باسم النبريص *درج العرب المحدثون، على بلوغ الأشياء، بعد فوات الأوان. حتى قال مفكر غربي، على سبيل التوصيف لا السخرية (إن ماضي الآخرين هو مستقبل العرب). وحتى هذا القول، ليته يصدق معنا! فنحن العرب الأحياء في هذا العصر، لم نصل بعد، ولا يبدو أننا سنصل في القريب، إلى أن يكون ماضي الآخرين هو مستقبلنا. ذلك أن مستقبلنا مرهون بحاضرنا، وحاضرنا مرهون بدوره بماضينا. ووسط أضلاع هذا المثلث، الأشبه بصندوق باندويرا العجيب الكئيب، لا تلوح بارقة أمل ولا برنامج عمل! فماضينا يضخّ سمومه إلى حاضرنا، وبما أن الحاضر هو طفل المستقبل، فلا أمل في مستقبل يخرج من عباءة حاضر ميت، أو معوّق كطفل منغولي، في أحسن الأحوال! عندما حصل ما حصل في رومانيا الشمولية، من اغتيال شاوشيسكو، وغيابه النهائي عن المشهد، تفاءل بعض المحللين العرب، آنذاك، بأن رياح التغيير ستهبّ على المنطقة. ومنذ ذلك التاريخ، وما قبله بقليل، وما بعده بقليل وكثير أيضاً، لم تهبّ ريح ولا نسمة! فلعبة الكراسي، هي مبتغى ومنتهى الحكام العرب. ولا يهمّهم وطن ولا شعب. أما الشعوب الصابرة الذليلة من طول ما صبرت، فلم يعد شيء يهمها غير كفاف يومها، والخوف ألا تجده في صباح الغد. إنها تعيش حياتها يوماً بيوم، تلهث وراء ما يسدّ الرمق، وتجاهد كي تستر وقتها. أي أنها، بمعنى ما، هبطت سلم التطور البشري، ونكصت إلى طور بدائي من أطوار البشرية هو طور (كائنات الضرورة). وأما النخب العربية، من شريحة المثقفين، فقد وقف جزء منها مع التغيير الجذري الراديكالي، وهم قلة على اختلاف ألوانهم، فيما وقف الجزء الأكبر، مع مصالحهم الصغيرة، مطالبين، بإصلاحات تجميلية في النظام السياسي، واكتفوا بهذا القدر، وكأنّ ما أفسده الدهر، يمكن أن يُصلحه العطار! بل لقد بلغت ببعضهم الوقاحة بأن يزعم، أن الديموقراطية الغربية، لا تناسب سياقنا التاريخي، ومخزوننا الثقافي والحضاري. لماذا؟؟ لأننا أمة الشورى، وقد سبقنا بها، تاريخياً، ديموقراطيةَ الغرب المتأخرة! هراء وعماء بالطبع. ولكنهما شائعان، وتؤمن بهما غالبية العرب في هذا العصر! والآن..، وقد كان ما كان، ما هو العمل؟ وكيف الخروج من هذه الهزيمة الحضارية؟ إنه سؤال الأسئلة. سؤال يقض مضجع كل مثقف ومتابع. فقد طفح الكيل حقاً، ولم يبق فيه متسع. إما أن نتعلّم من تجارب الشعوب، وإما الموت، ولا خيار آخر. ولدى الشعوب الكثير الكثير، لكي نأخذه عنها. فهذه الشعوب عانت ما نعانيه، ومرّت بما نمرّ فيه، وبعضها مرّ بهزائم مريرة أمرّ من هزائمنا. ولنأخذ أوروبا مثلاً، فقد عانت القارة من قرون ظلام وإظلام، سُمّيت بالقرون الوسطى، وللتدليل على ما نقول، نورد قصة محفوظة في كتب التاريخ. ففي إحدى بلدان أوروبا الغربية، حدث ذات يوم، أن فكّر فلاح بسيط، بأن يصنع نموذجاً بدائياً، لشمسية، تقيه بلل المطر، خصوصاً وأنه يخرج إلى حقله صباح كل يوم. صنع الرجل النموذج، ووضعه على رأسه وخرج إلى الشارع. بعد أيام، وصل الخبر إلى قاض في محاكم التفتيش، فاستدعى الفلاح، وسأله: لمَ صنعت هذه البدعة؟ ردّ الفلاح: كي تقيني من البلل يا سيادة القاضي. فردّ عليه الأخير، سائلاً: ألا تعلم بأن الله جلت قدرته، خلق المطر لكي يبللنا به؟ وأنك بصنيعك هذا، تعارض مشيئة الله؟ أُعدم الرجل، بالطبع، وذهب بينما بقيت القصة. بقيت لكي تقول لنا، وللبشرية جمعاء، بأن لا نيأس! فما يحدث اليوم، على فظاعته، حدث أفظع منه في الماضي. والمهم أن يستخلص ابن آدم العبرة، وألا يكرر الخطأ أكثر مما يجب. طبعاً، لو حدثت هذه القصة اليوم، لاستهجنها حتى دهاقنة المشايخ! لاستهجنوها فقط لأنها حدثت في أوروبا. أما لو حدثت في بلادنا، فلا بأس! ذلك أن ما يحدث في بلادنا أغرب وأعجب. فإلى الآن، يوجد بين ظهرانينا، من لا يؤمنون بكروية الأرض، وبقانون الجاذبية الأرضية، وبأن الأرض تدور! وإلى الآن، يوجد بيننا، من يعتبرون الزلازل غضباً من الله، وليس ظاهرة طبيعية تحكمها قوانين الفيزياء. إنما ما علينا! ولنعد إلى سؤال لينين الشهير: ما العمل؟ سيردّ البعض: العمل عمل الله وما شاء فعل! وأنا أعتقد أنه يتوجب علينا أن نبدأ من هنا. من هذه النقطة بالذات. إن من البداهة القول، أن لا حلّ دينياً لمشاكلنا وصراعاتنا الدنيوية. مهما قيل ويقال عن هذا الحلّ. فزمن المعجزات انتهى، وبالتالي، انتهى زمن الوصفات السحرية. لذا، لا بد أن نبدأ من حيث بدأ الآخرون في أوروبا والغرب، مادمنا مصرين ألا نبدأ من حيث انتهوا، لكي لا نحرق _ كما يقال _ المراحل التاريخية. أي نبدأ بفصل الدين عن الدولة. وهم أنجزوا هذه المهمة التاريخية العظمى، قبل ثلاثة قرون أو أقل، ومنها انطلقوا، إلى كل تطورهم العلمي والتكنولوجي المذهل، حتى وصلوا اليوم إلى ارتياد المريخ، وسيصلون في القريب، إلى استيطان المجرات. فلولا فصل الدين عن الدولة، ما تقدموا خطوة واحدة. وما ملكوا أسرار المادة، وأسرار الروح الإنساني معاً! لذا لا بد مما ليس منه بد، فقد أدى الدين دوره وانتهى. ويكفيه ذلك. فإن لم نستطع إنجاز هذه الثورة الكبرى، مباشرة، فبالتدريج، وخطوة خطوة. ولعل عصرنا المعولم، وثورة الاتصالات المرافقة له، وازدياد عدد من يستخدمون الإنترنيت، يوماً بعد آخر، ستساعدنا في هذا الشأن. حيث في هذا الواقع الافتراضي، تُمحى الحدود، بما فيها حدود الجغرافيا والجنس واللون والدين، وبالتالي، نشهد تراجعاً يومياً عن الدين، في أركان الدنيا الأربعة. تلك فكرتي الأولية والأولى، لمقاربة حالنا العربي البائس، ومن أجل أن نبدأ بها، يتوجب أن ننهي أولاً، سيطرة الدولة على الدين، فالدين يشتغل خادماً لدى الدولة العربية المعاصرة. وظيفته تبرير أخطائها والحفاظ على بقاء الوضع القائم لخدمة مصالحها. أي أنه يشتغل لديها، سمسار تزييف، لا أكثر. وعليه، فلا بد من فض اشتباك المصالح بينهما. ثم تالياً تأتي خطوة تنحيته، عن مجمل أنشطة الحياة، وحصره في المنازل وبيوت العبادة، بوصفه علاقة شخصية بين الشخص وربه. لا يحق لأحد التدخل فيها، وفرض نفسه وصياً وقيّماً على الآخرين. ذلك أن الناس أحرار في معتقداتهم وخياراتهم، وليست، أو يجب أن تكون في غير حاجة إلى شريحة إكليروس، تتوسط بينها وبين الخالق. قد لا يبدو هذا الرأي إصلاحياً، كما ينظّر المثقفون العرب العقلانيون للإصلاح كحل مرحلي وحيد، قابل للتطبيق في بلادنا، بشكل عملي. بل قد يتهمه هؤلاء بالراديكالية الثورية التي انتهى زمانها. ربما! لكنني مصرّ على أن آخر الدواء الكيّ. فحالنا لا يحتمل مراوغة الإصلاحيين، وتنظيراتهم المثرثرة، وإمساكهم العصا من الوسط. لأن قطار الزمن لا ينتظرنا، حتى نتوكل على الله ونبدأ. إما هذا أو ذاك، ونحن جرّبنا هذا، فانحدرنا أكثر،. لذلك لم يبق غير ذاك. إن بداية التغيير يجب أن تنطلق من ألسنة وأقلام المثقفين العرب العلمانيين، فهم المؤهلون تاريخياً، لهذا الدور. ولا يوجد سواهم، من المشايخ والفقهاء والتكنوقراط ومثقفي الحلول الوسط مثلاً. لقد غرقت السفينة، وعلينا أن ننجو بمن تبقى كي لا يموت. هذه هي حالنا، بعيداً عن مجازات اللغة، وألاعيبها البلاغية. ولنستعر من سيرن كيركغور عنوان كتابه الأول الشهير (إما.. أو)، كعنوان لهذه المرحلة من حياتنا، فإما الدخول في عصر الحداثة، بتقليص وتنحية دور الدين، بشبكة علاقاته العنكبوتية الاستثمارية مع السلطة السياسية، أو الموت. وهو، أي الموت، موجود في كل تفاصيل حياتنا، فنحن أحياء بالمجاز فقط، لذا فلن نخسر شيئاً لو جربنا وآمنا بالخيار الثاني أي: الحداثة. حتى لا نظل نقول عن أنفسنا أننا نعيش في (بلاد بعد فوات الأوان)!ـــــــــــــــــــــــــ* كاتب كويتي
|
فكر
بعد فوات الأوان
أخبار متعلقة