حسمت نتائج الانتخابات النيابية التركية الأخيرة في تموز (يوليو) الفائت، قسطاً وافراً من الأزمة السياسية التي عصفت بتركيا لصالح التيار الإسلامي، المتمثِّل بحزب العدالة والتنمية، وأرجأت قسطاً منها ليكون بمثابة حجر الزاوية لأزمة أخرى، تحمل في جنباتها الكثير من تجلِّيات ومعطيات سابقتها. أزمة، أقلُّ حدَّةً، وأكثر تعقيداً، يتداخل القومي والإثني والديني والعلماني والثقافي والسياسي في مفاعليها وتشابكاتها، ومن المأمول أن تنتهي بتحديد الملامح الجديدة لهوية الدولة التركية، في ما يشبه إنتاج النسخة الثانية للجمهورية.إنها أزمة وضع مسودَّة الدستور الجديد التي تستقطب اهتماماً سياسياً وإعلامياً متنامياً، من المفترض أن يكون جاهزاً للعرض على البرلمان والاستفتاء عليه، نهاية العام الجاري. وقد لخَّص نائب رئيس الوزراء جميل جيجك مصادر الدستور الجديد بـ»الاقتراحات القانونية للأحزاب السياسية، ومسوَّدة الدستور الأوروبي، وقرارات المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان»، في إشارة منه إلى إبعاد المؤسسة العسكرية عن صياغته. ولهذه الأخيرة قصة طويلة وعريقة مع الدساتير التركية السابقة. لكن السؤال: مع استحواذ حزب العدالة والتنمية على الرئاسات الثلاث (الجمهورية والحكومة والبرلمان)، تُضاف إليها قاعدته الشعبية، هل سينجح رجب طيب أردوغان في كتابة الدستور بمعزل عن تأثيرات العسكر، مؤرِّخاً لحقبة جديدة من تاريخ تركيا؟.لقد وضِعَ الدستور الأول لتركيا سنة 1924، عقب انهيار الدولة العثمانية، وبداية العهد الجمهوري بقيادة مؤسسه مصطفى كمال أتاتورك. وحاول هذا الدستور إنتاج دولة قومية من مخلَّفات وبقايا التركة الجغرافية والبشرية للإمبراطورية العثمانية. وبديهي أنه من مستلزمات تأسيس دولة قومية، إيجاد أمَّة تركيّة. ورغم أن أتاتورك، وأثناء تأسيسه للعهد الجمهوري، وعد الأكراد بأن الدولة الناشئة هي مشروع شراكة كردية - تركية، بيد أنَّ تفسيره للقومية جاء ضبابياً، واستناده نظرياً على «المواطنة» مهَّد لتفسيرها بالمنطلق الاثني، وحصرها في «الانتماء التركي»، ما دفع الأكراد للانتفاض عام 1925 ضد التفسير الكمالي، وانتهت الانتفاضة بالسحق الدموي وإعدام زعيمها الشيخ سعيد بيران. وقد أضفت الانتفاضة الكردية المشروعية على التفسير الكمالي الآنف للقومية، عبر تغذية المخاوف التركية من التنوع الذي اعتُبِر خطراً على وحدة الجمهورية الناشئة، وصولاً الى إنكار وجود الجماعات العرقية المختلفة في الدولة. وتالياً، ارتكزت التطبيقات العملية للدستور الأول، بغية خلق أمَّة تركية، على السعي لإذابة وصهر كافة الأقليات القومية في بوقة العنصر التركي. وقد عُدِّل الدستور سنة 1937 بأن ثُبّتت فيه المبادئ الستة لحزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه أتاتورك، وهي: «الجمهورية، القومية، النزعة الشعبية، الدولتية، العلمانية، الإصلاحية» كمبادئ مقدسة. ومع دور البرلمان في صياغته، إلا أن حداثة عهد الجمهورية، والهالة التي أحيطت بالنخبة العسكرية المؤسسة لها، جعلتا نقد هذه المبادئ فعلاً لاوطنياً. وحتى 1946، لم يعط الدستور الأول تفسيراً واضحاً في ما يتعلَّق بالتعددية الحزبية، عندما أقِرَّ في عهد الرئيس عصمت إينونو، ناهيك عن العطالة التي شابت مبدأ الفصل بين السلطات، ما رجَّح كفَّة المؤسسة العسكرية والنخبة البيروقراطية الحاكمة، جاعلاً البرلمان تحت وصاية العسكر والمؤسسة القضائية. ومهّدت إضافة إينونو للفقرة الضامنة للتعددية الحزبية لإزاحة النخبة الحاكمة الممثلة بحزب الشعب الجمهوري عن الحكم سنة 1950، حيث استثمر الحزب الديموقراطي نقمة الأتراك على تخلُّف حزب الشعب عن وعوده الإصلاحية، ما اعتبره العسكر تطاولاً على القيم والمبادئ الأتاتوركية. فكان الانقلاب الأول عام 1960 بقيادة الجنرال جمال غورسل. وغداة انقلاب 1960، طالب العسكر القضاة والمشرعين بإعادة صياغة الدستور، بما ينسجم وضمان استمرار دورهم المحوري في الحياة السياسية. وتالياً، جاء الدستور الثاني يحمل نتيجتين:الأولى، الاستمرار في سياسة خلق «أتراك جدد»، خصوصاً من الأكراد، عبر عمليات الصهر والتذويب القومي، وتالياً تعيين الكثيرين منهم في الجهاز البيروقراطي للدولة، وصولاً لترسيخ مفهوم القومية الاثنية التركية، بالتوازي مع المبادئ الأخرى كـ»العلمانية والشعبية والدولتية...». وفي هذا الخصوص، يشير الدستور إلى أن «كل مواطن في الدولة التركية تركي».والثانية، ضرورة التخلي عن سياسة الاعتماد على حزب الدولة «حزب الشعب الجمهوري»، بإيجاد أكثر من حزب، على خلفية تنامي نشاط اليسار التركي. هكذا ظهر حزب العدالة الذي أسسه سليمان ديميريل على أنقاض الحزب الديموقراطي عام 1961 تتويجاً لهذا المسعى. والجدير ذكره أن الفصل بين السلطات توضَّح أكثر في هذا الدستور، خاصة، ما يتعلق بالسلطة القضائية، فضلاً عن تشكيل المحكمة الدستورية العليا التي غدت الذراع القضائي للعسكر بغية تصفية الحركات اليسارية سياسياً، ومن ثمَّ الإسلامية والكردية.ورغم الفوضى والتقلُّبات السياسية العارمة، وتصاعد وتيرة حراك اليسار التركي جماهيرياً وسياسياً وعسكرياً، إلا أن انقلاب 1971 لم يأتِ بدستور جديد، إنما استهدف تصحيح المسار السياسي المنحرف للطبقة السياسية الحاكمة، على ما رأى قادة الانقلاب. أما الانقلاب الثالث في 12/9/1980، بقيادة قائد الجيش كنعان إفرين، الذي نصَّب نفسه رئيساً للدولة إلى أن خلفه الرئيس الراحل تورغوت أوزال، فكان نتيجة الفلتان والفوضى الناجمة عن أحداث العنف الطائفية بين الأتراك السنّة والعلويين، إضافة إلى تصاعد التيار القومي - اليساري الكردي. ويمكن اعتبار الدستور الثالث الذي أنتجه هذا الانقلاب، إحياء لهيبة العسكر في مواجهة المخاطر والأزمات الداخلية التي تستهدف بنية الدولة. وهو الدستور المعتمد في تركيا حالياً. وقد عُرِضَ على الاستفتاء، لينال 92 في المئة من أصوات الشعب، ما عزز موقف الانقلابيين، وأضفى شرعية على دمويتهم حينئذ، وسط فقدان الشعب الثقة بالطبقة السياسية. ورغم أن دستور 1982 تماهى وبنية دستور 1961 بيد أنه اشتمل على تغييرات مهمة، كإلغاء مجلس الشيوخ المؤلَّف من 150 عضواً، واتخاذ إجراءات دستورية فعَّلت أداء البرلمان، كانتخاب رئيس الجمهورية بالأغلبية المطلقة، في حال عدم تحقق غالبية الثلثين في الجلستين الأولى والثانية (وقد انتخب الرئيس الحالي عبدالله غُل بموجب هذه المادة من الدستور). ولم يلغِ الدستور الثالث الاستناد الى مفهوم القومية التركية – الاثنية، ولم يعترف بالتنوع العرقي أو الديني في البلاد. حيث جاء في المادة الثالثة من المبادئ العامة: «الدولة التركية، بأرضها وأمتها، كيان غير قابل للقسمة، لغتها التركية». ودُعمت المادة الرابعة بالمادة الثالثة التي اعتُبرت غير قابلة للتعديل، وليس من المسموح اقتراح تعديلها مستقبلاً، باعتبارها من المواد التي تتمتع بالحماية خارج الدستور. كما أن التعديلات التي أجريت على هذا الدستور حتى يومنا، لم تمس المواد الثلاث الأولى. وحين أراد حزب العدالة والتنمية التنويه بالتنوع القومي والديني، بشكل غير مباشر، سنة 2004، فإنه أضاف تعديلاً للمادة العاشرة، تحت بند المساواة أمام القانون جاء فيه: «كل الأفراد متساوون أمام القانون، بغض النظر عن اللغة والعرق واللون والجنس والمعتقد السياسي والفلسفي والديني والطائفي».فتح هذا الدستور والتعديلات المُدخلة عليه، تحت ضغط الاشتراطات الأوروبية، المنافذ أمام إدخال الإسلام في الحياة السياسية، بشكل رسمي، في خطوة لمواجهة التيارات اليسارية الكردية والتركية. وقد ورد في المادة 24: «تعليم الدين والأخلاق سيكون تحت الإشراف والسيطرة الرسمية. تعليم الثقافة الدينية والتربية الأخلاقية إلزامي في مناهج المدارس الأساسية والثانوية. ولا يسمح لأحد باستغلال الدين أو الإساءة إليه». أما في تعريف المواطنة، فإنه لم يُنهِ الالتباس الحاصل فيه: فالمادة 66 عرَّفت المواطن بـ»كل شخص يرتبط بالدولة التركية برابطة المواطنة هو تركي»، ما يعني تأطير المواطنة بالانتماء للقومية التركية. كما أن كل أحكام الدستور تكون خاضعة للمحكمة الدستورية، للنظر في إصدار الأحكام بحق منتهكيها، وخاصة الأحزاب السياسية التي يرتبط قرار حلها بأمر منها، في حال انتهاك إحدى المواد الثلاث الأولى المذكورة أعلاه. وتعليقاً على ما يجري من سعي محموم لحكومة أردوغان الجديدة لصياغة مسودَّة الدستور الرابع، وكعيّنة على النقاشات الحادة الدائرة في الإعلام التركي حوله، كتب الكاتب التركي عصمت بيركاند مقالاً في جريدة «راديكال» التركية، يوم 19/9/2007، حمل عنوان «الدستور التركي المقترح يستأنف القديم ويقوّي الحكومة على البرلمان»، جاء فيه: «إنه دستور «مفاوضات». فهو ينص على إصلاحات كثيرة وجيدة مقارنة مع الدستور القديم. ولكنه، في الوقت نفسه، دستور «مصالحة»، يحاول ان يستدرج الإصلاحات، ويحافظ على بعض المبادئ القديمة المقيدة للحريات. فيسعى لإعطاء الفرد مزيداً من الحرية، ويحافظ على سيطرة الدولة وتسلطها... هم لم ينحّوا الدستور القديم جانباً، وانما قرأوا القديم، وتأثروا به، وحاولوا إدخال بعض الإصلاحات عليه، من غير المساس بروحه وفلسفته القديمة البالية... الدستور الجديد، أقوى من الرئيس المنتخب من الشعب، وأقوى من البرلمان، جميعاً». بينما نجد الروائية التركية الشابة إليف شفق، أقل تشاؤماً، حيث ترى «أن تركيا عاشت مائة عام من التغريب والعلمانية المصحوبة بجرعة من القلق، وستقرر النخبة التركية الجديدة المناهضة للنخبة التقليدية، ما إذا كانت مسيرة الغموض ستستمر، أم تصبح ذكرى من خلال الدستور المدني الأول». وبين هذا وذاك، يبقى السجال محتدماً، إلى أن ينهيه أردوغان، بإماطة اللثام عن فحوى دستوره. وبعيداً عن الـ»يمكنات» التي تطلق حول الدستور التركي المرتقب، وتطالب بـ»التعقُّل الاستباقي» من الأكراد، والتفاؤل المفرط إزاء المسعى الأردوغاني الحالي، هل سيبقى الدستور الجديد، دستور الهوية الملتبسة، والتحايل على الأزمات الداخلية، ويكتفي بتحصين وتدعيم خنادق انقلاب الإسلام السياسي على العلمانية، على طريقة الانقلابات السابقة في صياغة الدساتير، ما يعني أنه لن يتعدَّى كونه صدى للنسخ الثلاث التي سبقته؟، أم سيصاغ بعيداً من ثكنات العسكر ونياشينهم المرعبة؟، ليكون دستور التعددية الحقيقية، المرتكز على الموزاييك الحضاري التركي واستحقاقاته الوطنية الديموقراطية، فيغدو المدخل أو المعبر العريض نحو المستقبل الأوروبي، معلناً بذلك ميلاد الجمهورية الثانية في تركيا؟.[c1]* كاتب كردي[/c]
|
فكر
تركيا وأكرادها: مراوحة أم قفزة نحو المستقبل؟
أخبار متعلقة