حذّر الحكومة السويسرية من مغبة اعتماد قرار منع بناء المآذن في سويسرا، ملوحاً بمقاطعة إسلامية شاملة، تجارياً وسياحياً، وسحب الأرصدة المالية من بنوكها، وذلك رداً على نتائج الاستفتاء الذي قضى بحظر بناء المآذن في سويسرا. من يستمع لهذا التحذير يظن أنه صادر من قبل بعض الرموز الدينية التي اعتادت إلهاب عواطف الجماهير في البلاد الإسلامية ودفعها لمقاطعة المنتجات التجارية لتلك الدول التي تسيء للإسلام والمسلمين، كما حصل في قضية الرسوم المسيئة في الدانمارك والفيلم المسيء في هولندا وأزمة الرسوم في السويد... إلخ. لكن مهلاً، فصاحب هذا التحذير -هذه المرة- المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) الدكتور عبدالعزيز بن عثمان التويجري، الداعية الأكبر للحوار الديني والتحالف الحضاري بين المسلمين والغرب وصاحب الطروحات الشهيرة في «بناء علاقات دولية قوامها الحوار، تكوِّن منحى جديداً في السياسة الدولية يسعى إلى إزالة أسباب التوترات والاضطرابات والقلاقل التي تهدد استقرار المجتمعات الإنسانية، بل يصل خطرها إلى تهديد الحضارة الإنسانية في الصميم».ترى ما هي دوافع داعية الحوار الحضاري إلى التلويح بسلاح المقاطعة في الوقت الذي يسعى فيه كثير من العلماء والقيادات الإسلامية سواء في سويسرا أو في البلاد الإسلامية إلى التهدئة وضبط النفس وتحكيم العقل وتجنب الدخول في دوامات ردود الأفعال الانفعالية؟!قارن بين حماسة المدير العام للإيسيسكو للمقاطعة وهدوء مدير مؤسسة «التعارف» في جنيف الدكتور عبدالحفيظ الورديري حين قال: «علينا أن نكون فاعلين، ونعمل على طمأنة هؤلاء، ونفتح لهم أبوابنا، ونوضح لهم الصورة الحقيقية للإسلام». أو بالتحليل المتبصر الذي عبّر عنه عادل الماجري رئيس «رابطة مسلمي سويسرا» حين قال: «لقد فوجئنا بهذه النتيجة، ليس فقط نحن المسلمين، بل أيضاً كل من دعا إلى رفض هذه المبادرة من السلطات الرسمية، ومن أغلبية الأحزاب السياسية والأديان الأخرى، ومنظمات المجتمع المدني». وأضاف: «لابد أن نفكر في الآليات التي استخدمت خلال حملة الاستفتاء، فالظاهر الآن أن سبب القبول يعود لعمليات التخويف والتهويل وخلط كثير من الملفات التي استعملها أصحاب المبادرة من حزب الشعب السويسري في تخويف السويسريين من الإسلام، فأصبح من الصعب جداً على المواطن السويسري أن يميّز بين منع المئذنة وأشياء أخرى».يقول الدكتور التويجري: «سنحاول بالطرق الدبلوماسية إقناع سويسرا بعدم قانونية استفتائها وبأن ما قامت به يمس بحقوق المسلمين الذين لهم الحق كل الحق، في أن يؤدوا عباداتهم في مساجدهم طبقاً للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان». ويضيف: «إن الإصرار على تنفيذ هذا القرار قد يدفع الإيسيسكو إلى حث دول العالم الإسلامي على مقاطعة سويسرا».والسؤال هنا؛ كيف نقنع الحكومة السويسرية بعدم قانونية استفتائها؟ الاتحاد السويسري مكون من 26 كانتوناً -مقاطعة- تأخذ بنظام الديمقراطية المباشرة، أي من حق الشعب -دستورياً- التدخل في القرار التشريعي مباشرة عبر عملية الاستفتاء الشعبي، ويرهن الدستور الفيدرالي السويسري ذلك بجمع 100 ألف توقيع حتى يتم طرح أي مبادرة للاستفتاء العام، ومن ثم تكون الحكومة الفدرالية ملزمة بنتائجها. ثم من الذي قال إن الحكومة السويسرية في صف مبادرة حظر المآذن؟ كل الشواهد تؤكد أن الحكومة ومجلسي النواب والشيوخ ومعظم الأحزاب السياسية وكافة الهيئات الدينية: المسيحية واليهودية، ومجلس الأديان، وكافة منظمات المجتمع المدني والمعنية بحقوق الإنسان، كانت كلها متضامنة مع المسلمين في رفض المبادرة وفي تأكيد حق المسلمين في بناء المآذن، وقد أعلنوا مواقفهم صراحة في العديد من المناسبات. ومن يراجع سلسلة التصريحات الرافضة لمبادرة التيار اليميني المتطرف منذ أن بدأ دعوته لحظر المآذن في 17 يونيو 2007، يتأكد من مصداقية الحكومة السويسرية وكافة الفعاليات السياسية والدينية. ويجب ألا يغيب عنا أن المجتمع السويسري هو أكثر المجتمعات الأوروبية تسامحاً وقبولاً للتعايش والتعددية الدينية والثقافية، ويكفي أن نعلم أنه خليط من ثلاثة شعوب تتحدث الألمانية والفرنسية والإيطالية، وتتعايش بسلام وتعاون، كما أن السويسريين ليسوا عنصريين أو معادين للإسلام، والإسلام ثاني ديانة بعد المسيحية، ويتمتع المسلمون هناك بكافة حقوقهم المدنية وحرياتهم الدينية من غير أي تمييز، وقد تضاعفت أعدادهم من 30 ألفاً إلى 350 ألفا خلال 30 سنة وأصبحوا يشكلون 4.5 في المئة من تعداد السكان البالغ 7.5 مليون مواطن. ولذلك ينبغي الحذر من المسارعة في الحكم واتخاذ قرارات من شأنها الإضرار بالمسلمين هنا، وقد تزيد صورة الإسلام والمسلمين تشويهاً ويستغلها اليمين المتطرف لزيادة شعبيته ونفوذه، يجب عدم إعطاء الفرصة لهؤلاء الكارهين للإسلام للإيقاع بالمسلمين في ردود أفعال غير محسوبة.إن عسر هضم الأقليات الدينية والعرقية لدى قطاع يميني متطرف ليس وزر الحكومة السويسرية حتى ندعو العالم الإسلامي لمقاطعتها، وإذا كان اليمين قد استطاع التلاعب بنفسية المواطن السويسري وتخويفه من «الأسلمة» وكسب أغلبية 57 في المئة، فلحظة التصويت، لحظة عابرة لا تمثل موقفاً عاماً ثابتاً، ويبقى أن هناك 43 في المئة من الشعب مع المسلمين، وأقلية اليوم قد تنقلب على أغلبية الغد إذا أحسنت القيادات الإسلامية هناك التعامل مع القضية، وهي أغلبية بسيطة وليست ضد المساجد بل المآذن، وهي لا تستحق المقاطعة التي قد يكون ضررها علينا أكبر من نفعها، وستبقى مئذنة جنيف البالغة 23 متراً، والتي بنيت عام 1978، عالية شامخة بالقرب من مقرات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، كما يكفي أن نعلم أن السويسريين أنفسهم غاضبون من هذه النتيجة ويسعى زعيم حزب «الخضر» إلى دراسة إمكانية الطعن في المبادرة أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، كونها انتهاكاً للحرية الدينية التي تضمنتها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.وقد عبّر الأساقفة السويسريون عن استيائهم من النتائج بقولهم: «إنها ضربة قاسية لحرية المعتقد وللحمة المجتمع السويسري»، وتضامن معهم الفاتيكان. الأوْلى من الدعوة للمقاطعة، العمل على كسب عقول وقلوب هؤلاء الذين انخدعوا بطروحات اليمين المتطرف المضللة، عبر تهدئة مخاوفهم وتوضيح الصورة الحضارية للإسلام، فذلك منهج الإسلام في علاقته بالآخرين، «الدفع بالتي هي أحسن» هو الأسلوب الأمثل لكسب الشعوب والرأي العام العالمي إلى مؤازرة قضايانا ولندع أساليب التهديد والوعيد، فقد ثبت عقمها وضررها.[c1] صحيفة ( الإتحاد) الإماراتية [/c]
|
اتجاهات
وقفة مع الدعوة لمقاطعة سويسرا!
أخبار متعلقة