير ما حدث والخروج عن النظرية المكررة لتفسير ذلك الحادث المشؤوم، فسمعنا من يقول إن العرب والمسلمين لا يتحملون المسؤولية عن تلك الجريمة، بل إن أصابع الاتهام تشير إلى عناصر أميركية وتدبيرات يهودية، إلاَّ أننا يجب أن نفتش دائماً بعد كل جريمة عن أصحاب المصلحة فيها، وعلى رغم من أن هذا المنطق يستفز الأميركيين بشدة إلا أن مجرد تكراره من خلال بعض الكتب التي صدرت والمقالات التي نشرت توحي بأن في الأمر مؤامرة كبرى هدفها المزيد من الاضعاف للعرب والمزيد من الفرقة بين المسلمين لأننا يجب أن نفكر في صاحب المصلحة فيما حدث وعن أولئك الذين شنوا حرباً على المسلمين في أفغانستان، وعلى العرب في العراق، وحاولوا تمزيق أواصر العالَمين العربي والإسلامي بصورةٍ غير مسبوقة.3 - إن دهاء التاريخ يعلمنا كل يومٍ جديداً بل يكرر الأحداث من منظورٍ مختلف لا يتوقف عند حدٍ معين، فالأزمة المالية الحالية والمرشحة للتصاعد هي في ظني - ووفقاً لأوهام عطلة العيد - مؤامرةٌ من نوعٍ جديد بدأت في شهر ايلول بعد سبع سنواتٍ فقط من المؤامرة الأولى، والهدف هذه المرة هو احتواء أموال العرب وابتلاع أرصدتهم وخلق مناخٍ جديد من الابتزاز الاقتصادي بعد الابتزاز السياسي، وتلك هي العقلية الغربية المتفوقة التي تحصد ما يزرعه غيرها وتستولي على ما ليس من حقها في ظل شعاراتٍ براقة وأفكارٍ مستحدثة ورؤى خادعة. لذلك فإن الارتباط يبدو واضحا بين أحداث أيلول 2001 وأحداث أيلول 2008.4 - إن ما نقوله الآن ليس فكراً تلفيقياً يحاول إرهاق الحجة والربط بين ما ليس بينه ارتباط، ذلك أننا نظن - وامتدادًا لأوهام نظرية المؤامرة - أن الإدارة الأميركية للرئيس جورج دبليو بوش قد جرى إعدادها والدفع بها من خلال اليمين الأميركي المحافظ والدوائر اليهودية لكي تؤدي هذه المهمة التي قامت بها في بداية فترة حكمها الأولى ونهاية فترة حكمها الثانية، ولكي تقوم بإنجازين كبيرين أحدهما سياسي دولي عام 2001 والثاني اقتصادي عالمي عام 2008، ولا شك في أن الشعوب الصغيرة والدول الفقيرة والمناطق ذات الثروات الطبيعية وفي مقدمها النفط هي التي سوف تتحمل العبء الأكبر من نتائج ما حدث، بل إنني أزعم أن ما جرى في ظل هذه الإدارة - وهي في ظني واحدة من أسوأ الإدارات الأميركية في التاريخ - قد قامت بتنفيذ مخططٍ خفي ولكن نتائجه ظاهرة وواضحة أمام كل ذي بصيرة.5 - إن سندات الخزانة الأميركية التي يجري الترويج لتحصيلها سوف تتحول إلى عملية جباية دولية تستنزف بواسطتها الولايات المتحدة الأميركية أموال الدول الغنية وكأنها توظف خيرات هذه الدول لخدمة المواطن الأميركي وتعزيز أوضاع المستهلك داخل الولايات المتحدة وخدمة دولة الرفاهية التي تباهي بها أميركا غيرها من دول العالم. إننا بحق نعيش عصر الـ Pax- Americana بكل ما تحمله هذه التسمية من معانٍ تذكرنا بسطوة الإمبراطورية الرومانية منذ عشرات القرون. إننا نعيش عصراً يسحق فيه التفوق العقلي ما عداه وتتمكن فيه الأساليب العلمية المتطورة من اختراق العقول واستنزاف الجيوب وتحويل العالم إلى ضيعة يمرح فيها الأقوياء.6 - إننا نحن العرب نبدو أحيانًا «كالأيتام على مائدة اللئام» على رغم أن لدينا عقليات متفوقة ومستويات تعليمية رفيعة، وما زلت أذكر من عملي في وزارة الخارجية المصرية أنني رأيت ديبلوماسيين رفيعي المستوى من دول الثراء العربي واقتصاديين من الطراز الأول ممن حصلوا على درجاتهم العلمية العليا من الجامعات الأميركية والأوروبية فلا تنقصهم الخبرة ولا تعوزهم الرؤية، ولكنه عالم يتحكم فيه الأقوياء قبل الأغنياء ويسيطر فيه القادرون على ما عداهم ولا حساب فيه لأحد ما دامت تحميه قوة وتدعمه سلطة ويعتمد على عقلٍ عصري يدرك كل ما يدور ويفسر كل ما يحدث بل يصنع المستقبل بإرادته وحدها.7 - قد يتهمني البعض بالمغالاة في الوهم والاستغراق في تفسير المؤامرة، ولكن حركة التاريخ علمتنا الكثير وجعلتنا نقترب من مراحل متقدمة في فهم الآخر وعقليته وأسلوب تفكيره ومزاجه البشري وحسِّه الإنساني، ولقد استقر في ضميرنا بارتياح أن الحياة صراعٌ مستميت لا مكان فيه للضعفاء ونحن نقصد هنا بالضعفاء فقراء العقل وناقصي الخبرة ومحدودي الرؤية. ولم يعد يخالجني شك الآن في أن الرئيس بوش جاء إلى السلطة بإدارته لكي يغيَّر شكل العالم سياسياً واقتصادياً لصالح قوى اليمين المحافظ والحلف غير المقدس بين بعض العناصر المسيحية المتطرفة والمراكز الصهيونية المتشنجة، ولقد حان الوقت لمراجعة ما حدث ودراسة ما جرى حتى ندرك بوضوح أين نحن من عالم اليوم.8 - إن خياراتنا نحن العرب لا تبدو واسعة بل إن جزءاً كبيراً منها يتآكل بفعل أساليب الآخر وضغوطه، كما أن الدنيا لا تعطينا أحياناً فرصة اللحاق بأسباب التقدم وعوامل الازدهار، لذلك كان طبيعياً أن تتوارى إمكانات دولٍ أكبر منَّّا وأضخم، وأشير هنا إلى الصين واليابان، وهما المطالبتان الآن بدفع جزءٍ لا بأس به من فاتورة الأزمة المالية العالمية التي بدأت في أيلول 2008.9 - إن المضاربات في أسواق العملات المختلفة تجعل الولايات المتحدة الأميركية قادرة على التحكم في غيرها لأنها مدينة بعُملتها الوطنية، لذلك فإنه لا يؤرقها كثيراً ارتفاع حجم المديونية أو هبوطه ما دامت تملك زمام المبادرة وسياسات البنوك ومفاتيح الخزائن.10 - إن الارتباط وثيق بين أيلول 2001 و أيلول 2008 فكل منهما مكملٌ للآخر لأنه لا توجد سطوة سياسية من دون سيطرة اقتصادية، لذلك فإن الإدارة الأميركية الحالية جمعت الأمرين في سلة واحدة وجعلت منهما ظاهرة جديدة تجتاح عالم اليوم وتشير إلى أن نهاية الحرب الباردة سياسياً لا تعني بالضرورة نهايتها اقتصادياً. إننا أمام عالمٍ تتجه فيه معدلات التقدم لصالح قوى على حساب قوى أخرى، ولا يستطيع فيه الضعفاء إلا أن يقبلوا الضغوط وأن يستجيبوا للمخططات وكأنما كتب عليهم أن يكونوا دائماً فريسة للتحالف بين الأقوياء في عصرنا.هذه ملاحظاتٌ أردنا أن نبسط فيها بعض أوهامنا وأن نجترَّ عددًا من أفكارنا وأن نسمح للخيال بأن يضع يدنا على مفاتيح الحقيقة. بقي أن أقول إنني لا أرى العقل اليهودي بعيدًا عما جرى ولا بريئاً مما حدث، وأعود لأقول في النهاية إن الأزمة المالية العالمية جزءٌ مكمِّل للمؤامرة السياسية الدولية وأقول بارتياح موجهاً حديثي إلى الإدارة الأميركية الراحلة: لقد بدأتم بالسياسة وانتهيتم بالاقتصاد، لقد بدأتم بالسلطة ثم انتهيتم بالثروة، لقد بدأتم بالقوة ثم استكملتم بالمال.[c1]*عن/ صحيفة “الحياة” اللندنية[/c]