قراءة للثقافة المجتمعية والتغيرات الفكرية
تـُشكِّل قضية الاغتراب كما تحدَّث عنها الكثير من العلماء واحدة من أهم القضايا التي تحاول معالجة عَلاقة الفرد بذاته ومحيطه المجتمعي والثقافي، فالإنسان الذي يعيش الحياة الحديثة بتعقيداتها الكبرى لابد أن يتعرض إلى عملية انتزاع عن ذاته تقوم بها المعطيات الحديثة للحياة، ومنها تلك القضايا المرتبطة (ب التكنولوجيا) والتحضر والتي أثرت بشكل كبير على الفرد وعَلاقاته الاجتماعية التقليدية. ومع أن (التكنولوجيا) ومعطياتها قد عملت على خلق جديد للعَلاقات الاجتماعية بطريقة مستحدثة، إلا أنّ الإنسان ما زال في مقاومة شديدة لها، ولعل اغترابه عن معطيات (ب التكنولوجيا) والتحضر وحنينه إلى مقومات الماضي بطريقة مشوِّهة في كثير من الأحيان يفسِّر الكيفية التي يمكن أن تبدو بها مظاهر اغتراب الإنسان في مجتمعات كثيرة. إنّ عَلاقة الفرد بحياته وفق المعطيات المعقدة التي نراها في زمن العولمة و(التكنولوجيا) وزمن المعرفة المنتشرة في الفضاء بحجم ذرات الهواء لا تقف عند حدٍ معيَّن بل تتفرع إلى أدق التفاصيل في حياة الفرد وعَلاقته بثقافته وخصوصاً في جانبها الفكري الذي يشكل محوراً مهماً في صناعة الفرد اجتماعياً، فالفرد بكونه جزءاً من المجتمع (الكيان) له عَلاقة معقدة مع الثقافة الكل التي تشكل المنتج الاجتماعي (الكل) حيث تكون القيم الثقافية المشتركة وتكون المعتقدات وتكون مفاهيم الحياة الاجتماعية والفنون والآداب التي يشترك في تعاطيها جميع أفراد المجتمع.إنّ الاغتراب كما يؤكد العلماء يمثل ((قضية الإنسان في كل زمان ومكان، ولا نستطيع أن نقول ـ فقط ـ إنه قضية هذا العصر، نعم إنّ ظاهرة الاغتراب قد تختلف من عصر إلى آخر، ومن مجتمعٍ إلى مجتمع، إلا أننا لا نستطيع القول إن هناك عصراً قد خلا من الاغتراب، فطالما أنّ هناك مسافةً بيني وبين الآخر، وبيني وبين ذاتي، وبيني وبين الأشياء (وبين المجتمع وثقافته)، فلابد وإنْ أشعر بالاغتراب، وطالما أنّ هناك هوةً شاسعة بين المثال والواقع، وبين الحلم والحقيقة، فلابد أن نشعر بالغربة وأنّ هناك شيئاً ما يفصلنا عن هذا العالم........ وسيظل الاغتراب طالما بقي الإنسان)) (1)ومن هذه المنطلقات المنهجية والفلسفية لوجود ظاهرة الاغتراب واستمرارها في الحياة الاجتماعية، فإنّ هذه المحاولة في الحديث عن الاغتراب، تأتي لتفسير اغتراب يتخطى الفرد ويتخطى السلوك الفردي إلى الثقافة (الكل) والمجتمع (الكيان) فما حدث في المجتمعات العربية والإسلامية مع تنامي ما سمي بالإسلام السياسي ومظاهر الصحوة الإسلامية المتشددة، وبزوغ نوع من التفسيرات المضافة للإسلام القائم في المجتمعات التقليدية، كل هذه المظاهر أوجدت نوعاً من الاغتراب بين مصدرين أساسين في التكوين المجتمعي حيث تعرض المجتمع (الكيان) إلى تأطير حقيقي، ورسمت له مسارات محددة تحت عنوان التقيد بالمشروع الإسلامي الجديد تحت شعارات الصحوة والتجديد، كما تعرضت الثقافة إلى إيقاف عناصر أساسية من منتجاتها، فالكيان الاجتماعي بمكوناته الأساسية من أنظمة وأنساق ومؤسسات مدنية يبدو وكأنّه منفصل بشكل مباشر عن ثقافة المجتمع التي تمّ تجزئتها تحت مسميات ومبررات متفاوتة فمكونات الثقافة تتعرض للتجزئة وظهر المشروع الأيديولوجي حاملاً معه مسار إعادة تعريف الثقافة وبناء عناصرها الأصيلة.لقد حدث ذلك الإيقاف، وتلك الاختراقات بشكل تدريجي استغرق الجهد الكثير والوقت الطويل إلى أنّ تحققت الاستجابة الاجتماعية بفعل مقومات وعوامل سياسية واجتماعية وتاريخية أسهمت في صناعة تلك الغربة التي بدأت المجتمعات المتضررة منها بحصاد أفعالها وخصوصاً بعد ظهور الإرهاب وأحداث الحادي عشر من سبتمبر بالهجوم على برجي التجارة العالمي.إنّ مصطلح الغربة موضوع هذه المناقشة يشكل معالجة تحليلية لعلاقة الثقافة بالمجتمع وأثر ذلك كله على الأفراد وعلى مقوماتهم الذاتية التي تنطلق منها علاقاتهم بمجتمعهم وثقافتهم المحيطة. إنّ تعرُّض المجتمعات إلى موجات ثقافية وفكرية لا يقل أثراً عن تعرضها للحروب والآفات والكوارث فالنتيجة النهائية تكاد تكون متقاربة مع اختلاف مواقع التأثير ونتائجه، كما أن تعرض المجتمعات إلى حملة فكرية تستهدف الثقافة ومكوناتها سوف يؤدي في النهاية إلى أهداف محددة لتلك الحملة، وكلما كانت تلك الحملات الفكرية أكثر قسوةً في تعاملها مع المجتمع كانت النتيجة المزيد من القيم المكسورة والثقافة المحطمة، وغالباً ما يستغرق إصلاحها جهداً مضاعفاً، ولكن آثارها تظل حبيسة ذلك المجتمع مدة ليست بالبسيطة ومن هذه الآثار التي قد تتعرض لها الثقافة قضية (الاغتراب) بينها وبين المجتمع ككيانٍ يتشكل من الأفراد والثقافة معاً.[c1]مفهوم الاغتراب وتعريفاته[/c]((لقد أصبح من المألوف ... أن نجد كثيراً من الباحثين يُعالج أزمة الإنسان في هذا العصر من خلال قضية الاغتراب)) (2) ولعل من أبرز المشكلات التي تواجهها مجتمعاتنا مشكلة ارتبطت بتنامي أيديولوجيا قامت على اختراق الثقافة الاجتماعية، وجعلت من مكوناتها عناصر مغتربة عن أصولها التقليدية ومنهجها التاريخي، ويمكن تفسير تلك الحالة من خلال استخدام مفهوم الاغتراب الذي يقول عنه (فروم) في كتابه المجتمع السوي “ 1955م” ((المقصود بالاغتراب نمط من التجرِبة يعيش فيها الإنسان نفسه كغريبٍ، ويمكننا القول إنّه أصبح غريباً عن نفسه، إنّه لم يعد يعيش لنفسه ـ بل إنّ أفعاله تصبح سادته....)) (3) إنّ هذه الأفكار التي يطرحها (فروم) حول الاغتراب تشدد على قضية اغتراب الإنسان عن ذاته.إنّ جوهر الاغتراب عند (فروم) ((هو كل ما يصنعه الإنسان من أشياء يخضع لها)). ولعل هذا المدخل المؤسس لتعريف الاغتراب يرسم تلك العَلاقة بين الفرد وثقافته السائدة من حوله، وإذا أخذنا في الاعتبار أنّ تعريف المجتمع هو مجموعة من الأفراد يكونون كيانه المكتمل من الناحية البشرية، فإنّ ذلك يجعلنا نفترض أنّ الثقافة هي ذات المجتمع التي يمكن أن يغترب عنها، فما يحدث للفرد من غربةٍ عن ذاته يمكن كذلك أن يحدث بين المجتمع وثقافته فكما يغترب الفرد عن ذاته يمكن أن يغترب المجتمع بمؤسساته ونسقه وأنظمته وأفراده عن الثقافة المجتمعية التي تمثله.بمعنى آخر أنّ ما يحدث للفرد من مشكلات لا تصل إلى أن تكون ظاهرة اجتماعية إلا إذا شكلت تلك المشكلات انتشاراً بين مجموعة من الأفراد يقعون تحتها! وهذا يدل على أنّ المجتمع الذي تنشأ فيه ظواهر بعينها إنّما تتشكل عبر ثقافة المجتمع أو تكوينه التراثي، بمعنى دقيق تصبح تلك المشكلات أكثر تواتراً بين الأفراد وتظهر آثارها على المجتمع والثقافة معاً.إنّ فكرة الاغتراب بشكلها الفردي فكرة قديمة اكتشفها الإنسان القديم بل ان أول البشر ابني آدم قابيل وهابيل سجلا أول اغتراب للمجتمع عن ثقافته في المجتمع الأول على الأرض، فلما اقتتل الأخوان كتبت أول قصة اغتراب بين المجتمع ككيان وبين الثقافة كعناصر أوجدها البشر، إنّ البشر يدفعون اليوم ثمن هذه التجرِبة عبر إنتاج عنصر جديد للثقافة اسمه (القتل) حيث اغترب فيه المجتمع عن ثقافته، بإضافة عنصر يتعارض مع مقومات تكوين مجتمع سلمي، الثقافة الكل اغتربت عن المجتمع الكيان في هذه الحادثة لكون القتل كممارسة ومنهج فتح الباب لانفصال مؤلم لثقافة تحمل في تقاليدها التأكيد على أن سمات الأخوة (بيولوجيا) أكبر سمة تشكل الترابط بين الأفراد.إنّ طرح مفهوم اغتراب الثقافة وعناصرها المكونة عن الحياة الاجتماعية بشكل مباشر يعتبر مخاطرة علمية لكون الاغتراب فكرة مهيمنة على عَلاقة الفرد بذاته الاجتماعية، وحيث يعتبر علماء الاجتماع أنّ المجتمع كيان محسوس يمكن أن يتعرض لكل الآثار التي يتعرض لها الفرد، لذلك فإنّ قضية اغتراب المجتمع عن ثقافته إمر ممكن وفق معايير القياس على اعتبار ان المجتمع والثقافة مكوّنات حية لها مقومات الأحياء، وخصوصاً إذا تعرّضَ المجتمع (الكيان) إلى انفصام في توجيه دفته الثقافية أو تغيير شخصيتها أو محاولة التلاعب في خريطتها الجينية أو إضافة عناصر جديدة لمكوناتها، لذلك فإنّه إذا كان الإنسان هو الحيوان الوحيد القادر على قول (أنا) فالمجتمع هو الكيان الوحيد الذي لديه (الأنا) المكوِّنة لجميع عناصره الثقافية والبشرية.إنّ كلمة اغتراب بمفهوم بسيط تدل على تباعد يحدث بين شيئين أو أكثر، هذا التباعد لا يعبِّر عن انفصال دائم بل يعبر عن حالة أوجدت نمط التباعد وشكله وتكوينه وأثره، وهذا ما يجعل مدلول الاغتراب معقداً وحمال أوجه من حيث التطبيق ما لم تكن الأمثلة المستخدمة متطابقة وبشكل منهجي مع مفاهيم الاغتراب ووسائل وجوده، إنّ هذه القراءة تصور الاغتراب الثقافي (الكل) عن المجتمع (الكيان) والأسباب المؤدية إلى هذا الاغتراب بالإضافة إلى الآثار المؤدية إلى ذلك باستخدام التحليل الفلسفي لعَلاقة المجتمع بالثقافة وكيفية نشوء اغتراب بينهما.ستكون الآثار التي تركتها الأيديولوجيات الفكرية التي صنعت التشدد والتطرف هي المثال الذي سوف يشرح كيف يمكن للثقافة بكل مقوماتها أن تغترب عن المجتمع وكيف يمكن أن يُنشأ بين الاثنين نوع من التناقض الدفين الذي يصعب اكتشافه من على السطح الاجتماعي بينما يسهل التعبير عنه بمظاهر التطرف والتشدد والتزمت التي تتطور في كثيرٍ من الأحيان لتشكل الممارسات الإرهابية.[c1]الثقافة (الكل)[/c]((إنّ الثقافة تمثل الأساس الذي يجمع أفراده معاً)) (4) فالثقافة في نظر علماء الاجتماع تعني جوانب الحياة الإنسانية التي يكتسبها الإنسان بالتعلم لا بالوراثة، ويشترك أعضاء المجتمع في عناصر الثقافة، تلك التي تتيح لهم مجالات التعاون والوصل. وتمثل هذه العناصر السياق الذي يعيش فيه أفراد المجتمع. (5). المنتج البشري بجميع أشكاله الحسية والمعنوية يعبر عن ثقافة المجتمع الذي تعيش فيه تلك الثقافة وتنمو عناصرها بين أفراده.الثقافة الكُل هي المسار الذي يرسم للأفراد الكيفية التي يتعلمون بها المجتمع، الفرد بحاجةً أن يتعلّم ما هو المجتمع، وهو بذلك يمر بمراحل كثيرة تخضعه للتنشئة المجتمعية القادرة على تشكل مكوّنات الثقافة بشكل تدريجي داخل الفرد تتصاعد مكوناتها وتتكاثر بتناسب طردي مع المراحل العمرية.[c1]المجتمع (الكيان)[/c]يؤكد علماء الاجتماع أنّ المجتمع هو الكيان الذي يتكون من مجموعة من الأفراد الذين يعيشون في إطار جغرافي وثقافي محدد، ومع كثرة التعريفات حول المجتمع وكيفية وضع حدود واضحة لمعالمه فإنّ ما يهمنا هنا هو التأكيد على أنّ المجتمع لا يمكن أن يوجد لو لم يكن كيانناً له من السمات والخصائص الثقافية والبيولوجية ما يشبه البشر من حيث التأثير والتأثر بالبيئة المحيطة المكونة للإنسان وثقافته.المجتمع الكيان يمكن التعبير عنه بالأنساق والأنظمة الاجتماعية والمؤسسات المدنية والمكونات الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى العنصر الأهم الثقافة المجتمعية حيث يندرج التراث والقيم والتقاليد والمنتج الإنساني.[c1]القيم والمعايير الثقافية[/c]بما أنّ الثقافة هي من نتاج البشر بقيمها ومعاييرها، إلا أنّ تلك القيم يمكن أن تتغير وذلك بفعل ظروف محتملة أو مقصودة، كما أنّ المعايير أيضاً يمكن أن تتعرض للكثير من التعديل ولكن التغيير لا يحدث بشكل سريع وإنّما تتغير المعايير بشكل تدريجي تتضح آثاره بشكل متنامٍ. ((فكثير من تصرفاتنا وعاداتنا اليومية تستظل وتستهدي بمعايير ثقافية، وذلك ما نلحظه في سياق التفاعل الاجتماعي الذي نقوم به في حياتنا اليومية(6).إنّ قضية تغيُّر المعايير والقيم الثقافية تعتبر من المسارات الخطرة التي تواجه الثقافة مهما كان نوعها وخصوصاً التغيرات غير المخططة في القيم والمعايير، فهذا التغير لا يحدث بشكل إيجابي في جميع الأوقات، وهنا تبدو المعضلة، حيث يمكن أن تسير الثقافة في المجتمع بشكل سلبي بينما يرى المجتمع عكس ذلك ومنها اعتقاد المجتمع أنّ ثقافته التي تتعرض للتغيير تتوافق مع اتجاهاته الحقيقية، وهذا ناتج بشكل طبيعي عن عدم القدرة على تقييم مباشر لمعطيات الثقافة المجتمعية وآثار التحول المحتملة من حولها.إنّ عقلانية الثقافة أو ما يُسمى Rationalism لا يمكن أنْ تحدث دون تأثير المجتمع فلا يمكن أن يُطلق على الثقافة السائدة مصطلح العقلانية لمجرد حدث صغير يتجه بها إلى اتخاذ موقف سلبي أو إيجابي من القضايا الاجتماعية. الثقافة التي تتعرض إلى تغيير قسري وفق عوامل اقتصادية أو سياسية وذلك في رؤيتها للتراث الديني تحت مصطلح التجديد أو الصحوة أو العودة أو الأصولية كل هذه المعطيات يتم تبريرها وسوقها على أنّها تغيرات عقلانية حيث تـُساق الأدلة لتبرير انتقال الثقافة من عالمها السابق إلى عالمها الحديث.إنّ الثقافة التي يسمح لها المجتمع بأنّ تجري تعديلات جوهرية على قيمها ومعاييرها وتكون خاضعة وبشكل مباشر لقوى اجتماعية أو تراثية أو تاريخية قادرة على تحريك تلك التعديلات وتحديدها، هذه الثقافة تتعرض وبسرعة إلى اختطاف فكري سريع الانتشار والتأثير، ويحدث ذلك بسبب ضعف المنهج الفكري وارتقائه إلى درجة التسطيح، بالإضافة إلى عدم النضج في مسار العقلانية التي يصعب رؤية مسارها في مثل هذه التغيرات.الحقيقة ذات العَلاقة بالثقافة وتغيراتها تبدو في المسارات التي تمنح المجتمع مزيداً من الالتفاف حول النموذج الذي استطاع أن يجعل التراث الديني ـ على سبيل المثال ـ غلافاً متيناً لمنهجية حمل المجتمع على التشدد في تعاطيه مع التراث الديني ليس من حيث النقد والتصحيح والتنقيح من الشوائب الفكرية التي قد تكون اجتاحته عبر الزمن ولكن بإضافة شوائب جديدة تسهم في اختزال الفكر الديني في ممارسات ضيقة المسار والتوجه.وهذا يعطينا دلالة واضحة على أنّ تغيير القيم والمعايير الثقافية لا يحدث بشكل عفوي بل يحتاج إلى سندٍ تاريخي غالباً ما يكون مختزلاً في اللاشعور المجتمعي للثقافة ويحتاج إلى إعادة تحضير على الواقع وحمايته بالأدلة التاريخية، ولعل صورة الصحوة المتشددة، والإسلام السياسي التي اجتاحت مجتمعات إسلامية كثيرة توضح لنا كيف تمّ استدعاء السند التاريخي، الذي تحتاجه الثقافة لإجراء التغييرات على مسارها. لقد كانت عملية الانتقال عملية صعبة تعرضت باه الثقافة إلى الاستغناء عن مكوناتها الرئيسة وأصبحت الثقافة تبدو معوقة أمام منصة التغيير التي قادها الفكر بمعدات صنعها التاريخ ولكنها استخدمت في المكان والزمان الخطأ، على المستوى العالمي لنأخذ السند التاريخي للنازية على سبيل المثال وكيف استطاع تحريك الثقافة ومخاطبة اللاشعور لدى الثقافة عبر تحريك ذلك المخزون الخاص بالجنس والعرق المميزة للشعب الألماني وتمّ جلبها إلى الشعور المجتمعي مما جعل الاستجابة لها سريعة وسهلة حيث استخدم الفكر النازي لغة ركزت على الشباب العامل الأكثر انطلاقاً نحو التغيير، دون إدراك لمعطيات ذات عَلاقة بعقلانية التغيير ومدى إمكانات الثقافة السائدة لتحمله/ ما أحدث في النازية المثال الأكثر وضوحاً، هو إضافة مقومات جديدة للثقافة السائدة والاستغناء عن مكونات أساسية جعل الثقافة تتحمل أكثر مما اعتادت عليه تاريخياً فكانت النتيجة أنْ سقطت الثقافة وسقطت أفكارها بصورةٍ يصعب تصورها مما يجعل العودة إلى الواقع الطبيعي شبه مستحيل.الأيديولوجيات بجميع أشكالها لديها دائماً محرك تاريخي تلاعب به الثقافة المجتمعية لتمرير أهدافها وخططها بهدف نهائي يخلق غربة بين الثقافة (الكل) وبين المجتمع (الكيان) حيث تسهل السيطرة والتحريك لعناصر المجتمعات المستهدفة.الحقيقة أنّ قيم ومعايير المجتمعات قد تخضع للتشكيل بطريقة دورية، كما أنّها قد تقع تحت سيطرة قوية من أساليب التشكيل، وهذا ما سعت إلى تحقيقه الأيديولوجيات التي سادت في العالم، سواء السياسية أو الفكرية. في جانب آخر لا يمكن الحكم كذلك على القيم والمعايير مهما كان نوعها بأنّها جامدة لا تتحرك مهما كان نوعها أو مصدرها فهي إن لم تكن متجددة فهي على الأقل قابلة للتجديد ولكن الصعوبة التي يمكن أن تواجهها الثقافة في مقابل المجتمع أن يتم تجديد عناصر الثقافة بعيداً عن الواقع الاجتماعي وهذا يشكل غربة ينفصل بها المادي عن المحسوس فتنشأ غربة ميكانيكية بين المجتمع وثقافته.[c1]ميكانيكية الثقافة في مقابل المجتمع[/c]المنهجية الميكانيكية التي يمكن أن تحدث بين المجتمع وثقافته تسبب الغربة الشديدة، فحركة المجتمع والثقافة هي حركة طردية إذا كانت تسير بالشكل الصحيح وتنمو بطريقة تتوازن فيها المقومات الاجتماعية والمقومات الفكرية. المجتمع والثقافة تحكمهما ممارسات تكاملية فالإنسان المكوِّن للمجتمع ينتج الثقافة ليستخدمها في تشكيل وبناء المجتمع بما فيه من أفراد وثقافات ولكي يحدث التوازن في عجلة السير من الثقافة إلى المجتمع ومن المجتمع إلى الثقافة يظل الأفراد يشكلون المادة الحقيقية التي تسهل هذه الحركة الميكانيكية حيث يشكلون محور التوازن. الخلل الذي يمكن أن تتعرض له هذه الميكانيكية هو أن يتم ضخ قيم ومعايير جديدة أو مستوردة أو مجلوبة من التاريخ في الثقافة بطريقة تجعل حركتها صعبة وليست سلسة. بمعنى أدق يحدث التناقض بين سلوك الأفراد في المجتمع وبين مكونات الثقافة التي تتعرض للإضافات غير المتوافقة مع المجتمع كنتيجة طبيعية لعدم التوافق بين الثقافة والمجتمع وتناقض مسارهما بدلاً من أن توازيه. يمارس الأفراد في المجتمع سلوكاً متناقضاً مع ثقافتهم أو يستجيبون لأقصى درجات التطرف في ثقافتهم كنتيجة طبيعية لخلل في ميكانيكية الحركة بين المجتمع وثقافتهم وهذا ما تحدثة الأيديولوجيات التي تعمل على إحداث إضافات مكثفة على الثقافة دون تمييز ومعايير لمدى توافقها أو تناقضها مع الواقع الاجتماعي مما يخلق الغربة بين الثقافة والمجتمع حيث ينمو خلال هذة الغربة أنساق التطرف التي يصعب رؤية أطرافها حيث يظهر التطرف على سلوك الأفراد بمظاهر عديدة تبدأ بالحالات التي تتغير فيها الأشكال إلى الحالات التي يعبر عنها الأفراد بالانتحار في سبيل الثقافة (الإرهاب).[c1]الاغتراب كقضية ثقافية ومجتمعية[/c]الاغتراب بحسب التعبيرات عند الكثير من المفكرين هو انعزال أو انفصال عن الواقع المشترك في أغلب الأحيان تنتج عنه ظروف تؤدي إلى نتائج ظاهرة على الفرد والمجتمع. وإذا كان الغربيون قد استخدموا مصطلح الاغتراب بمختلف دلالاته كأداة كشف وتوضيح ونقد لآفات مثل : الاستبداد السياسي، والقهر الاجتماعي، والجمود الديني، والكبت الجنسي والتعصب بمختلف أشكاله إلى آخر هذه الآفات التي انتشرت في المجتمع المعاصر، فإنّ الشرق خصوصاً الدول والمجتمعات الإسلامية سوف تستخدم مصطلح الاغتراب بمختلف دلالاته كأداة كشف وتوضيح ونقد لآفات مثل مظاهر التطرف الديني والسياسي والانحراف الاجتماعي ومشكلات العولمة وجمود التراث بجميع أشكاله.في العالم الثالث أشكال كثيرة من الآفات التي تؤدي بشكل مباشر إلى الاغتراب، وفي الشرق الإسلامي بشكل خاص يمكن اعتبار أنّ التيارات الصحوية المتشددة، ونشر ثقافة التدين بطريقة تعصبية، وتعزيز ظواهر التخلف وانتشار مقوماتها في الكثير من المجتمعات المسلمة كالفساد المالي وعدم الرغبة في الإصلاح، وعدم تقديم مشروعات تنموية تنعكس على التعليم والصحة والحياة الاجتماعية. كل هذه الأسباب وغيرها سوف تكون محركاً رئيساً لخلق شكل جديد من الغربة الاجتماعية بين الثقافة (الكل) والمجتمع (الكيان)، هذه الغربة أنتجت مشكلات اجتماعية أدت دوراً بارزاً أثر بشكل مباشر على موقف الأفراد من أنفسهم ومن الثقافة السائدة التي لم تعد تتكيف معهم بالدرجة نفسها وبالطريقة نفسها.لقد تعرَّض العالم الإسلامي ومنها مجتمعاتنا العربية خلال العقود الماضية إلى لخللٍ أربك الثقافة السائدة في تلك المجتمعات، وخصوصاً مع بداية مرحلة الاستقلال التي بدأت تباعاً في الدول التي كانت مُستعمرة للقوى العالمية التي انتصرت في الحروب العالمية. لقد كان الحل الأمثل للكثير من تلك المجتمعات هو البحث عن هوية ثقافية جديدة بدلاً من هوية الاستعمار أو هوية تجرِبة الأيديولوجيات الفكرية التي سادت في مراحل تاريخية أعقبت الحرب العالمية الثانية، ومع فرض سياسي للكثير من الأيديولوجيات بغض النظر عن مصدرها وتكوينها سواء أكان دينياً أو فكرياً.إنّ هذا التنقل بين الأيديولوجيات والأفكار وخصوصاً في السياسة التي سادت عالمنا والانتقال من بعضها سريعاً، لم يكن عملية سهلة على الثقافة المجتمعية بل انها كانت عملية مخاطرة لم تحسب لها حسابات سياسية أو اقتصادية ولذلك ظلت هذه المجتمعات عرضة للاهتزاز وعدم الوضوح في مسارها الثقافي، بل أنّ الكثيرً من مجتمعاتنا العربية والإسلامية فقدت هويتها الحاضرة وراحت تلتمس لها هوية تاريخية جعلت دولة مثل مصر تنسب نفسها إلى حضارة سبقت الميلاد بمئات السنين بينما هي دولة عربية إسلامية شهدت أكثر التحولات في الفكر العربي والإسلامي، وقد كان ذلك ظاهراً في أطروحات طه حسين وغيره.لقد أصبح الأثر التراثي وليس الفكري هوية جديدة لمجتمعاتنا وأصبح التاريخ مصدر إلهام حقيقي للبحث عن المجتمع وعناصر تكوينه، ولأنّ الفواصل التاريخية كبيرة فقد ذهبت الثقافة لتبحث عن علامة تاريخية بارزة تنطلق منها، فعلى سبيل المثال اعتمد الإسلام السياسي والفكر المتعصب نموذج الخلافة منطلقاً لمشروعه الثقافي، في المجتمعات الإسلامية متخطياً بذلك حواجز الزمن.إنّ أكثر مؤشرات الغربة في الثقافة المحلية والإقليمية في المجتمعات الإسلامية صنعتها تلك المواقف الفكرية التي تتجاوز الحاضر وتعود إلى الماضي بسرعة هائلة متناسية الخطر على الثقافة والمجتمع بهذا التنقل الذي يشبه تعرض الأواني الزجاجية الباردة للسوائل الساخنة حيث يؤدي ذلك إلى كسرها إلى قطع متناثرة دون أن تتعرض لعملية كسر حقيقية حيث يكفي اختلاف درجة حرارة السائل المضاف إليها لكسرها.الثقافة المرتبكة بهذه الطريقة والتي تعتقد أنّه بإمكانها تحويل عناصر الثقافة والمجتمع إلى الاتجاه الذي تريد ومتى شاءت هي الثقافة التي تغترب عن ذاتها وتغيب عن الواقع وتتعرض لمقومات التخلف بسبب تخبطاتها ونكوصها على الحاضر والمستقبل.في العالم هناك ثقافات مغتربة عن ذاتها بسبب التكوين التاريخي لمسيرتها السياسية ولذلك سوف تظل هذه الثقافات قلقة من التاريخ والثقافة وفلسفة تكوينها، الكثير من الثقافات تدرك تماماً أنّها تعمل بعكس التاريخ الحقيقي الذي حسم القضايا وأبعادها وهذا ما يؤكده مكيافيللي في كتاباته السياسية.إنّ اغتراب الثقافة (الكُل) عن المجتمع (الكيان) هو تعبير عن عملية انفصال وعدم تكيف لتحقيق درجات التوافق بين الإنسان وبيئته الثقافية والفكرية والتراثية التي تستطيع أن توجد له كياناً متوازناً يجعله قادراً على تفسير تساؤلات عن دوره الحضاري ومهمته الفكرية في الوجود، وأوجه هذا الاغتراب كثيرة ومتعددة، ولكن من أبرزها أن يكتشف مجموعة من الأفراد أنّهم يقاومون الثقافة ويعملون على عصيانها بالطريقة التي تتناسب معهم، فالكثير من المجتمعات التي تكتشف غربتها عن ثقافتها تعمل على عصيانها بطريقتين إما بالمجاهرة وهذا غالباً يُعرِّض الأفراد للخطر وخصوصاً إذا كانت تلك الثقافة تجد دعماً من مراكز القوى في المجتمع، وإما أن تتحول المعارضة للثقافة المغتربة إلى ازدواجية في السلوك الفردي حيث يتصرف الأفراد بطرق مختلفة أمام الثقافة وعندئذٍ سيكون سلوكه الذاتي مختلفاً عن سلوكه الاجتماعي الذي اعتاد عليه المجتمع.إنّ أقسى مظاهر الاغتراب بين الثقافة والمجتمع تتمثل في قيام الثقافة بالتنازل للمجتمع عن مقومات رئيسة لها وتسمح للمجتمع بعملية يتم من خلالها ضمور الكثير من مقومات الثقافة وأعضائها سواء مقومات فنية أو تراثية أو قيمية أو سلوكية.[c1] الهوية والمجتمع واغتراب الثقافة[/c]يشكل فقدان الهوية أحد أهم المداخل التي يمكن أن نكتشف من خلالها الغربة الحقيقية للمجتمع عن ثقافته، الهوية مدلول معقد فقد يرتبط بالأرض التي يعيش فيها الإنسان وقد يرتبط بالثقافة التي يولد بها أو الطائفة أو القبيلة أو الأيديولوجيا أو المعتقد، وقد ينحصر في بعض المجتمعات في الحلقات البشرية الأقل عدداً في المجتمع مثل الأسرة والعشيرة والعائلة، كما يمكن للهوية أن تعبِّر عن أكثر من معنى من هذه المعاني وفي وقتٍ واحد. إنّ حاجة المجتمعات إلى تشكيل هويتها وفق مقومات تعكس واقعها الحقيقي يسهم في حماية تلك المجتمعات وضمان بقائها موجودة كجزء من المجتمع البشري دون اضطراب في تحديد ماهيتها.((فمهوم الهوية في علم الاجتماع متعدد الجوانب.... فالهوية بشكل عام تتعلق بفهم الناس وتصورهم لأنفسهم ولما يعتقدون أنّه مهم في حياتهم (من الأشياء المهمة في حياة المجتمع الدين، القبيلة، العائلة، المنطقة).... ويتحدث علماء الاجتماع عن نوعين من الهوية : هما الهوية الاجتماعية : والهوية الذاتية (أو الهوية الشخصية).... وإذا كانت الهويات الاجتماعية دليلاً على التشابه بين الأفراد، فإنّ الهوية الذاتية (أو الهوية الشخصية) تضع الحدود المميزة لنا بوصفنا أفراداً) (7).إنّ عَلاقة الهوية في اغتراب الثقافة تبدأ عندما تبدأ الثقافة المغتربة عن المجتمع في توسيع حدود تلك الثقافة من المجتمع المحلي إلى المجتمعات والثقافات المحيطة ومن ذلك استخدام الإسلامي السياسي لمصطلح الأمة الذي يعمل على توسيع حدود الثقافة السياسية والجغرافية ما يجعلها غير واضحة المعالم أمام الأفراد فيفقد هؤلاء الأفراد التوازن.ويمكن بذلك تفسير مشاركة الكثير من المحاربين المسلمين (المجاهدين) في مواقع كثيرة مثل أفغانستان والشيشان والصومال والبوسنة ... الخ من المواقع التي شهدت حضوراً لهؤلاء المجاهدين الذين دفعتهم الهوية المطلقة للخلافة الإسلامية للانتشار في كل موقع تتلبسه أزمة سياسية.فكرة الهوية الدينية أو العقيدة وخصوصاً عندما يسمح لها بتجاوز الجغرافيا والتاريخ وتجاوز التكوين السياسي للعالم الحديث والذي يضع حدوداً جغرافية تمنع تداخل تلك المجتمعات حتى وإن كان يجمعها تراث أو عقيدة واحدة، فعندما يتم استخدام العقيدة لتكوين هوية اجتماعية للمسلمين أو ما يسمى (الخلافة) على حساب الحدود الجغرافية والمواثيق الدولية، فإنّ ذلك مؤشر طبيعي لشكل من الاغتراب الذي يتخطى المجتمع ويجعل الأفراد يدخلون في غيبوبة سياسية واجتماعية خطرة يصعب تفسيرها على المستوى الثقافي، بل أنّ ذلك يعبر عن حالة انفصال عن الواقع وعدم اعتراف به.إنّ الأيديولوجيات التي تـُمارس دورها من خلال تحميل الثقافة المحلية مسؤولية إقليمية أو دولية بواسطة مصطلح (الخلافة والأمة، بمفهوم قاصر) والتي رأينا أمثلة لها هي التي تخلق الاغتراب الحقيقي عن المجتمع المحلي الذي تتعرض ثقافته المحلية إلى اختزال شديد من أجل تكيفها مع المعطيات المفترضة لهذه الأيديولوجيا (الأممية) وهذا ما يسبب غياب المقومات الرئيسة للثقافة فيغيب الفن والفنون والفلكلور والشعر والمسرح وتغيب معاني الجمال في تلك الثقافة بل وتغييب التفاعل مع الحاضر، وتنتهي كل مقومات الخصوصية الثقافية تمهيداً لتدويلها على مستوى أكثر من المجتمع المحلي، وهذا ما تسعى إليه الأيديولوجيا المتطرفة عندما تستخدم مصطلح الأمة عبر تمرير كل الأحاديث والروايات التي تلغي البيئة المحلية، وتفتح النقاش لمصطلح الخلافة وتكوين الأمة بشكل يتجاوز الواقعية بطريقة محزنة أحياناً، حيث تتصور الكثير من المجتمعات أنّها يمكن أن تكون جزءاً في سياق خلافة يصعب تحقيقها بالشكل والطريقة التي تسوق لها الأيديولوجيا القائمة.[c1]المراجع :[/c]1 ـ حماد، حسن محمد حسن 1995م، الاغتراب عند إيرك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . الطبعة الأولى.2 ـ 3 ـ حماد، حسن محمد حسن 1995م : الاغتراب عند إيرك فروم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. الطبعة الأولى . ص 7 ـ 37.4 ـ الأمين، عدنان 2005م : التنشئة الاجتماعية وتكوين الطباع، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى (ص 9).5 ـ غدنز، أنتوني، 2005 : علم الاجتماع (ترجمة فايز الصياغ)، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية (ص 82).6 ـ غدنز، أنتوني، 2005 : علم الاجتماع (ترجمة فايز الصياغ)، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية (ص 84).7 ـ غدنز، أنتوني، 2005 : علم الاجتماع (ترجمة فايز الصياغ)، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية (ص 90 ـ 91).[c1]يتبع[/c][c1]* كاتب سعودي[/c]