د .علوي عبدالله طاهرتقول لغة العرب : اليسر هو السهولة والرفق والسعة، وضده العسر، والامر يسير : أي سهل لين، وتيسر الشئ : تسهل وهان، واليسرى الطريقة التي هي اكثر رفقا ولينا، وياسر فلان : لاينه وطاوعه، والتياسر : الملاينة، وتبادل الرفق في المعاملة والميل الى روح التيسير والمطاوعة (ابن منظور، 1303، ص 4959).واليسر من اخلاق القرآن الكريم، وقد وردت في مواطن كثيرة منه، وهو ما يوحي بتقدير القرآن الكريم لهذه الفضيلة الاخلاقية، فالمؤمن انسان لين، يرجح جانب السهولة واللين على جانب الشدة والعنف، ولعل من ابرز مظاهر التمجيد لهذه الفضيلة ان الله تعالى خص بها ذاته في قوله : “يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر” (البقرة،185).فالله تعالى جعل تشريعه سهلا ميسورا معتدلا وسطا، رحمة بالناس وفضلا عليهم، ويتضح ذلك في قوله تعالى : “لايكلف الله نفساً الا وسعها” (البقرة، 286).كما يسر قراءة القرآن الكريم على الناس كافة، على اختلاف السنتهم، ويسر علمه على اذهانهم، ويسر فهمه على عقولهم، ويسر حفظه على قلوبهم، وكلهم من اهل القرآن، ويتضح ذلك من قوله تعالى : “ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر” (القمر، 22) وخاطب الله نبيه الكريم بقوله : “ونيسرك لليسرى” (الاعلى،8) أي نوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على الناس قبولها، ولايصعب على العقول فهمها ويسهل الى الناس تطبيقها والعمل بها، متى تم لهم الايمان واليقين.ولقد امتن الله برسوله على الناس في قوله : “لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم” (الاعراف، 175).والرسول محمد صلى الله عليه وسلم حين عرف رسالته قال : “بعثت بالحنيفية السمحة” (ابن حنبل، 5/266) فهي حنيفية في العقيدة، سمحة في التكاليف والاحكام، وقد خصها الله بالسماحة والسهولة واليسر، لانه ارادها رسالة الناس كافة، والاقطار جميعا، والازمان قاطبة، ورسالة هذا شأنها من العموم والخلود لابد ان يجعل الله في ثناياها من التيسير والتخفيف ما يلائم اختلاف الناس في كل العصور والاجيال والبقاع.واذا عرفنا ان الله سبحانه وتعالى قد قال لرسوله صلى الله عليه وسلم “ونيسرك لليسرى” _(الاعلي،8) فان هذه البشرى ليست مقصورة على شخص الرسول، بل تشمل اتباعه من ورائه، اذ بشرهم بان دينهم دين يسر، وان الذي يسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا.ويقول ابن القيم في كتابه (اعلام الموقعين د.ت، ج3، ص27) : “ان الشريعة مبناها واساسها الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل الى الجور، وعن الرحمة الى ضدها، وعن المصلحة الى المفسدة، وعن الحكمة الى العبث، فليست من الشريعة، وان ادخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في ارضه”.ويقول الشاطبي في كتابه (الموافقات، ج2، ص136) : “ان وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة، حفظ فيها على الخلق قلوبهم، وجبلها لهم بذلك، فلو عوملوا على خلاف السماح والسهولة لدخل عليهم فيما كلفوا به ما لاتخلص به اعمالهم”.والقول بأن الشريعة قامت على اليسر والسهولة مأخوذ من نصوص عدة وردت في القرآن الكريم والسنة النبويلة المطهرة، فمن الآيات قوله تعالى : “يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر” (البقرة، 185) وقوله تعالي : “وما جعل الله عليكم في الدين من حرج” (الحج، 78) وقوله تعالى : “لايكلف الله نفساً الا وسعها” (البقرة 286) وقوله تعالى : “فاتقوا الله ما استطعتم” (التغابن، 16).ومن الاحاديث النبوية الشريفة قوله عليه الصلاة والسلام: “ان الدين يسر، ولن يشاد الدين احد الا غلبه، فسددوا وقاربوا وابشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشئ من الدلجة” (النسائي، الايمان، 4948) وقوله صلى الله عليه وسلم : “يسروا ولاتعسروا، وبشروا ولاتنفروا” (البخاري، الايمان،38)/ وقد اخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : “ما خير رسول الله بين امرين الا اختار ايسرهما ما لم يكن اثما فان كان اثما كان ابعد الناس عنه” (البخاري، الايمان، 39).وهذه النصوص وغيرها تفيد ان الاسلام ليس دينا صعبا لاتستطيع النفس البشرية ان تقوم بالتزاماته، لان غاية الاسلام هو تذكير الناس بالله وربطهم بربهم، وجمع شتات الناس في كل عصر، وفي كل مكان على الشريعة السمحة، القائمة على اساس التيسير ورفع الحرج عن الامة، وليس على كثرة التكاليف وتعقدها، وعلى هذا فليس في التشريع الاسلامي تكليف يؤدي بكثرته وشدته الى العجز عن المداومة وانقطاع النفس عن العمل والملل، بل جاءت التكاليف جميعها مناسبة للزمان والمكان والطاقة، لذا هي داعية بيسرها الى المداومة عليها والقيام بمطلوبها، لدوام الثواب، وعدم الحرمان من الاجر.فالمتعبد بالمفهوم الاسلامي هو الذي يكون دائم اليقظة والمراقبة، مستحضرا ذكر المولى في قلبه بلاانقطاع، ذاكرا شاكرا في يومه وامسه وغده، لايقطعه عمل اليوم عن لذة المناجاة غدا، ولاتنوء نفسه بعبادة سابقة عن متابعتها في حاضره ومستقبله، وبذلك يتحقق للانسان شرف العبودية.ان العمل القليل مع الاخلاص وصدق النية افضل كثيرا من العمل الكثير الشاق الخالي من المعنى، ومن اجل ذلك يرجح بعض العلماء افضلية الاخذ بالرخص التي شرعها المولى سبحانه وتعالى، مناسبة للاعذار الطارئة التي قدرها على عباده رحمةبهم، بحيث يستمر المسلم في مناجاة مولاه، واستحضار فضله وجلاله في قلبه، في أي وضع كان سواء كان مسافرا او مقيما، صحيحا او مريضا، وبذلك يتصل العبد بربه بالعمل، ويستمر فضل الله عليه بالثواب/ (عبادة، 1390، ص 54) . وفي الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال : من هذه؟ فقالت : فلانة، تذكر من صلاتها، قال : مه! عليكم بما تطيقون، فوالله لايسأم الله حتى تسأموا، وكان احب العمل اليه ما داوم عليه صاحبه. (العسقلاني، 1348، 1/102).وعن انس رضي الله عنه قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وحبل ممدود بين ساريتين، فقال : ما هذا؟ قالوا : حبل لزينب تصلي، فاذا كسلت او فترت امسكت به، فقال : حلوه، ليصل احدكم نشاطه، فاذا كسل او فتر قعد. (البخاري، الجمعة، 1084) / وحديث معاذ حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين اطال الصلاة بالناس : افتان انت يا معاذ: ثم قال : ان منكم منفرين، ما صلى بالناس فليتجوز – أي ليخفف – فان فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة. (البخاري، علم، 28).وعلى هذا المبدأ وتحقيقا لمضمونه ترك الرسول صلى الله عليه وسلم اعمالا صالحة من العبادة، وترك المداومة عليها رحمة بامته، وخشية ان تفرض وتتحتم، فقد امتنع صلى الله عليه وسلم عن المدازمة على الجماعة في صلاة القيام في ليالي رمضان خشية ان تكتب على الناس، ولو كتبها الله عليهم ربما قصروا في اقامتها والدوام عليها، فيتعرضون بذلك للمؤاخذة.ولقد ترخص الرسول صلى الله عليه وسلم على مرأى من الناس او منفردا في قصر الصلاة في السفر، وافطر في رمضان وهو مسافر، وصلى جالسا حين جحش شقه، وصلى قاعدا في بيته، وبذلك كانت العبادة برا موصولا ورحمة مستمرة.واليسر المقصود في الدين لاينافيه ان في العبادات تكليفا يتعب الانسان فيه، كالصلاة والصيام والحج، او ان فيه عقوبات شديدة على بعض الجرائم كرجم الزاني، وقطع يد السارق، فان كل تكليف مهما صغر شأنه لابد فيه من بذل جهد او تحمل تعب ومشقة، ولكنها مشقة محتملة بالنظر الى ما يبذل في غيره من الامور المعادة، وليس المقصود من رفع الحرج في التكليف رفعه اصلا، والا بطل التكليف.[c1]مصادر المقالة ومراجعها[/c]1 – القرآن الكريم.2 – البخاري، محمد بن اسماعيل 1320 صحيح البخاري، بحاشية السندي، مصر، المطبعة الخيرية.2 – ابن حنبل، احمد محمد الشيباني (د.ت) مسند الامام احمد بن حنبل ، المعروف بالفتح الرباني لترتيب مسند الامام احمد الشيباني، لاحمد بن عبدالرحمن البنا الشهير بالساعاتي، مصر، مطبعة الاخوان المسلمين.4 – ابن القيم، الجوزيه (د.ت) اعلام الموقعين عن رب العالمين، القاهرة، نشر الطباعة المنبرية.5 – ابن منظور، 1303، لسان العرب، اعداد يوسف خياط، ونديم وعشلي، بيروت، دار لسان العرب.6 – الشاطبي، ابراهيم بن موسى اللحمي (د.ت) الموافقات في اصول الشريعة، علق عليه عبدالله دراز، بيروت، دار المعرفة.7 – عبادة، الشيخ محمد انيس، 1388 التشريع ومصالح العباد، منبر الاسلام، العدد 5، السنة 21، جمادى الآخرة 1389هـ.8 – العسقلاني، احمد بن حجر، 1348 هـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج1، القاهرة المطبعة البهية المصرية9 – النسائي، (د,ت) سنن النسائي، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، وحاشية الامام السندي، من سلسلة الكتب الستة، استانبول، دار الدعوة.
أخبار متعلقة