محمد زكرياعندما توارت مجلة " الحكمة " اليمانية عن سماء اليمن الفكري والثقافي في سنة 1941م والتي كانت بمثابة رمز التغيير و التجديد في الحياة السياسية والاجتماعية وغيرهما في المملكة المتوكلية اليمنية في عهد حكم الإمام يحيى ( 1904 - 1948م ) الذي فرض عزلة شديدة وقاسية على البلاد والعباد. فقد كانت المجلة المتنفس الوحيد للأقلام الحرة والشباب المثقف المستنير الذين تطلعوا إلى الخروج من النفق السياسي المظلم إلى آفاق رحبة من التطور والتقدم والازدهار . ولقد كانت " الحكمة" صوت المثقفين المتعطشين إلى المعاني السامية والمضيئة وهي إقامة دولة العدالة ، والدستور ، والديمقراطية والعمل على حدوث نهضة في مختلف نواحي اليمن. وكانت تلك المعاني السامية والمبادئ المضيئة كافية أنّ يجهز الإمام على المجلة بشتى الوسائل وبمختلف الطرق . وعلى أية حال ، فقد تمكن الإمام يحيى من تصفيتها وذلك بعد أنّ أصدر أمراً بتوقيف صدروها هي ومجلة (الإيمان) والتي كانت الأخيرة بمثابة الناطق الرسمي لنظام حكمه ، والصادرة سنة 1926م . وكانت حجة الإمام الرسمية هو أنّ الورق شحيح وغير متوفر بسبب توقف استيراده نظراً لاندلاع الحرب العالمية الثانية . وعقب انتهاء الحرب عادت (الإيمان) مرة أخرى إلى الظهور ، أما مجلة (الحكمة) ، فقد توارى جثمانها من دون أنّ يحس بها أحد ، وكان الإمام يسعى من وراء ذلك أنّ تزحف عليها رمال النسيان ، فلا أحد يذكرها من قريب أو بعيد .[c1](الحكمة) نسيم الحرية[/c]وكان من جراء ذلك أنّ تجرع الشباب المتعلم والمثقف المستنير وأقلام الأحرار مرارة موت (الحكمة) اليمانية على يد الإمام يحيى . والحقيقة لقد كان رحيلها عن الحياة الثقافية بمثابة كارثة حقيقية لصوت هؤلاء المثقفين التنويريين الذين كانوا يعبرون في صفحاتها عن طموحاتهم العريضة ، وآمالهم الكبيرة ، كانت المجلة بالنسبة لهم نسيم الحرية وبالأحرى كانت المجلة تمثل الاتجاه الفكري الوطني في تلك الفترة التاريخية التي بدأت ملامحه تتضح شيئاً فشيئاً فكان القضاء عليها ضربة قاسية للفكر الوطني والسياسي الحر في اليمن . وبعد أنّ تم تصفية (الحكمة) خلت الساحة الثقافية من الكتاب ، والأدباء التنويريين ، والمثقفين المتعطشين إلى آفاق الحرية الواسعة والرحبة أو بعبارة أخرى لم يعد يسمع صوت معاناة الناس ، وطموحاتهم وأمانيهم في التخلص من قبضة الحكم الإمامي الفولاذية ، وحكمه الفردي المطلق ، ودخول البلاد في عزلة سياسية مخيفة .[c1]البريد الأدبي[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد شعر بعض الأدباء والكتاب من الشباب المثقف بفراغ هائل يكاد يدمر حياتهم بسبب خلو الساحة الفكرية والثقافية من مجلة (الحكمة) اليمانية . فقام بعض هؤلاء الكتاب والأدباء من الشباب المستنير الذين كان يكتب البعض منهم في صفحات (الحكمة) بكتابة رسائل أدبية إلى بعضهم البعض ، بهدف أنّ ينفسوا عن طاقاتهم الإبداعية الأدبية من ناحية وأنّ يكون هناك اتصال فكري فيما بينهم من ناحية أخرى حتى يبددوا سحب الملل والخمول والركود الكثيف الذي خيم على حياتهم الفكرية والثقافية . وعرفت تلك الظاهرة الثقافية في اليمن ب- ( البريد الأدبي ) . والحقيقة أنّ الأدباء ، والكتاب الذين شكلوا البدايات الأولى لملامح ذلك البريد الأدبي ، كان همهم الأول يدور حول الأدب بصورة بحته ولكن مع مرور الوقت اتسعت دائرة الأقلام التي أدلت بدلوها في البريد الأدبي واتخذت كتابات هؤلاء الكتاب في المجلة - كما يحلو لأصحاب البريد الأدبي أنّ يلبسوها تلك التسمية -- منهجاً مغايراً عن الأدب وهو منهج السياسة ، وبتعبير آخر ، لقد عثر هؤلاء الكتاب والأدباء ، والمثقفون من الشباب المستنير على متنفس يعبرون عن آرائهم , وأفكارهم تجاه سياسة الإمام يحيى الفردية ، ولكن كانت آراؤهم , أفكارهم السياسية تغلف بغلاف أدبي حتى لا يقعوا فريسة في أنياب الإمام الحادة ، فيزج بهم في غياهب السجون ، ويشردهم . وسنتحدث بالتفصيل عن الاتجاه الوطني أو ملامح الفكر الوطني والسياسي سواء في مجلة (الحكمة) اليمانية أو في (البريد الأدبي) واللتين كانا لهما الأثر الكبير والعميق في انفجار ثورة 48م أو الثورة الدستورية - كما يحلو لبعض الباحثين الحاليين تسميتها - . في وجه الحكم الإمامي الذي ألقى بظله الثقيل على اليمن واليمنيين ردحاً من الزمان . [c1](الحكمة) والاتجاه الوطني[/c]والحقيقة الماثلة أمامنا عندما نتصفح مجلة (الحكمة) اليمانية منذ أنّ بزغ نجمها في سماء اليمن الفكري والثقافي سنة 1938م وحتى لفظت أنفاسها في سنة 1941م ، كانت مقالاتها الأشمل الأعم سواء الأدبية أو التاريخية ، أو الاجتماعية أو الاقتصادية وغيرها من الموضوعات المتنوعة والمختلفة كانت تدور حول هدف ومحور واحد هو التطلع إلى آفاق واسعة في مختلف ميادين الحياة ، وكسر طوق العزلة السياسية الذي فرضها الإمام يحيى على اليمن وإحداث نهضة في مختلف نواحي الحياة في البلاد . ولا يفهم من هذا أنّ المجلة كانت تنادي صراحة بإقامة حكم دستوري وشوروي ونشر العدالة بين الرعية ، وصرف الأموال العامة في أبوابها ونقد الحكم الإمامي القائم وإنما كست مقالاتها بالتاريخ و الأدب بشقيه النثري والشعري بهدف إيقاظ السلطات الإمامية من سباتها والخروج من مستنقع التخلف والركود والحقيقة هناك شيء مهم لابد من الإشارة إليه وهو أنّ المجلة كانت تخاطب عقول وقلوب الشباب المتعلم والمثقف المستنير فحسب وهم بالنسبة لشريحة المجتمع اليمني في ذلك الوقت يمثلون فئة قليلة . ولا نذهب بعيداً إذا قلنا أنّ ثورة 48م قامت على أكتاف أفكار هؤلاء الشباب اليمني المستنير المتعطش للحرية ، و الانعتاق من دياجير الظلم والظلام . وأمّا الأعم الأغلب من الناس كانوا من العامة البسطاء بعيدين تماماً عما يطرحه هؤلاء الكتاب والأقلام الحرة من أفكار وآراء سياسية حرة تنادي بالدستور ، والشورى ، والعدالة ، والإصلاح والتطوير . ويقال إنّ من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى فشل ثورة 48م هو تخاذل العامة من الناس عن الوقوف معها ومساندتها . أو بعبارة أخرى كان هؤلاء الكتاب والأدباء والمتعلمون والمثقفون التنويريون في وادِ وغالبية الناس البسطاء العامة في وادِ آخر.[c1]المثقفون وقود الثورة[/c]و على أية حال ، لقد كان هؤلاء الكتاب والأدباء الأحرار و الشباب المتعلم و المثقف المستنير وقود ثورة 48م ، فقد أعدم الكثير منهم عقب فشل الثورة على سبيل المثال زيد الموشكي والذي كان ثاني أثنين يعدم هو والإمام عبد الله الوزير ، أحمد البراق ، محيى الدين العنسي ، و أحمد حسن الحورش وغيرهم من أصحاب الفكر التنويري . وكان هناك الكثير من هؤلاء الشباب المتعلم المثقف المستنير وراء القضبان ، والبعض الآخر فر من وجه السلطة الإمامية إلى أماكن أخرى خارج المملكة المتوكلية اليمنية أمثال المفكر اليمني الكبير الشهيد محمد محمود الزبيري .[c1]لسان حال الشعور الوطني[/c]والحقيقة لقد كانت مجلة (الحكمة) تجسد وتجسم الطموحات النبيلة ، والآمال المشرقة للشباب المتعلم والمثقف المستنير ". . . فإننا لا نغالي إذا قلنا أنّ هذا المجال ( الجانب الوطني ) كان غالباً مسيطراً على مواد المجلة بشكل عام إلى الحد الذي يمكن معه أنّ نقول إنّ المجلة - بكليتها - كانت لسان حال الشعور الوطني النامي في اليمن حينذاك ، والمعبرة عن الروح الوطنية - المحلية - التي بدأت تنبثق على يد جماعات المتعلمين والمثقفين - أي الانتلجنسيا - والتي بدأت تتضح على يد أبناء الطبقة المتوسطة . . وقد ظهر هذا جيداً في مجال الأدب والتاريخ . كذلك ظهر في الموضوعات المختلفة المتعددة التي كانت المجلة تحرص على الإشارة في ثناياها إلى الوطن وضرورة البذل والتضحية من أجله ، والإشادة بتراثه ، وأمجاده ، وأعمال رجاله العظام " . [c1]الوطن والوطنية[/c]ما يلفت نظرنا أنّ المجلة التي كانت حريصة على عدم التحدث بصراحة في نقد السلطة الإمامية القائمة والتحدث بوضوح عن الوطنية بطريقة مباشرة ، فقد عمدت إلى تغليف المقالات التي تنشرها في صفحاتها بغلاف أدبي خوفاً من السلطات الإمامية القمعية . ولكنه يستوقفنا في عددها الأول هنا مقالة صريحة ومباشرة تتحدث عن الشعور الوطني . " وقد بدأت (الحكمة) تتحدث عن الوطن والوطنية صراحة منذ عددها الأول ، فقد نشرت مقالاً بعنوان : (( الوطن وواجبات المرء نحوه )) . . . وتضمن المقال التعريف بالوطن وحقوقه على أبنائه وواجبات المواطنين نحوه ، وجاءت عباراته تحمل الروح المثالية الخطابية " . وتواصل (الحكمة) نشر المقالات التي تتحدث عن الشعور الوطني " فقد نقلت " الحكمة " عن جريدة " ألف باء " الدمشقية " فقرة من مقال بعنوان (( ابن العروبة )) تشيد فيها باستقلال اليمن وأنها موطن العرب الحقيقي ، ثم علقت على هذه الفقرة بقولها : " فيجب على كل وطني مخلص السعي فيما يرفع من أمته ويزيدها مكانة وفخراً ، وأنّ يبذل نفسه ونفيسه في سبيل الدفاع عن وحدتها واستقلالها وفي خدمتها كل على مرتبته وحرفته ووظيفته بالتعاون والتناصح والاتحاد والسعي في كل صالح ، والجد في التقدم والاستعداد بكل ممكن بصورة حثيثة للتتم النعمة وتنمو الثروات وتعيش الأمة سعيدة موفورة الكرامة مهابة الجانب ، ويتم استقلالها الاقتصادي كاستقلالها السياسي . . . " . [c1]الوريث والفكر الوطني[/c]ومن المقالات الهامة التي أحدثت أثراً عميقاً في الحياة الفكرية الوطنية بين الكتاب ، والأدباء الأحرار ، والشباب المثقف المستنير الذين ساروا على نهجه حتى بعد توقف نبضات قلب مجلة (الحكمة) اليمانية بأمر من الإمام يحيى هي مقالات رئيس تحرير المجلة أحمد عبد الوهاب الوريث التي كانت مقالاته بمثابة الزلزال الذي زلزل كيان سلطة الإمام وأركانه , ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ مقالاته كانت تمهد أو إرهاصات لقيام ثورة 48م . " وتعد حلقات أحمد عبد الوهاب الوريث الشهيرة بعنوان (( الإصلاح )) أبرز كتابات هذا النوع من المقالات التي دعت إلى الإصلاح والتطوير " . حقيقة أنّ مقالات الوريث دارت حول (( ماضي المسلمين وحاضرهم ، كيف يستعيد المسلمون سيرتهم الأولى )) غير أنه كان من طرف خفي يشير إلى الأوضاع المتدهورة التي يعيشها اليمن وأبناؤه على تباين مشاربهم الاجتماعية ، فقد كانت مقالاته تتدفق بالروح الوطنية أو بالأحرى كانت مقالات العديد تعبر عما يجيش في نفوس المفكرين الأحرار من أدباء وكتاب ، ومثقفين مستنيرين بضرورة الخروج من النفق المظلم السياسي إلى آفاق رحبة وواسعة . وعندما كان يضرب أحمد عبد الوريث الأمثال عن أسباب تدهور المجتمع الإسلامي كان يعني في المقام الأول أسباب تخلف وجمود المجتمع اليمني.[c1]شكلت ملامح الثورة[/c] والحقيقة أن تفكير أحمد الوريث " كان امتداداً للدعوة الإصلاحية السلفية التي برزت في بداية هذا القرن على يد جمال الدين الأفغاني ثم الشيخ محمد عبده ، وتلميذه رشيد رضا " . والحقيقة أنّ مقالات الوريث رسمت الطريق الذي ينبغي أن يسير عليه أصحاب أقلام الحكمة وهي الإصلاح والتطوير في شتى مرافق الدولة . ومن يتأمل المقالات التي نشرت على وجه مجلة (الحكمة) اليمانية يلفت نظره اللون السائد فيها وهو الاتجاه الوطني . فقد كانت مقالات الوريث تعالج قضية الوطن والوطنية تارة بصورة مباشرة وتارة أخرى غير مباشرة " وكأنه ( الوريث) يلفت نظر معاصريه من قراء ، وكتاب ، ومسؤولين إلى أهمية هذه النواحي ( الاتجاه الوطني ) ، ويطالبهم بضرورة الاهتمام بها لمواكبة العصر ، أو على الأقل للحاق بمظاهر النهضة الحديثة التي بدأ ظهورها في أنحاء العالم الإسلامي حينذاك " . ومرة أخرى نقول إنّ مجلة ( الحكمة) اليمانية علىالرغم من عمرها القصير الذي لم يتجاوز العامين ، فقد نحتت في مجر الفكر اليمني الوطني والذي كان له الأثر العميق في قيام ثورة 48م العظيمة أو بالأحرى شكلت المقالات الوطنية في (الحكمة) ملامح الثورة الرائعة التي انبثقت كمارد من أعماق تراكمات البطش ، والجهل ، والجمود ، والخمود وعلى الرغم من فشلها إلا أن التيار الوطني ظل يحيا في نفوس الكتاب ، والأدباء أصحاب الفكر التنويري ، والمتعلمين والمثقفين أصحاب الأقلام الحرة . والحقيقة لقد كان الفكر الوطني والسياسي التحرري في اليمن بمثابة النبراس الذي صارت عليه الحركات الوطنية أمثال حركة 55م أي حركة (الثلايا) ، وثورة 26سبتمير المجيدة التي غيرت وجه تاريخ اليمن الحديث والمعاصر وأعادت اليمن واليمنيين مرة أخرى إلى طريق الحضارة والتقدم والازدهار ، والبناء والنماء . [c1]بعد رحيل (الحكمة) [/c]قلنا سابقاً : إنّ الكتاب والأدباء أصحاب الفكر التنويري ، والمتعلمين والمثقفين أصحاب الفكر الوطني تجرعوا مرارة رحيل مجلة (الحكمة) اليمانية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية . بسبب أنها كانت المتنفس الوحيد لهم ليعبروا عن آرائهم ، وأفكارهم التي كانوا يصبغونها بالرمزية حتى لا يقعوا تحت طائل عقوبات الإمام يحيى . ولم تمض سنوات قليلة حتى ظهرت في سماء اليمن الفكري والثقافي ( البريد الأدبي) . وكانت بداية ذلك البريد الأدبي أنّ بعض الأصدقاء من الكتاب والأدباء أحسوا بفراغ ثقافي مخيف أو بالأحرى شعروا بالملل ، والخمول يكاد يقضيان عليهم فبعثوا فيما بينهم برسائل أدبية ، وكان كل واحد منهم يعقب على الآخر ، ومع مرور الوقت اتسعت دائرة البريد الأدبي وبعبارة أخرى ساهم فيها عدد غير قليل من الأدباء والكتاب من صنعاء ، و ذمار ، و تعز وغيرها من المدن الهامة بل أنّ بعض المدن النائية شاركت في ذلك البريد الأدبي ومع اتساع دائرة البريد الأدبي اتسعت أيضاً دائرة نشاطاته الفكرية ، فلم يكن قاصراً على الموضوعات الأدبية البحتة في بدايات مراحله الأولى بل صار يسلط الأضواء على الأوضاع السياسية ، والاجتماعية ، والاقتصادية المتدهورة التي أصابت المجتمع اليمني ولكن مغلف بأسلوب أدبي خوفاً من بطش السلطة الإمامية القائمة. ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ ظهور البريد الأدبي على ساحة الحياة الفكرية والثقافية في اليمن كانت بمثابة رد فعل قوي على رحيل مجلة ( الحكمة) اليمانية في سنة 1941م والحقيقة أنّ الأدباء والكتاب الأحرار والمتعلمين والمثقفين التنويريين الذين ساهموا في (البريد الأدبي) كانت لهم مشاركة فعالة وقوية في قيام ثورة 48م ولكن عقب فشل الثورة البعض منهم أعدموا ، والبعض الآخر زج بهم في غياهب السجون الموحشة ، والبعض شردوا من ديارهم . [c1]متى ظهرت فكرة البريد الأدبي ؟[/c]وطرح الدكتور سيد مصطفى سالم على أحد الذين ساهموا في البريد الأدبي وهو الأستاذ أحمد عبد الرحمن المعلمي هو متى ظهرت فكرة البريد الأدبي إلى الوجود الثقافي ؟ ، فيقول : " فقد أشار الأستاذ أحمد عبد الرحمن المعلمي إلى هذا ، بقوله : " الذي أعلمه أنه ليس هناك تاريخ محدد لفكرة البريد الأدبي أو تاريخ معين هذا ما عرفته . وحقيقة أنّ كثيرين ذوي ثقافة متقاربة وكشباب متطلع في عصر كانت الثقافة فيه في اليمن محدودة أو نادرة . . فكانت أية قصيدة تظهر أو رسالة من الرسائل من صديق إلى صديقه يحصل الإعجاب لدى المرسل إليه فيعرض القصيدة أو الرسالة على أعز أصدقائه ، وتتبادل في المحيط الذي وصلت إليه كصنعاء ، أو تعز أو إب أو ذمار أو الحديدة . وكان يحصل الإعجاب أو الانبهار بتلك القصيدة أو الرسالة ويرد من وصلت إليه . وحينما كان يصل الرد يأخذ دوره في التداول إذ لم يكن في الحكم الإمامي صحافة أو جرائد أو وسائل نقل غير البريد على البغال والحمير" . ويستطرد ، قائلاً : " ومن يرجع إلى رسائل ما قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها يجدها مملوءة بتناقل إعلام غير رسمي ، ففلان يقول : تلقيت رسالة من فلان وفيها وفيها وفيها . . أو تلقيت قصيدة . ومضمون الكل هو تبادل المعلومات ومنها ما قد يكون سياسياً . ولما تكاثر نسبياً عدد اللامعين من المتراسلين كان من ضمن ذلك أنّ يكتب صديق لصديقه عرضت رسالتكم على فلان وفلان وفلان ، وكان الإعجاب بها والتعليق عليها من كل واحد ممن هم معروفون . وأخذت هذه الفكرة فترة ثم ظهرت التسمية " . [c1]في صنعاء[/c]وفي هذا السياق تكلم الأديب أحمد محمد الشامي الذي كان من أوائل مؤسسي البريد الأدبي في صنعاء ، بعد أن عاد إليها قادماً من عدن سنة 1945م حول تاريخ تأسيسه ، حيث قال : " وكونت مع أخي عبد الوهاب ، ومحمد الفسيل ، وأحمد المروني نواة البريد الأدبي في صنعاء ، وكنت قد جلبت معي من عدن بعض الكتب الحديثة " .[c1]ما أسباب التوقف ؟[/c]وعلى أية حال ، فقد ترامت إلى أسماع السلطات الإمامية وعلى وجه الخصوص سيف الإسلام الحسن أمير إب مسألة البريد الأدبي الذي ينتقل من مدينة إلى أخرى في اليمن . ولقد وصلت أخبار مزعجة إلى أدباء وكتاب البريد الأدبي هو أنّ الأمير الحسن أمر الجهات المسؤولة في بريد الحكومة أنّ ترسل إليه ما جاء في البريد بين صنعاء ، ذمار، وتعز حتى يطلع على فحواه . وكان ذلك الإجراء من قبل أمير إب كافياً أنّ ينشر الرعب والخوف الكبيرين في نفوس أصحاب البريد الأدبي ، فتقوقع الكثير منهم في بيته، وتوقفوا عن الكتابة ، وقيل إنّ البريد الأدبي توقف في سنة 1364هـ / 1946م . والبعض الآخر يقول في سنة 1947م . والبعض يقول إنه استمر عقب فشل الثورة. [c1]هدف البريد الأدبي[/c]والحقيقة إن البريد الأدبي ، كان بمثابة متنفسا للأقلام الحرة ، والكتاب والأدباء التنويريين ، والشباب المتعلم والمثقف المستنير ، مثلما كانت مجلة (الحكمة) اليمانية التي تخلص منها الإمام يحيي في أقرب فرصة سنحت له - كما أسلفنا - . ولقد أشرنا قبل قليل إلى: أنّ البداية الأولى للبريد الأدبي كان هدفه الرئيس هو الحديث عن الأدب والشعر ، ونشر الأعمال الإبداعية بين الأصدقاء والعمل على نقدها نقداً جمالياً وفنياً ومع مرور الوقت اتسعت دائرة البريد الأدبي، حيث صار لها أصحاب كثر من الأدباء والكتاب والمثقفين المستنيرين , وكان من الطبيعي أن تتباين الآراء والأفكار بسبب اتساع دائرة المساهمين في البريد الأدبي . وربما يكون هنا مناسباً أنّ نقتبس من كلام الدكتور سيد مصطفى سالم حول هدف أصحاب البريد الأدبي ، فيقول : " وقد تفاوتت وتدرجت نظرة من ساهموا في تحرير البريد الأدبي بالنسبة للهدف الذي يبغونه ، سواء أراد البعض من ورائه مجرد التنفيس عن النفس بمطالعات أدبية ، والتباهي بقدرته اللغوية ، والاهتمام بالنقد الأدبي لذاته ، أو كان هدف البعض الآخر إبراز معاني ومبادئ بل وقيم وأخلاقيات معينة من وراء تلك المطالعات والكتابات ، وعبر إثارة موضوعات خاصة ، أو من خلال التعليقات على قصائد مختارة ، وتعددت لهذا أهداف البريد الأدبي ، وكثرت ألوانه " . [c1]إلى النقد السياسي[/c]ولقد ذكرنا أنّ الشباب المتعلم والمثقف الراكض إلى أنوار فجر الحرية ، والتقدم ، والتطوير كان يسكب أماله وطموحاته العريضة سواء على صفحات " الحكمة " أو على البريد الأدبي ، وعندما كان يتحدث عن الأوضاع المتدهورة التي تعاني منها اليمن من جراء الحكم الفردي المطلق والسحب الدخانية الكثيفة المخيمة على ربوع اليمن ، كان يتحدث بأسلوب التورية - إنّ صح ذلك التعبير - وبعبارة أخرى كان يغلف كتابته بغلاف أدبي حتى لا يقع في قبضة سلطة الإمام الحديدية القوية . وهذا الأديب صاحب القلم الأدبي الأخاذ والأنيق والرقيق وأحد مؤسسي البريد الأدبي في صنعاء وأحد رواده والذي زج به في غياهب السجون الموحشة في حجة عقب فشل الثورة الدستورية أو حركة 48م أو ثورة 48م وهو أحمد محمد الشامي الذي بث في أحد رسائله في البريد الأدبي آلامه وحزنه اللذين مزقا نفسه من جراء التخلف والجهل والإهمال الذي شاهده ولمسه بنفسه في شرعب إحدى القرى اليمنية النائية - الذي كان يعمل فيها مسؤولاً عن جمع الزكاة - وكانت مقالته نقداً لاذعاً لسلطة الإمام ولكن غلفها بأسلوب أدبي ، فكانت رسالته على غرار الكثير من الكتاب والأدباء في البريد الأدبي ينتقدون السلطة القائمة ولكن بغلاف أدبي أو بطريقة غير مباشرة . ويلفت نظرنا في رسائله أو رسائل زملائه في البريد الأدبي ، أنهم خرجوا من مربع الأماني والتمنيات إلى دائرة النقد السياسي ضد السلطات القائمة . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، حيث يقول : " فلم يقف الأمر عند حد الأماني والتمنيات ، بل نرى بعض الرسائل احتوت أهدافاً سياسية مغلفة بالرمز وبطوابع اجتماعية وفلسفية ، وأنها انتقدت الأوضاع القائمة بطريق غير مباشر ، أو حثت على الثورة في غلاف فلسفي ، فضلاً عن الغلاف الأدبي . . . " [c1]في شرعب [/c]ونورد ما ذكره سيد مصطفى في رسالة أحمد الشامي عن وصف شرعب التي تشم منها النقد اللاذع للسلطة الإمامية القائمة ولكن بطريق غير مباشر ، فيقول : " وصف الشامي جمال الطبيعة في ((شرعب)) وصفاً خلاباً من حيث الجبال والوديان والخضرة ، وأنّ هذا كله على حالته الطبيعية منذ أنّ خلقها الله أو أنها ((أرض الأب آدم)) كما قال ، ثم غلب عليه أسلوبه الساخر المعروف عنه فقال : " شرعب التي لم يعكر صفو سمائها دخان المصانع ، ولم يخترق جوها نسر حديدي (الطائرة) ، ولم تشذب جمالها يد الإنسان ، ولم ترتفع في سمائها للعِلم راية " . ويشرح الدكتور سيد مصطفى سالم أللقطات القاتمة الداكنة التي صورها أحمد الشامي في رسالته عن شرعب ولكن بطريقة رمزية خوفاً من بطش السلطة القائمة ، فيقول : " ولقطات الشامي جديرة بالاطلاع عليها لنعرف الجانب الذي خشي أنّ يتحدث عنه صراحة - خوفاً من السلطة - ولنقف على بعض الأهداف التي كانت تجيش في داخل شباب مجلة البريد الأدبي ، ومنها : " وأنّ النبه (اللمبة) أو النوّارة لا وجود لها في (شرعب) اللهم مع فلان وفلان ، وإتريك (الكلوب في مصر) مع العامل وآخر مع الكاتب " وإشارة أخرى هي : " وأنّ القُمل بشرعب عدد الرمل , والحصا ، والتراب " , وهكذا حتى وصل إلى : " وأنّ شرعب في حاجة كبيرة إلى بناية حكومية (أي مركز للإدارة الحكومية) ، وتشييد مدرسة منظمة، وجلب معلمين بارعين ، فأبناء شرعب متفوقون في الذكاء والإدراك وسرعة الإحساس " . [c1](صوت اليمن) [/c]ومن الحلقات التنويرية الثلاث التي ذكرها الدكتور سيد مصطفى سالم والتي شكلت ملامح الفكر الوطني لثورة 48م أو بعبارة أخرى التي مهدت الطريق لقيام تلك الثورة الأم التي قامت في أحلك الظروف وأصعبها في اليمن . هي مجلة (صوت اليمن) التي كانت لسان حال المعارضة ضد السلطة الإمامية القائمة . ولقد صدرت تلك المجلة في عدن سنة 1946م الصادرة عن الجمعية اليمانية الكبرى التي أسسها كل من الشهيد محمد محمود الزبيري والأستاذ أحمد النعمان , وتمكنت (صوت اليمن) أن تفضح الكثير من أساليب الحكم الإمامي القائم ، وكانت شديدة الوطأة عليه لكونها كانت بعيدة عن متناول قبضته القوية ، وكانت بالفعل صوت الناس على تباين مشاربهم الاجتماعية وتنوع حظوظهم الثقافية واختلاف ألوانهم السياسية . ولقد تعلق بها الكثير من الكتاب والأدباء الأحرار والشباب المتعلم والمثقف المستنير . وعلى الرغم من ذلك كانت ( صوت اليمن) تتعرض لكثير من الضغوط السياسية من قبل السلطات الإنجليزية في عدن عندما تتفق مصالحها مع مصالح الإمام يحيي ، وعندما تتعارض مصالحها مع المملكة المتوكلية اليمنية ، فإن السلطات البريطانية كانت تغض الطرف عن نقدها اللاذع والشديد من قبل (صوت اليمن) التي كانت لسان حال المعارضة لحكم الإمام. [c1](فتاة الجزيرة) [/c]وإلى جانب مجلة (صوت اليمن) ، كانت (فتاة الجزيرة) لصاحبها محمد علي لقمان ( المحامي) الصادرة في عدن سنة 1940م ، التي نشرت العديد من المقالات المختلفة والمتنوعة التي هاجمت سياسة سلطة الإمام الفردية , وأساليب القمع والاضطهاد التي يقوم بها ضد العناصر الوطنية في اليمن . ولقد تعلق الكثير من أصحاب البريد بمجلتي (صوت اليمن) ، و (فتاة الجزيرة) . وهذا ما عبر عنه أحد الكتاب المعاصرين لهاتين المجلتين وهو أحمد المعلمي ، فيقول : " إنّ البعض راسل فتاة الجزيرة أو كان مشتركاً بها كالقاضي العلامة عبد الرحمن بن يحيى الإرياني حين كان حاكماً ( قاضياً ) في النادرة ، وكانت تصل أحيانا مع المغتربين مع أنه لم تكن هناك رقابة حكومية ، وسبب عدم وجودها بُعد المواصلات " . [c1](صوت اليمن) المعارض[/c]ويضيف الأستاذ أحمد المعلمي معلومات عن صوت اليمن قائلاً : " . . أما صوت اليمن ، فقد كان كل شاب متحرر يعتبر منتمياً إليها و مراسلاً بطريقة أو بأخرى . فقد كانت تصل بانتظام في كل يوم أربعاء إلى تعز ، وكان المسؤول عنها السيد أحمد باشا وبالتالي الأستاذ إبراهيم الحضراني . وكان من يراسلها من الداخل لا يكتب إلا باسم مستعار وربما حتى الذين في الخارج ، وكان هّم الجميع أنّ تصل المعلومات إليها في أقرب وقت " . ويعقب الدكتور سيد مصطفى سالم على ما ذكره المعلمي عن مجلة (صوت اليمن) بأن اليمنيين في المملكة المتوكلية كانوا متعلقين بها تعلقاً شديداً تحريراً ، وقراءة وتوزيعاً . ويشير سيد مصطفى سالم إلى ما ذكره الدكتور محمد عبد الملك عن (صوت اليمن) ، فيقول : " إنّ الدكتور محمد عبد الملك ذكر أنّ : الأستاذ مجاهد حسن - من رجال حركة المعارضة - كان يقوم باستقبال صوت اليمن المرسلة عن طريق أخيه محمد حسن الموظف في منطقة البيضاء ، ويقوم بمراسلة الجمعية اليمانية الكبرى وإرسال الاشتراكات التي تجمع من بعض شباب الضباط " . ويسترسل سيد مصطفى سالم : " وهذا يشير إلى أنّ المجلة (صوت اليمن) كانت قد لفتت الأنظار إليها ، وأنها عرفت طريقها إلى داخل مملكة الإمام يحيى عن طريق أكثر من جهة وأكثر من شخص . ولا غرابة أنّ أقول إني سمعت أكثر من مرة من معاصري المجلة أنها كانت تتسرب بتعاون البعض إلى قصر الإمام وأنه كان يطلع عليها . ومن المعروف أنّ الإمام يحيى كان يدفع بعض كتاب جريدة (الإيمان) للرد على ما ينشر بمجلة صوت اليمن إمّا مباشرة أو غير مباشرة عندما اشتدت حملة المجلة عليه " . [c1]معلومات جديدة وقيمة[/c]والحقيقة إنّ الذي ذكرناه عن ملامح الفكر أو الاتجاه الوطني سواء في مجلة " الحكمة اليمانية ( 193 - 1941م) والبريد الأدبي يمثل بعضاً من كثير مما ذكره الأستاذ والدكتور الكبير مؤرخ اليمن الحديث والمعاصر سيد مصطفى سالم في كتابيه الرائعين القيمين اللذين بذل فيهما جهوداً جهيدة وهما (مجلة الحكمة اليمانية ، وحركة الإصلاح في اليمن) والآخر (البريد الأدبي . . . حلقة مفقودة من حركة التنوير في اليمن) . فقد كشف لنا الغطاء عن معلومات جديدة ومثيرة وقيمة عن دور الكتاب والأدباء التنويريين والمتعلمين والمثقفين من الشباب المستنير سواء الذين كتبوا في مجلة (الحكمة) اليمانية أو البريد الأدبي أو (صوت اليمن) في تلك الفترة التاريخية الصعبة والمعقدة في ظل حكم السلطة الإمامية القائمة باليمن في تمهيد الطريق لقيام الثورة (الأم) ثورة 48م الشامخة . ولقد غرس هؤلاء الكتاب والأدباء الأحرار والشباب المتعلم والمثقف المستنير أقلامهم في دمائهم ليرسموا لنا طريق الانعتاق من الظلم والظالمين ، ولقد ضحى الكثير منهم بحياته لترفرف كلمة الحرية ، والدستور ، والعدالة فوق ربوع اليمن الغالي ظلت وستظل كلماتهم وأفكارهم وآراؤهم منحوتة في عقول وقلوب اليمنيين . ولا نبالغ إذا قلنا إنّ هذين الكتابين (مجلة الحكمة اليمانية) و (البريد الأدبي) يعتبران مرجعين هامين للباحثين الناشئين الحاليين المختصين و المهتمين بتاريخ الحركة الوطنية في اليمن بصورة عامة وأثرها على ثورة 48م بصفة خاصة . ومعلوماتهم تفتح آفاقاً واسعة وكبيرة لدراسة الكثير من القضايا الوطنية اليمنية بصورة مستفيضة .[c1]الهوامش : [/c]الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ مجلة الحكمة اليمانية 1938- 1941م ، وحركة الإصلاح في اليمن ، جمع المقالات : علي أحمد أبو الرجال ، 1425هـ - 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ، وزارة الثقافة والسياحة - صنعاء - . الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ البريد الأدبي حلقة مفقودة من حركة التنوير في اليمن ، 1425هـ - 2004م ، الناشر : الجمهورية اليمنية ، وزارة الثقافة والسياحة - صنعاء -.
|
تاريخ
الفكر اليمني قبل ثورة 48م
أخبار متعلقة