كلفة ترميم القصر حينها بلغت 280 مليون ريال يمني
حضرموت/ استطلاع/ محمد السياغيتقطع مسافة (777كم) بالسيارة “الجيب”عبر الصحراء، لكي تصل إلى محافظة حضرموت اليمنية إلى الشرق من العاصمة صنعاء، وما هي الا هنيئة تكاد لم تلتقط فيها أنفاسك بعد، حتى تستأنف رحلة طويلة تستغرق عشرات الأميال، وتتبدى لك مدينة سيئون عاصمة وادي حضرموت، وحاضنة هذا القصر السلطاني الأسر المبني من الطين والخشب على النمط التقليدي الحضرمي لسكان الوادي.لكن بمجرد أن تحط الرحال فيه، وتسكن أحد غرفه الدافئة في عز فصل الشتاء، حتى تتبخر مشقة وعناء رحلة السفر الطويلة تلك، وتغص وسط أجواء مهرجانية بهيجة من المهرجانات الشعبية التي عادة ما تقام هنا بطلب من الأفواج السياحية وتستمر باستمرار المواسم السياحية، كما تغرق في تفاصيل ليلة أسطورية لا تنسى من العمر، بما تحملك تجليات العروض الفنية الراقصة وجلسات ألدان الحضرمية الأصيلة بالزى المحلي، عهدا تقطعه على نفسك بالعودة أليه مرة أخرى مهما كلفك الأمر من مشقة وعناء. [c1]مانهاتن الصحراء[/c]فـي مدينة سيئون عاصمة وادي حضرموت والتي جاء أقدم ذكر لها فـي مطلع القرن الرابع الميلادي، وتقع في الجانب الغربي للوادي، على بعد (12 ميلاً) من مدينة شبام الشهيرة بـ”منهاتن الصحراء”، و(22 ميلاً) عن مدينة تريم التاريخيتين ، يقع هذا القصر السلطاني، وبالتحديد في منطقة خلع راشد أو ما يعرف بحوطة احمد بن زين نسبة إلى الشيخ أحمد بن زين الحبشي الذي يعتقد أنه شيده هنا قبل أكثر من نحو مئة عام كأول مبنى في المنطقة.كنت أول الواصلين من بين الزملاء الإعلاميين (من صحفيين ومراسلين) ممن قرروا زيارتها معي للاستمتاع بتصوير معالمها الأثرية والتاريخية قبل التوجه إلى جزيرة سقطرة (عذراء اليمن الفاتنة)، وصلت بالسيارة عصر يوم خميس مشمس إلى مدينة سيئون التي يذكر النقش الموسوم بـ (Ir . 37 )، والذي يعود تاريخه إلى عهد الملك “ ذمار على يهبر ملك سبأ وذي ريدان وحضـرمـوت ويمنـات “ الذي حكم في مطلع القرن الرابع الميلادي، أن قـوات سبئيـة اجتاحـت “وادي حضرموت” وحاصرت “شبام” و”رطغتم” و”سيئون” و”مريمة” ثم “عراهل” و” تريم”. خرجت من مجمع سيارات الأجرة (الفرزة) مباشرة باتجاه فندق قصر الحوطه الذي تجلى لي من بين الأبنية المتراصة كتحفة فنية أسره، وكان السؤال الذي يجول في خاطري حينها يدور حول معرفة تاريخ المبنى الذي يكاد يكون مجهولا بالنسبة للكثير من السكان المحليين الشباب ممن تقتصر حدود معرفتهم له على انه مجرد معلم تاريخي وفندق سياحي يقصده السياح وحسب، لكن المعلومات التي تم جمعها أكدت أنه كان السكن الخاص للشيخ أحمد بن زين الحبشي الذي توفي عام (414 هجرية ) ، ودفن في هذه الحوطة.أما هذه الحوطة فكانت تعرف- حسب الأهالي- بـ خلع راشد، حيث أسست في عهد دويلة آل راشد (400- 700هـ) التي كانت تتخذ من مدينة تريم عاصمة لها، ويذكر أن مؤسس الحوطة هو السلطان عبدالله بن راشد بن شجعنه (593-616هـ) مكان أشهر سلاطين آل راشد ، أتصف بالعلم والعدل والصلاح، وأنتقل إليها الشيخ العلامة أحمد بن زين الحبشي الذي بنى فيها هذا القصر ومسجده بمنطقة (البها) في عام (1080 هجرية).وتعتبر الحوطة ذات أهمية جغرافية كونها تتوسط منطقة (السليل) وسط وادي حضرموت الرئيسي وتتوسط أيضاً الطريق بين سيئون وشبام إضافة إلى ارتباطها بوادي بن علي إلى جانب أهميتها الجغرافية تعتبر اليوم مركزاُ تجارياً هاما لمنطقة السليل الأمر الذي ترتب عليه التوسع العمراني المضطر للحوطة.ويفيد السكان المحليون الذين التقيت بهم بأن القصر قبل أن يكون بشكله الحالي كان مجرد مبنى وحيد مكشوف يتألف من ثلاثة طوابق ويضم بئر، ظل مهجورا فترة طويلة من الزمن يعاني من الإهمال والخراب الذي طال الكثير من أجزاءه خلال فترة التشطير. كن عملية الاهتمام بالقصر وإعادة ترميمه، لم تبدأ سوى بعد أن تسلمته وكالة العالمية للسياحة عام 1992م ، والتي بدأت حينها بدراسة مشروع ترميم القصر بما يحافظ على النمط المعماري المميز له بهدف تحويله إلى فندق سياحي من الطراز الرفيع.ولم تحل الأحداث التي وقعت في صيف 1994م من استمرار مشروع العالمية للسياحة رغم تعرض المبنى ومواده للنهب والسرقة حينها، حيث استأنفت العالمية العمل في مشروع ترميم وصيانة القصر بعد انتهاء الأحداث مع الحفاظ على الطابع المعماري القديم له ، وإضافة بعض اللمسات والتحديثات بما يخدم النشاط الخدمي الفندقي.بعد انتهاء المشروع الذي بلغت تكلفته حينها 280 مليون ريال يمني، شملت إضافة مبنيين إلى المبنى القديم على نفس الطراز المعماري التقليدي (الطين والخشب) تم افتتاح المشروع في أكتوبر 1997م من قبل نائب الرئيس عبد ربة منصور هادي.وبات القصر اليوم واحدا من أهم المعالم التاريخية والحضارية والسياحية في المنطقة، يقصده السياح العرب والأجانب من الوافدين لمدينة حضرموت على كثرتهم بصورة مستمرة ودائمة باعتباره محطة معمارية هامة تجسد خلاصة البناء المعماري الحضرمي المتميز والذي يحتل أهمية بالغة على الخارطة المعمارية والحضارية والتاريخية والثقافية لليمن والمنطقة العربية عموماً.يصعب على الزائر معرفة خصوصية البناء المعماري لهذا القصر، دونما إلمام كامل بمميزات الطابع المعماري الحضرمي بشكل عام والعوامل المؤثرة فيه، التي تتعدد بتعدد الظروف التضاريسية والمناخية لمدن حضرموت عموما والتي يسودها المناخ المداري الحار الجاف، وهو المناخ السـائد في إقليم جنوب شبه الجزيرة العربية مع بعض الخصائص المحلية في الصيف حيث تتجاوز درجة الحرارة (38ْ مئوية) في المناطـق الداخلية للمحافظة وفي المناطق الساحلية (35ْ مئوية) بسبب هـبـوب الريـاح الموسمية الصيفيـة الجنوبية المشبعة بالرطوبة، وفي فصل الشتاء لا تتجاوز درجـة الحرارة (20 ْمئوية).كما يتنوع الطراز المعماري حسب التضاريس الطبيعية للمحافظة المقسمة إلى أربعة أقسام تتوزع على السهل الساحلي، والجبال والهضاب ، ووادي حضرموت ، والسهل الصحراوي، الأمر الذي جعل من طرازها المعماري يتمتع بتنوعه وتفرده كواحد من أهم الطرز المعمارية العربية الأصيلة التي لم تتأثر بأي طابع معماري دخيل على الإطلاق، لدرجة أن الخبراء والمهتمين بفنون العمارة العربية ، يذهبون إلى الاعتقاد بان طرازها المعماري يجسد في عناصره خصوصية الطابع المعماري لسكان شبة الجزيرة العربية والخليج بشكل عام.ففي حضرموت عموما تشيد الأبراج والأبنية المعمارية بمادة اللبن (الطين) المخلوط بالقش على أساس من كتل الأحجار، فيما تطلى الجدران بالجص وأخرى بالطين من الداخل والخارج، بينما تضم الأبنية أكثر من طابق، وتزود المستوطنات المعمارية بشبكة صرف صحي مصنوعة بالطريقة التقليدية من الفخار بهيئة أنابيب مضلعة قائمة الجوانب، كما تشمل أبنية المستوطنة مظاهر معمارية متنوعة تتجلى في المداخل ذات العقود المدببة والمحدبة والمثلثة أو الشبابيك والكوى الطولية والمربعة والمعينة، وتضم عقوداً مدببة ومقوسة أو بهيئة رؤوس سهام وغيرها من العناصر المعمارية الجمالية، التي تجعل من الأبنية والأبراج المتجاورة تشكل وحدة معمارية جمالية فريد، كما هو الحال في مدينة شبام التاريخية المسجلة ضمن 3 مدن تاريخية في اليمن بقائمة التراث العالمي والتي درج على وصفها بمانهاتن الصحراء.[c1] أهمية القصر[/c]تنبع أهمية القصر من قيمته المعمارية والتاريخية والسياحية ، كخلاصة للطراز المعماري الحضرمي الذي يتميز بتكيفه مع الظروف المناخية والتضاريسية للمنطقة، وبتخطيطه الهندسي الفريد الذي يتناسب مع طبيعة الخدمات الفندقية الراقية.ويمزج القصر في جميع عناصره ومكوناته بين الأصالة والمعاصرة بطابع كلاسيكي رومانسي مميز، حيث يتجلى ذلك في كل شيء فيه ابتداء من تصميم المبنى الخارجي، والنوافذ والأبواب الخشبية التقليدية المزخرفة، والقمريات الهلالية المفرغة الممتدة على الممرات، مرورا بتصميم الديكور، وتقسيم الغرف وأثاثها التقليدي البسيط، وتوزيع الإضاءة، وانتهاء بالمهرجانات والحفلات الشعبية الراقصة التي يقدمها حسب طلب السياح الأجانب والتي تهدف إلى إبراز المكنون التراثي والحضاري الهائل لحضرموت.وتمثل مادة اللبن والقش المادة الخام الرئيسية التي بني منها القصر، الذي تتميز جدرانه الخارجية بطلائها بمادة الجص الأبيض والتي يتم تجديدها ما بين فترة وأخرى ليبدوا أكثر توهجا وجاذبية، بينما تميز جدران الغرف الزخارف والنقوش النباتية والحيوانية التي تظهر على الأقواس الهلالية والمربعة في حواف النوافذ والأبواب الخشبية الداخلية والخارجية وفي العقود الهلالية المفرغة الممتدة على الممرات.كان القصر إلى قبل فترة مبنى بسيط، لكنه اليوم يتألف بشكل عام من ثلاثة مباني يحيطها سور طيني، يتكون المبنى الرئيسي من ثلاثة طوابق والمبنيان الإضافيان من طابقين تضم جميعها 58 غرفة وأربعة أجنحة ، وملعب للأطفال وحديقة واسعة ومسبحين أحداهما للصغار والأخر للكبار، بالإضافة إلى موقف للسيارات وصالة كبيرة للطعام وشرفة للمشروبات، وصالة للاستقبال.وتعلو القصر أبراج مستطيلة تحمل العديد من الرؤوس المدببة والعنقودية، كما يحيط مجمع القصر سور طيني مطلي بمادة الجص ينتهي عند بوابته الكبيرة التي تطل منها على نافورة وحديقة واسعة تضم أشجار النخيل والحناء والسدر والعلب والحشائش والورود المتنوعة.وليس وحدة سقف المبنى الرئيسي المسقوف بمادة الخشب التقليدية، فالمبنيان الإضافيان كذلك تم سقفهما بالخشب لينسجما مع المبنى الرئيسي في الكثير من عناصر البناء التقليدية، حيث يضمان غرف مستطيلة ومربعة تحمل نفس التصميم التقليدي للمبنى الرئيسي.ولم تتأثر الجدران الخارجية للمبنى الرئيسي بعوامل الزمن والإهمال، لهذا فأن أعمال الترميم تمركزت فقط على الجدران الداخلية وطلائها، وإعادة النوافذ وترميم الممرات واستحداث ممرات تربط بين المبني الرئيسي والمبنى الشمالي والغربي اللذان تم استحداثهما بما يتناسب مع طبيعة الخدمة الفندقية الجديدة القصر مع مراعاة الطابع المعماري التقليدي والتخطيط الهندسي للمبنى الأصلي.المبنى الرئيسي تم تخصيص طابقه الأول كصالة للاستقبال ، وفي جزء منه تقع صالة الطعام، إلى جانب بعض الحمامات الصغيرة، والممرات التي تتفرع لتربط الطابق الأول بالطابقين العلويين من جهة وبين المبنى الرئيسي بالمبنيين الإضافييين، إما الطابقين العلويان للمبنى الأصلي فهي عبارة عن غرف للنزلاء يتميز طلائها من الداخل باللون الأبيض كما هو الحال في غرف المبنيان المستحدثان الذين تطل نوافذ غرف بعضها على الحديقة والمسبحين فيما تطل الشبابيك الخشبية الأخرى على المدينة.ورغم المحافظة على الزخارف والرسوم الجدارية في القصر، إلا أن تصميمه الداخلي قد تغير بشكل عام وذلك حسب طبيعة الخدمة الفندقية التي يقدمها ، ويظهر ذلك في حالة التعقيد والتكلف في محاولة المزج بين الطابع التقليدي الشعبي القديم لأثاث صالة الاستقبال والغرف وبين طابع الحداثة، حيث يدخل الزائر لصالة الاستقبال على أرضية مفروشة بالسجاد الإيراني المستورد والحصير التقليدي المصنوع من سعف النخيل، وكذلك أثاث الغرف التي تضم إلى جانب المجلس الشعبي أسرَّة خشبية وحديدية مستوردة. [c1]مركز غونتر غراس[/c]يوفر فندق قصر الحوطه للنزلاء من السياح والوافدين، إلى جانب الوجبات التقليدية الحضرمية وتنظيم برامج تأجير السيارات، خدمة حجوزات الطيران وتحويل العملات والصرف وتنظيم الرحلات السياحية وإقامة الحفلات الغنائية والمهرجانات الشعبية الفلكلورية الراقصة بالزى التقليدي التي تشد إليها الأنظار وهي تبرز الموروث الفلكلوري التقليدي الوارف لحضرموت.يقول وافق عبد الحكيم المسئول عن إدارة فندق قصر الحوطه، الذي جلس إلى جانبي بينما جلسات الدان الحضرمية وصخب العروض الفلكلورية الراقصة يتعالي : “نحن حريصين من خلال إقامة مثل هذه المهرجانات على تحقيق نوع من التوازن والتكامل فيما يمكن أن يخرج به السائح من انطباع وتصور بحيث تكون لديه فكرة متكاملة عن تجليات الموروث الثقافي والفلكلوري الشعبي لمدن حضرموت وخصوصية الفن المعماري الأصيل.أن من لم يزر القصر لابد أن يعرج عليه ليتمتع بمشاهدة طراز المعماري الفريد كنموذج للطراز المعماري الحضرمي الذي يخلط في روحه بين القديم والحديث بأسلوب فني رائع وعناية فائقة.يضيف وافق :” ليس من المبالغ القول أن تميز القصر بالطابع المعماري الحضرمي جعله وجهه مهمة للكثير من أهم الوافدين للمنطقة، والإحصاءات تبين أن نسبة التشغيلية للفندق خلال المواسم السياحية بالذات تصل إلى 80%، ما يصعب تحقيقه عند غيرنا.هذا هو فندق قصر الحوطه 4 نجوم، الذي يعد وجهه مهمة للكثير من الوفود من كبار الشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية والأدبية والفنية المحلية والعربية والعالمية ،وأبرز على سبيل المثال لا الحصر إلى جانب الرئيس اليمني على عبد الله صالح رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد ورئيس جمهورية جزر القمر الأسبق احمد بن جوهر والفنان الكبير نور الشريف والأديبة الكويتية ليلى العثمان والأديب العالمي غونتر غراس الذي لدرجة إعجابه بما يعكسه القصر من خصوصية الطابع المعماري الحضرمي، قرر أن يترك بصماته هنا، ويبادر بإنشاء مركزاً تعليمياً هو الأول من نوعه لدراسة فنون العمارة الطينية وأصول هذا الفن المعماري العربي والإسلامي الأصيل.