هناك من يظن بأن حرية الفكر تقود إلى الكفر، وأن حرية المرأة تقود إلى الفسق، وأن العقل محدود فلا يمكن إطلاقه إلا كما نفعل مع طير القفص بتعريضه للهلاك. وهناك من يرى أن كل الخطر في تلقي العلوم الإنسانية من غير المسلمين في الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والاجتماع: (فلا يجوز للمسلم أن يتلقى فيه إلا عن مسلم يثق في دينه وتقواه) كما جاء في كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب - فصل (التصور الإسلامي والثقافة). وسيد قطب نفسه لم يكن ليتكلم عن (ميكانيكا الكم) عند تفسير الآية (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) لولا أنه قضى أربعين سنة من عمره وهو يقرأ في فكر (الجاهلية)! فهذه أفكار أربع تأسيسية في بداية البحث، تناقض الفكر مع الإيمان، والعقل محدود الطاقة، ويجب عدم السماح للكفر بالتعبير عن نفسه خوفاً من هزيمة الإيمان إذا ظهر في ساحة المواجهة. وبكلمة أخرى، بناء الأفكار على الإكراه. أما العلوم التطبيقية من الفيزياء والكيمياء والفلك فلا بأس من نقلها مع حرمة الاطلاع على الذيول الفلسفية لها. فنقرأ (الفلك) بدون نظرية (الانفجار العظيم). وندرس (الفيزياء) بدون مبدأ (الارتياب). وندرس (الطب) بدون الإحاطة بنظرية التطور وعلم الجنين المقارن والدراسة الكروموزومية بين الإنسان والشمبانزي. إن تفكيراً من هذا النوع، يشكل خسوفاً كلياً لشمس العقل، وضرباً من الإعاقة العقلية كما عند المشلولين، وانقطاعاً عن مسيرة الفكر الإنساني يحشرنا في شرانق محنطة من تراث لم ينجح في نقلنا إلى المعاصرة حتى الآن. والأهم عدم القدرة على التخلص من العقل النقلي والرسوخ في آسار من التقليد لا نهاية لها. وإذا كان التراث قد كتب في ظروف مشبوهة من الانسحاق السياسي بيد وعاظ السلاطين، فهو تراث لا علاقة له بمفاهيم القرآن، ولا يمثل أكثر من تراكمات لأفكار فقدت فعاليتها في عالم يحكمه منطق الفعالية، أو بتعبير (مالك بن نبي): عالم إسلامي يتم اغتياله مرتين بالأفكار الميتة والقاتلة. ويعني بالأولى الأفكار التي فقدت إشعاعها الحيوي ـ كما في اليورانيوم حينما يتحول إلى رصاص بعد استهلاك الطاقة ـ وتحولت إلى جثث متعفنة يجب أن نطبق عليها (السنّة) فنسارع في دفنها بعد أن فاحت رائحتها. فكما ان للأموات مقابر، يجب أن نبدأ في تهيئة مدافن للأفكار الميتة. أما (الأفكار القاتلة) فهي أفكار فعّالة نُقلت من وسطها إلى وسط مغاير بغير شروط نقلها فضرت من حيث أريد لها النفع، كما يحدث في نقل الدم لمريض بحقنه بزمرة خاطئة فنقتل المريض من حيث نريد شفاءه. من هذه النماذج، البرلمانات ونظائرها، فهي من ناحية الشكل لا تختلف عما يحدث في أوروبا، لكنها من الخارج قبور بيضاء تضم من الداخل العظام وهي رميم. ومن الغريب أن فلسفة القرآن تناقض مفاهيم المسلمين المسيطرة، فهو يفترض أن الإيمان مؤسس على (التفكير) و (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب). اما نحن فنفزع من التفكير. ولم يتهم القرآن قط (العقل) أو (العلم) في الوقت الذي أدان (الظن والهوى) .. ونحن اختلط علينا العقل بالهوى. واعتبر القرآن أن حركة العقل مطلقة: (وإنما أعظكم بواحدة أن تقوموا للّه مثنى وفرادى ثم تتفكروا). بيد اننا نحاصر العقل في كل مجال، ونريد قتل الباطل بكل وسيلة، وضربة 11 سبتمبر نموذج لها. وأمرنا القرآن: وقل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ونحن ننغلق على النص، وننفك عن الواقع والتاريخ، مع أنهما مصادر المعرفة. وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. واعتبر القرآن ان العلم كم تراكمي لا نهاية له: (وفوق كل ذي علم عليم). ونحن نطالب من حولنا أن لا يطلعوا أو يطالعوا وأن يغلقوا عيونهم، ونصدر المذكرات والمنشورات في تحريم القراءة من كتب بعينها، كما فعلت الكنيسة من قبل. وكتاب «الكوميديا الإلهية» لدانتي لم تفرج الرقابة الكنسية عنه حتى نهاية القرن التاسع عشر، وكتابات سارتر الوجودي بقيت حجراً محجوراً حتى نهاية الستينات. وإذا كانت الكنيسة قد أحرقت العلماء وكتبهم مع الساحرات في الساحات العامة وعالجت السعال الديكي بلبن الحمير، فقد أحرقت كتب ابن رشد وحبس رهن الإقامة الجبرية مع اليهود والصعاليك. واعتبر القرآن أن الكون لم ينته خلقه: )ويزيد في الخلق ما يشاء) لكننا نظن أن نهاية العالم اقتربت، ونحن نعلم اليوم أن التاريخ لم يبدأ بعد، وما زالت الإنسانية في مرحلة الطفل الذي يوسخ نفسه ولا يحسن تنظيف قاذوراته. وأعظم شاهد على طفولة العقل الإنساني خطبة بوش الرئيس الأمريكي في شهر فبراير 2002، الذي خطب لمدة خمسين دقيقة في جمهور مترنح صفق له 79 مرة وهو يهدد ويتوعد، مما دعا المحللين إلى أن يسموها خطبة الكراهية. وان خمرة أفغانستان شديدة الكثافة خطيرة على الرشد. (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا). ولا نملك الا ملاحظة الكم الهائل من الإنتاج المعرفي الوارد الينا من غير المسلمين، بدءاً من داروين الذي كتب أصل الأنواع عام 1859، وانتهاء بدونالد جوهانسون الذي كشف عن هيكل لوسي عام 1978، الذي يعود لأكثر من 3.4 مليون سنة. وكل من غطس في التاريخ لفهم قوانين حركته، كان ممن لا يوثق في (دينه وتقواه) حسب تفكيرنا مثل (ويلز) صاحب كتاب (معالم تاريخ الإنسانية) أو البريطاني (توينبي) صاحب كتاب (مختصر دراسة التاريخ) أو الأمريكي (ويل ديورانت) صاحب سفر التاريخ بـ 42 مجلداً عن (قصة الحضارة). فضلا عن ان كل الانتاج المعرفي في علوم الذرة أو المجرة كان من غير المسلمين، بدءا من تركيب العناصر في الجدول الدوري للعناصر الذي كشفه (ديمتري مندلييف) الروسي، وانتهاء باكتشاف تمدد الكون على يد الأمريكي ادوين هابل، أو تركيب الذرة على يد الدانماركي نيلز بور، أو فك إشكالية حركة الإلكترون في قانون الارتياب على يد الألماني فيرنر هايزنبرغ، أو معنى الحضارات وحركة التاريخ على يد (اوسفالد شبنجلر) الألماني، أو حركة المجتمع وتشريحه على يد الفرنسي أوجست كومت، أو قوانين علم النفس عند النمساوي فرويد أو سكينر من المدرسة السلوكية وفيكتور فرانكل وابراهام ماسلو من مدرسة علم النفس الإنساني. وهكذا فالإنتاج المعرفي، شئنا أم أبينا، يهبّ علينا اليوم بماء منهمر برياح موسمية شمالية غربية. والسؤال الذي يطرح نفسه ما سبب نكبة الفكر عندنا؟ ولماذا أصبنا بهذا العقم المنهجي؟ ولماذا كل هذا الرعب من المعرفة؟ إن عدم السير في الأرض والاستفادة من التاريخ والواقع يجعلنا لا نستفيد من القرآن، وهو ما أشار إليه حديث (ابن لبيد) حينما أخبرهم صلى اللّه عليه وسلم عن (ذهاب العلم) فتعجب الصحابي وظن أن الأمر متعلق بقراءة القرآن، فقال: (وكيف يضيع العلم ونحن نقرأ القرآن وسوف نقرئ أبناءنا القرآن وأبناؤنا سيقرئون أبناءهم القرآن، فقال له صلى اللّه عليه وسلم: ثكلتك أمك ابن لبيد، لقد ظننتك أفقه من بالمدينة أو ليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء). إن ما لم يفهمه الصحابي أن الانحطاط يمكن أن يحصل مع وجود القرآن لافتقاد آلة الاستفادة منه (العلم). كما فات الصحابي الجليل أن هناك آلية خفية يعيش فيها كل إنسان ولا يتفطن إليها وهي ارتباط النص بحركة الواقع، كما يحدث من انفكاك عمود الحركة في السيارة عن العجلات فتتوقف عن السير. وعندما تنفك هذه الآلية لا ينتفع الإنسان من أي شيء حوله. ونحن اليوم نملك أعظم المصادر ويصب الذل على رؤوسنا مع شروق كل شمس. وعندما يقرأ المسلمون القرآن بعيون الموتى، لن يستفيدوا منه. وهناك من الأتراك والعجم من حفظ القرآن عن ظهر قلب بدون أن يفهم كلمة واحدة. وعندما كان (محمد عبده) يخبر أن فلاناً حفظ القرآن، كان يقول: زادت نسخ القرآن واحدة. والفرق بين الفهم والحفظ مثل إنسان دخل صيدلية عامرة بالأدوية وهو لم يسمع بالكيمياء العضوية بعد. أو مثل جاهل نظر في السموات العلى، أو أمي نظر في وثيقة عن السلاح الذري باللغة الإنكليزية. فقد يتناول الأول دواء ساماً، ولن يفقه الثاني شيئاً عن نظرية الانفجار العظيم، ولن يفك الثالث الخط عن أخطر سلاح عرفه الجنس البشري، أكثر من خربشة أقدام الدجاج في الطين. إن عدم الانتباه إلى هذا يجعلنا لا نستفيد من القرآن. إن صراع الفكر في وجه التعصب والخرافة طويل. ويذكر التاريخ أن (دانتي اليجيري Dante Alighieri) الشاعر والسياسي الإيطالي الذي عاش بين عامي 1265 ـ 1321 حُكم بالإعدام مرتين ونجا من حبل المشنقة، واختفى عن الأنظار سنوات طويلة، وأحرقت معظم كتاباته، وكان يصارع قوى مرعبة من غيلان الكنيسة ورجال الاكليروس، وفي السنوات السبع الأخيرة من حياته فضل أن يودع الحياة الدنيا بكل خرافاتها ليتصور نفسه في العالم الأخروي مع العقول النيرة يناقش في الفلسفة والدين والسياسة والدولة بدون خوف من جواسيس الكنيسة واستخبارات الحكومة في صحبة الشاعر فرجيل وحبيبته بياترس فكتب كتاباً مثيراً بعنوان «الكوميديا الإلهية» التي تعتبر أعظم أعمال النهضة وتضم أكثر من 100 قصيدة في 14230 فقرة. [c1]* مفكر اسلامي[/c]
|
دراسات
حرية الفكر والإيمان
أخبار متعلقة