فكرت مع نفسي أن أخلو في إجازة عن السياسة وأهوالها وأخرج عن مألوف ما جرت عليه كتاباتي ورحت أتأمل في الحياة والناس بحثاً عن موضوع لا يسبب دواراً للرأس أو توتراً في النفس، وحين استقر قراري اكتشفت أنني أخوض قريباً من السياسة أو على تخومها، وإن هروبي مما يفزع قادني إلى ما يثر أسى في النفس لهذه الدنيا وأحوالها.صلة الموضوع بالسياسة نابع من علاقتها بالأخلاق، ومن كون الشخص الذي أختصه بالحديث وهو العميد على حسن الشاطر؛ يشتغل بالسياسة، كما أن ما يثار حوله ذو مغزى سياسي لا تخطئه العين.ستة أسابيع أو أكثر كان على الشاطر مادة لصحف عدة تناولته بالذم والتشهير متخذه من قرار إداري أصدره في حق موظف ( مشاغب ) لديه مدخلاً للهجوم عليه، ومن خلاله على النظام الحاكم باعتبار موقعه كمسئول سياسي أول في المؤسسة العسكرية ومكانته القريبة من رئيس الدولة.وأريد في البداية أن أنوه إلى أنني لا أسعى إلى القمع برأي في أمر الخلاف المثار، إذ لا شأن لي في تحريه ولا نتيجة تترتب على رأيي.لكن غير الخافي على من كتبوا حوله أن ( الموظف ) الذي صدر القرار في حقه يشتغل منذ سنوات طويلة في صحف معارضة بعلم الشاطر وغيره.على أي حال فإن على الشاطر شخص سيء جداً في نظر البعض وفي منتهى اللياقة ومكارم الأخلاق في رأي آخرين.وقد عرفته وعايشته منذ ربع قرن شهدت علاقتنا فيها خصومة شديدة قبل أن تتحول إلى صداقة عميقة، وخلاصة تجربتي واستدلالاتي من آراء الناس أن الذين يعرفونه عن قرب مجمعين على الشهادة له بنبل الخصال وطيب السريرة أما الذين يقولون ذلك فهم ممن يبنون الأحكام على أقوال أصحاب الضغائن.ليس لي أن أشهد الآن له أو عليه وحسبي أن أروي مشاهد في علاقتنا الطويلة، فقد التقيته أول مرة في سبتمبر 1978م وكنت أقضي إجازة الصيف قادماً من العاصمة المصرية حيث كنت أدرس الاقتصاد في جامعة القاهرة . كمسئول لشؤون الطلاب في الرابطة الطلابية كلفتني الهيئة الإدارية بمراجعة المسئولين لحل مشاكل بعض الطلاب وأبرزها متعلقة برفض القنصلية اليمنية في سفارتنا بالقاهرة تجديد جوازات سفرهم لهذا الغرض قابلت وزير الداخلية "محسن اليوسفي" ولم أظفر بما أملت وباعتبار تبعية قيادة الرابطة للتنظيم الناصري وجهني أمينه العام "عيسى محمد سيف" بمقابلة رئيس الجمهورية وأوكل إلى "عبد الله سلام الحكيمي" ترتيب اللقاء فاصطحبني هذا إليّ مقيل "علي الشاطر" في إدارة الشؤون العامة والتوجيه المعنوي، وعرض عليه رغبتي فوعد.ورجعت إليه بعد مهلة قصيرة عينها فنقل إلى موافقة الرئيس على أن يراني ويسمع مني لكنه قال إن المقابلة ستتأخر أياماً حتى يفرغ الرئيس من شواغل الاحتفالات بعيد الثورة التي تتضمن رحلة إلى المحافظات ومكثت في صنعاء انتظر حتى صحوت ذات ليلة على دوي مدافع انقلاب 15أكتوبر، ثم عرفت في النهار حقيقة ما جرى ولم أمكث بعدها سوى ليلة واحدة غادرت بعدها العاصمة إلى تعز.لما أنهيت دراسة البكالوريوس كان قانون التجنيد الإلزامي قد صدر، والحرب دائرة في المناطق الوسطى مع ميلشيات الجبهة الوطنية الديمقراطية ورحت أتحسس طريقي إلى حيث لا ينالني أذى مع بدلة الكاكي فلبثت أياماً مع "محمد شاهر حسن" وكيل وزارة الإعلام الآن وكان يجتاز الأسابيع الأخيرة كمجند في الشؤون العامة ومحرر بصحيفة "13يونيو" قبل أن يتغير أسمها إلى 26سبتمبر وكان ينفق معظم الظهيرة والمساء في الكتابة، ولا يكف عن الثناء على الشاطر ثم لا يلبث أن يشكو من شدة طباعه وعدم تساهله مع التقصير في أداء الواجبات على كثرة ما يرهق العاملين بها.بحكم تخصصه في دراسة الصحافة وُزع على إدارة الشؤون العامة، ولم يكن هذا الطريق سالكاً أمامي فعرضت عليه رغبتي كي ينقلها إلى مدير الشئون العامة لكنه نصحني بألا أفعل حيث عبء العمل ثقيل.وفي معسكر الاستقبال جرى توزيعي على معسكر متمركز في السوادية بمحافظة البيضاء حيث لهيب الحرب.غير أني استطعت أن أفلت، فمررت على النبيل "صالح الدحان" الذي أخذني إلى مقيل علي الشاطر في الغرفة التي جلست معه المرة الأولى وزكاني صالح عند صاحبه فأمر هذا نائبه بان يذهب في الغد إلى الاستقبال ويطلبني.بعد قليل ناولني الدحان نسخة من جريدة (الثورة) وأشار إلى خطاب ألقاه الدكتور "أحمد الأصبحي" وزير التربية والتعليم لمناسبة ما وطلب إلي أن أعلق عليه.وجدت في الخطاب ما يستحق النقد ففعلت ظاناً أنه لن يلقى قبولاً حسناً لدى على الشاطر باعتباره نقداً موجهاً لسياسة الحكومة، لكنه بعد أن قرأه فأجاني بعبارات مشجعة والتفت ناحية نائبه "حسين..لا تفلت له" ثم خاطبني "داوم هنا من الغد وسيتم نقلك.. لا تذهب إلى المعسكر"، ثم أصدر توجيهاته بإعفائي من كل الالتزامات العسكرية بما فيها ارتداء الكاكي.ورغم أنه لم يكن بلغ الثلاثين فقد وجدت فيه الأخ الكبير والأب.كنت جندياً ببذلة مدنية وربطة عنق غير ملزم بأوقات صارمة للدوام لكن الواجبات كثيفة ولم أكن مقصراً غير أن بي طبع المشاكس، وقد أغراني قصر المسافة بيني وبين المدير في الإكثار من رفع طلبات المتذمرين من المجندين وشكاواهم من الضباط وهم أكثر من التوسط بي إلى حد آثار غيرة بعض الضباط من المجند الذي لايملكون عليه أمراً، وفوق ذلك فهو تجاوز حقه الشخصي وغدا وكيل غيره.كان ذلك سبباً أساسياً في تعكير صفو العلاقة بين الجندي والقائد، وزدت على ذلك أنني كنت أواجه القائد بآرائي الحادة أمام ضباطه، كما حدث بشأن مجند أسمه (جمال عبد الرحمن الدبعي) كان هذا خريج صحافة من مصر تربطني به صداقة حميمة، كان قصاصاً مبدعاً شفيف النفس والروح يشتغل في قسم الإذاعة حيث يشارك في إعداد برنامج يومي لإذاعة صنعاء عن القوات المسلحة.وفي إحدى الأيام أذيع البرنامج بأخطاء لم تغفرها الإدارة وبينما جمال في طريقه إلى عمله التقاه على مقربة من بوابتها رئيس قسم الإذاعة الرائد (سالم المعمري) فعنفه بشدة ثم أبلغه أنه وقع عليه عقوبة الحجز في الإدارة إلى أن يرضى عنه، وتحداه جمال وقفل عائداً.شكا لي جمال فذهب إلى علي الشاطر مغاضباً في اليوم التالي، ووجدته يطوف في ساحة الإدارة مع بعض الضباط والجند فطرحت عليه القضية ولم أتلطف، وكان هو غاضباً من شيء ما لا أعرفه، قال لي ما معناها إن الأمر لا يخصني وأصررت على أن أمر زميلي يخصني وارتفعت الأصوات كلانا يتحدى الآخر.وخرجت من باب الإدارة إلى تعز إذ كانت إجازة عيد الأضحى على الأبواب.بعد الإجازة دخلت إلى الإدارة بعد ظهر الأربعاء حيث يكون التحضير لإصدار عدد الصحيفة الذي سيوزع صباح اليوم التالي، لم أتوجه إلى مجلس المقيل كالعادة حيث يتواجد المدير بل إلى الغرفة المخصصة للمحررين، وفوجئت أن على الشاطر يجلس بينهم على مكتب في الزاوية.. وبعد أن اتخذت مجلسي في مكتب بعيد رحب بي ثم ملأ يده بأعشاب من قاته الفاخر وناولني وقال "أنا حريص على صحبتك.. دعك من جمال الدبعي" أخذت القات وقلت إن جمال صاحبي وأنا أشعر بمسؤولية تجاهه.ساعة مغادرته مكتب المحررين أخذ بيدي وعلى انفراد قال لي أنه عفا عن جمال واسقط عنه فترة التغييب ولن يبلغ بها اللجنة العليا لخدمة الدفاع الوطني وعليه الحضور لإكمال المدة القانونية للتجنيد حتى يتسنى له الالتحاق بوظيفة عامة، لكن جمال الدبعي كان قد عقد النية على أتباع طريق آخر إذ شجعه زملاء له في التنظيم الناصري بالالتحاق بأعضاء القيادة المتواجدين في دمشق فلم يستجب لمحاولاتي معه، وبالفعل تم تهريبه إلى عدن ثم إلى العاصمة السورية، وهناك تولى الأشراف على صحيفة الوحدوي وتعددت سفراته إلى قبرص لطباعتها.وفي 1987م أختلف الناصريون في دمشق وانحاز جمال للطرف الذي يشكل أقلية فكان ثالث ثلاثة بعد أشهر نقل لي أحد المترددين على دمشق صورة كئيبة عن أحواله لأن أول الثلاثة الذي يتفرد بالمال يقتر عليه، فحاولت الاتصال به وكانت الحرارة مقطوعة عن تلفونه، اتصلت بالأخ عبد الملك المخلافي وأكد ما سمعت ,, استشرته بمعالجة موضوع عودت جمال إلى صنعاء فقال "اشرف له" عرضت الوضع على علي الشاطر وسألته إن كان يضمن عودته بدون مضايقة ويتكفل بالحاقة بوظيفة حكومية.. قال بأنه سيستصدر أمراً من الرئيس بتوظيفه بالدرجة التي وصل إليها خريجو دفعته سيتكفل بنفقات سفري لعرض الموضوع عليه.وكان هذا العرض كاملاً بلا زيادة وبلا أية شروط سياسية لكني فضلت أن استكشف رأي جمال برسالة حملها نفس الشخص الذي أخبرني بسوء أحواله من قبل.لم يصلني رد مباشر ولكنه أرسل رده عبر صحيفة الوحدوي التي كانت قد انقسمت إلى اثنتين فقد كتب في وحدوي "عبد الوهاب منصور" أن السلطة تحاول إغراء بعض المناضلين بالعودة إلى أحضانها من خلال العناصر التي تساقطت في درب الكفاح، هؤلاء لا يعرفون أن الماس ليس كالفحم.كان علي الشاطر هو الذي أوصل لي الرد، فقد زرته في مكتبه ولم يكن موضوع جمال بين شواغلي ذلك الصباح، لكنه بادرني بالقول "أنس موضوع جمال الدبعي" وعرض علي نسخة من الصحيفة وقال " إنك المقصود بهذا .. أتركه وشأنه".بعد قيام الوحدة رجع جمال وأمضينا معاً أياماً طويلة وفاتحته مرة معاتباً على ما كتب فاعتذر مني وقال بأنه كان في تلك الفترة واقعاً تحت ضغوط نفسيه صعبة بسب وفاة والدته في قريته بالحجرية بعد فترة طويلة من غيابه عنها، وأن حامل الرسالة سلمها لمحمد سيف الذي عرضها على "ممثلي حركات التحرر" المتواجدين في دمشق لاستغلالها ضد جماعة "عبد الوهاب منصور" فأراد أن يتبرأ من تهمة الارتباط بالسلطة.في تلك الفترة الانتقالية كان العائدون يرتبون أوضاعهم واعتقدت أن مشكلة جمال سوف تحل لكنه حمل حقيبته وعاد إلى دمشق وانفرط عقد الجماعة الصغيرة (الحركة الشعبية الناصرية) كما أطلقوا عليها وعرفت من أخوة جمال أن أحواله تزداد سوءاً فلجأت لعلي الشاطر مرة أخرى طلبت منه أمراً بتوظيفه بدرجة مدير عام، لا أدري لماذا حددت هذا المستوى بالذات.ربما لأنني وأنا زميله كنت أعمل بوظيفة مدير عام في وزارة المالية، وخلال يومين كان الأمر بيدي وسافرت إلى سوريا في إجازة.سر جمال للأمر وقد وجدته هازلاً ومعدماً قال إنه سيعود بعد تصفية ديونه البالغة "18" ألف دولار وإن هناك أصدقاء يتوسطون بينه وبين عبد الوهاب منصور لمساعدته على تسوية الديون.ولم يعد وانقطعت بيننا الصلات.لعل هذه الوقائع تكفي للقول أن العميد علي حسن الشاطر شخص جدير بالاحترام.على أنني احتفظ له بمواقف يصعب حصرها سأروي منها اثنتين, ففي بداية عملي مجنداً في الإدارة التي يتولاها طلب مني مرة أن أكتب في موضوع معين ، اعتذرت له بأدب قلت أنني لا أستطيع أن أكتب شيئاً يفهم منه أنني أمجد الرئيس علي عبد الله صالح بينما أنا عضو في التنظيم الناصري والتنظيم على خلاف مع الرئيس قال "إذن لا عليك.. أكتب في الشئون العربية والدولية".والثانية أنني أنهيت مدة التجنيد في فترة جفاء في العلاقة بيننا وقررت في نفسي ألا أختلف إلى مكتبه.ولم يكن طريقي إلى التوظيف سالكاً لأن الجماعة في الأمن الوطني حجبوا عني الشهادة بحسن السيرة والسلوك وطال ترددي على بوابة مقرهم ستة شهور انهاها الضابط عبد الكريم السامعي ما دمت مصمماً على ألا تكفر سيئاتك أذهب إلى القذافي يوظفك.قلت "إذن سأذهب إليه"وكمان تتفاصح والله لأغسلنك بماء بارد.لا تقدر على ذلك.. الرئيس عفا عمن حملوا السلاح وقتلوا الناس (كان الرئيس قد أصدر قبل أيام قليلة قراراً بالعفو العام عن مقاتلي الجبهة الوطنية الديمقراطية ) .كنتم في الرابطة تشتمون الرئيس..و..وغادرت الغرفة.كان هذا الضابط محسوباً على جماعة الإخوان المسلمين ومتحمساً لعمله فيما بدا لي من محاولاته الطويلة معي وتهديده الأخير لي.قررت الهجرة إلى المملكة العربية السعودية حيث استقر أصدقاء لي بعد أن أنهينا معاً للدراسة في مصر.لا أتذكر الآن من هو الصديق الذي جرت سيرتي في حديث بينه وبين على الشاطر، ما أذكره أن الأخير أرسل إلى لمقابلته في مكتبه وسألني عن أحوالي وأين أشتغل أخبرته بما أنا فيه، قال أنه عرف ذلك من فلان وذكر أسمه وعاتبني لأنني لم أطلب مساعدته..أذكر تماماً أنه قال لي : (( رغم ما شاب علاقتنا من شوائب إلا أننا إخوان وواجبي أن أساعدك )) ، ورفع سماعة التلفون واتصل برئيس الأمن الوطني غالب القمش وعندما ذهبت كان الضابط الذي هددني بحمام بارد في منتصف الليل هو الذي ناولني الورقة.. وقد كنا نطلق عليها من باب التندر الشهادة الكبيرة ولعلى الشاطر الإنسان مواقف تستحق أن تروي، فقد نتعلم معنى الوفاء والسماحة وهو رمز لها ولغيرها من القيم الفاضلة.
|
فكر
عرفت هذا الرجل
أخبار متعلقة