محمد زكريانشرت مؤخرًا كلية الآثار والتاريخ بمعهد الاستشراق في أوزبكستان تقريرًا مفاده أنه تم العثور على عشرات من شهود القبور يرجع أصحابها إلى القبائل اليمنية التي فتحت مناطق آسيا الوسطى في عصر الخلفاء الراشدين ، والدولة الأموية ، و الخلافة العباسية والتي كانت الأخيرة في سياستها تقوم على التوسع نحو بلاد شرق آسيا الوسطى، بخلاف الدولة الأموية التي كانت سياستها تتجه غربًا ، فقد فتحت جيوشها بلاد المغرب ( الأوسط والأقصى ) وبعدها انطلقت إلى الأندلس وأقامت فيها حضارة إسلامية غمرت أضواؤها جنوبي فرنسا وإيطاليا ، وأدركت أضواؤها شمالي أوربا . ولكن لا يفهم من ذلك أنّ الدولة الأموية لم ترن إلى بلدان أو أقاليم آسيا الوسطى أو أنها لم تهتم بنشر الإسلام فيه . فقد ذكرت الروايات الإسلامية ، انه في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وصلت جيوشه إلى عددٍ من بلدان آسيا الوسطى ، ونشرت في بعض أقاليمها نور الإسلام. ويذكر تقرير معهد الاستشراق في طشقند بأنّ الكثير من القبائل اليمنية استقروا في أوزبكستان ، تركمانستان ، طاجاكستان ، تركمنستان، أذربيجان ، داغستان ، وقيرغيزيا ، وأرمينيا وغيرها و أكثروا فيها النسب ومازال الكثير من الأحفاد أو من الأجيال الجديدة التي نبعت من بيئة وتربة موطنهم الجديد في بلاد آسيا الوسطى الإسلامية بصورة عامة وأوزبكستان وطاجاكستان وبصورة خاصة تعود أصولهم إلى القبائل اليمنية أو اليمن ( الأم ) . [c1]الفتوحات الإسلامية الكبرى[/c] وعندما تبددت غيوم حرب الردة سنة ( 633م / 11 هـ ) عن سماء جزيرة العرب اتجهت الدولة الإسلامية الفتية من عاصمتها المدينة المنورة في عهد الخليفة أبوبكر الصديق الذي تولى شئون حكم المسلمين في نفس السنة الذي توفى فيها النبي صوب الأقاليم التي كانت تسيطر عليها الإمبراطورية الفارسية ، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الفتوحات الإسلامية الكبرى تدور عجلتها وتطوي الأرض طيًا . وتذكر المراجع التاريخية أنّ القبائل اليمنية كانت القوة الرئيسة في الجيوش الإسلامية في فتح الأمصار . وهذا ما أكدته الروايات المعاصرة أنّ غالبية الجيش الذي انطلق من القدس في فلسطين صوب مصر سنة ( 21 هـ / 642م ) بقيادة عمرو بن العاص t المتوفى ( 44 هـ / 665م ) ، كان من القبائل اليمنية والتي بلغت نحو ( 4000 ) مقاتل. ويقول الباحث خالد محمد العزب أنّ القبائل اليمنية فاقت عدد القبائل العربية الأخرى التي اختطت الفسطاط في مصر ببعيد فتحها ، حيث مكثت واستقرت بها : “ بلغ عدد القبائل التي اختطت بالفسطاط نحو ست عشرة ومائة خطة ( حي ) ، ما بين قبائل وبطون ، ما يلي : ثماني عشرة قبيلة وبطناً من عدنان ( عرب الشمال ) . ست وثمانون قبيلة وبطناً من قحطان (عرب الجنوب ) ، ست قبائل من غير العرب ، خمس قبائل خاصة “. وهذا إنّ دل على شيء فإنه يدل على أنّ القبائل اليمنية تفوق القبائل العربية عددًا ـــ كما مر بنا سابقا ـــ وفي عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب توسعت الفتوحات ا الإسلامية الكبرى توسعاً عميقاً صوب بلاد الرافدين ( العراق ) وفارس شرقاً ، ومصر وبلاد أفريقيا وتحديدا برقة وطرابلس غربا، وتذكر المراجع التاريخية أنّ البداية الحقيقة لاتجاه المسلمين صوب ( فارس ) ومن ثم انطلاقهم إلى آسيا الوسطى تتمثل في المعركة الفاصلة التي غيرت مجرى التاريخ الإسلامي وهى معركة القادسية التي وقعت سنة } 12هـ / 634م ) . ومنذ هزيمة الفرس الساحقة على يد القائد المسلم سعد بن أبي وقاص أنفتح الطريق للفاتحين المسلمين إلى أقاليم آسيا الوسطى وذلك بعد أنّ ثبتوا أقدامهم في خراسان وما وراء ( نهر جَيحُون). ويذكر المؤرخ البلاذري في كتابه (( فتوح الُبلدان ) أنّ الإسلام سواء في أذربيجان أو أرمينية أو طبرستان وغيرها من الأقاليم في آسيا الوسطى لم يستقر الإسلام فيها بصورة عميقة في عهد الخلفاء الراشدين ، فكان بين جذب وشد أي كانت ثورات أهالي تلك المنطقة أو المناطق تندلع بين حين وآخر بمجرد خروج الجيوش الإسلامية منها . ولكن عندما بزغت شمس الدولة الأموية ، وتولت بعدها الخلافة العباسية شئون الوطن العربي والعالم الإسلام انتشر الإسلام انتشارًا سريعًا وثبت أقدامه في تلك الأقاليم المحيطة ببلاد الروس من ناحية وتأصل في نفوس أهلها من ناحية ثانية وصاروا من المدافعين الأشداء عبدالإسلام وعقيدته السمحة في تلك الأقاليم الأسيوية الوسطى من ناحية أخرى .[c1]في عصر الدولة الأموية[/c]
مدينة طشقند
وفي عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان المتوفى ( 86 هـ / 705م) ( والتي بلغت الدولة أوج قوتها وهيبتها. فقد ذكرت الروايات التاريخية أنّ وفدامن رؤساء وأعيان ، وعشائر القبائل من المناطق المجاورة لأوزباكستان ، وأذربيجان قدموا إلى الخليفة الأموي في دمشق عاصمة الدولة الأموية وحاضرة العالم الإسلامي حينذاك يطلبون منه المساعدة في إخماد نار الفتنة والاضطرابات التي تضطرم في الكثير من مناطقهم من جهة و دفع عدوان الأمراء ، والحكام الجائرين على أقاليمهم من جهة أخرى وذلك مقابل دفع جزية سنوية . ويبدو أنّ زعماء تلك الأقاليم في آسيا الوسطى ، قد عرفوا عن أخبار العرب منذ عهد الخلفاء الراشدين وكذلك من خلال التجار العرب المسلمين الذين كانوا يتاجرون معهم . وكيفما كان الأمر ، تذكر المصادر العربية أنّ الخليفة عبد الملك الأموي أمر واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي أنّ يوجه جيشًا إلى آسيا الوسطى للدفاع عن هؤلاء من جهة وتثبيت دعائم الأمن والطمأنينة في مناطقهم من جهة أخرى . وأكبر الظن أنّ عبد الملك رأى أنّ دعوة هؤلاء القوم فرصة ثمينة لنشر الدين الإسلامي في تلك البقاع . ولقد أجمعت المصادر العربية على أنّ غالبية القبائل التي كانت في الجيش الأموي ، كانت من القبائل اليمنية كقبائل همدان ، مراد ، وبني حارث والمهرة ، والبلي ، ولفيف من قبائل جزيرة العرب المشهورين بالشجاعة، ورباطة البأس ، والمهارة في فنون القتال والنزال . وتذكر المصادر أنّ تلك القبائل اليمنية أبلت بلاءً عظيماً في تلك الأقاليم . ويذهب المؤرخون المحدثون أنه لم يمض وقت طويل حتى دخل الكثير من أهالي مناطق آسيا الوسطى في دين الإسلامي نظرًا لما أبداه المسلمين من سلوك مستقيم وأخلاق فاضلة ، ومعاملة حسنة معهم . ويقول أحد المؤرخين الأوزباكستانيين أنّ القبائل اليمنية كان لها دور مهم في تثبيت دعائم الإسلام في أوزباكستان وطاجاكستان وأذربيجان وعدد من بلدان أقاليم آسيا الوسطى. والحقيقة أنّ الإسلام كما ذكرت المراجع التاريخية وصل أضواء إلى أقاليم آسيا الوسطى في عصر الخلفاء الراشدين وتحديداً في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـــ كما مر بنا ــــ ولكن الإسلام لم يثبت دعائمه في تلك الأقاليم نظراً لقيام التمردات والثورات على الجيوش الإسلامية بين حين وآخر ولكن في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان تم تثبيت أركان الإسلام أو بمعنى آخر أسس له قاعدة قوية يستطيع أنّ ينطلق منها إلى أقاليم أخرى من آسيا الوسطى . وتذكر المراجع التاريخية ، أنّ الإسلام أنتشر شيئًا فشيئًا في بلدان أقاليم آسيا الوسطى في عصر بني أمية . وتقول بعض الروايات التاريخية أنّ القبائل اليمنية مكثت واستقرت في عددٍ من أقاليم آسيا الوسطى كأوزبكستان ، وطاجاكستان وأكثروا فيها النسب ، فقد تزوجوا من أهلها ، وانصهروا معهم ، ومن ثم تشكل جيل جديد نابع من بيئة تلك البلدان أو بمعنى آخر صاروا جزءًا لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع ولكن الحقيقة الواضحة أنّ أصولهم تعود إلى اليمن ( الأم ) .ومن يتأمل ويتعمق الأعراف ، والعادات ، والتقاليد من ملبس ، ومأكل سيلفت نظره التشابه الكبير وإنّ لم يكن التطابق بين القبائل اليمنية والعشائر الأوزباكستانية ، والطاجاكستانية وغيرهما من بلاد آسيا الوسطى المتاخمة لبلاد الروس . [c1]اليمنيون والأمويون[/c]
مدينة دمشق السورية
ويعزو أحد المؤرخين المحدثين ، بأن أسباب تكوين غالبية جيش المسلمين في الدولة الأموية من القبائل اليمنية يرجع إلى أنّ اليمنيين ، كان لهم اليد الطولي في قيامها على سطح السياسة الإسلامية والوقوف معها في أشد الأوقات حرجًا وعلى وجه التحديد في عهد معاوية بن أبي سفيان المتوفى ( 60هـ / 680م ) ، مما أكسبهم مكانة كبيرة ومرموقة في شئونها السياسية والإدارية والعسكرية ، وكانت القبائل اليمنية تمثل القوة الضاربة للأمويين في جيوشهم وإزاء ذلك كان الخلفاء الأمويون يثقون بالقبائل اليمنية ثقة مطلقة. وعندما جنحت شمس الدولة الأموية إلى المغيب ، وبزغت شمس الخلافة العباسية سنة ( 132هـ / 750م ) تعرض العنصر العربي ومنهم القبائل اليمنية على وجه التحديد إلى الكثير من الاضطهاد على يد العنصر الفارسي وخصوصًا في عهد الخليفة العباسي عبد الله المأمون المتوفى ( 218هـ / 833م ) الذي وقفت معه في صراعه العنيف ضد أخيه المقتول الأمين محمد سنة ( 198هـ / 814م ) على الاستئثار بالسلطة والذي كان الأخير يمثل العنصر العربي أو بمعنى آخر الخلفاء العباسيين الذين ، كانوا يوقرون ويجلون العرب ومنهم القبائل اليمنية . والجدير بالذكر أنّ القبائل اليمنية وقفت مع الأمين في صراعه ضد أخيه المأمون ، وعندما انقلبت كفة الميزان لصالح العنصر الفارسي ، توارت القبائل اليمنية عن مسرح السياسة ، وكان لوقوف القبائل اليمنية ـــ كما مر بنا ـــ غصة في نفس الخليفة المأمون الذي كن كراهية شديدة لليمنيين لوقوفهم مع الأمين ضده . وهذا ما أكده أحمد أمين : “ وزاد نفوذهم كذلك ( أي العنصر الفارسي ) في عهد المأمون ، فقد انتصر الفرس نصرة ثانية كالتي كانت بين العباسيين ، والأمويين ، لأن أغلب الفرس تعصب للمأمون ، وأكثر العرب تعصبوا للأمين ، فُعدت غلبة المأمون نصرةً فارسية “ . وفي موضع آخر يقول أحمد أمين عن كراهية الخليفة المأمون لليمن واليمنيين ، : “ وأما اليمن ؛ فو الله ما أحببتها ولا أحبتني قط ... “ . [c1]في عصر الخلافة العباسية [/c] لقد قلنا : سابقا أنّ أنوار فجر الإسلام بزغ على بلدان آسيا الوسطى في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، ولكن بعض الروايات التاريخية تؤكد أنّ الإسلام لم يثبت دعائمه إلاّ في عهد الخلافة العباسية ووصل إلى مناطق بعيدة في ( روسيا آسيا الوسطى ) أو المناطق المتاخمة لبلاد الروس وذلك في عهد الخليفة المقتدر بالله المقتول سنة ] 320هـ / 932م [. وهذا ما أكده طه الولي في كتابه ( صفحات من تاريخ الإسلام في بلاد السوفيات ) ، يقول : “ أنّ الخليفة المقتدر بالله الخليفة العباسي أرسل محمد بن فضلان وهو من القضاة إلى (( البولفار )) على نهر الفولفار بتاريخ 21 حزيران 931م ... وحاول القاضي ابن فضلان ، أنّ يستميل ملك البلفار إلى الإسلام ، ولكن المصادر الإسلامية لا تعطينا صورة واضحة عمّا حققه هذا القاضي من نجاح في بلاد البلفار أو بلاد الروس ... بيد أنّ محاولته قد أثمرت ودخل عدد غير قليل من الناس في دين الإسلام ، وبعدها انتشر الإسلام شيئًا فشيئًا في آسيا الوسطى وترسخ هناك بفضل قيام الدولة العثمانية التي اتجهت صوب أوروبا في بداية القرن ( 10 هـ ) القرن ( 16م ) في عنفوانها وذروة قوتها قبل الاتجاه إلى الوطن العربي “ . فإنّ تلك الرواية التاريخية تعطينا معطيات بأنّ الإسلام توغل إلى داخل بلاد الروس ومن البديهي أنّ لأحفاد القبائل اليمنية دورًا كبيرًا في نشر الإسلام في تلك الأقاليم الروسية . [c1] في خلافة هارون الرشيد[/c] وشهدت الخلافة العباسية أوج قوتها وهيبتها وازدهارها في عهد الخليفة هارون الرشيد المتوفى ( 193هـ / 908م ) ولكن المراجع التاريخية لا تعطينا صورة واضحة وتفصيلية عن دور هارون الرشيد في نشر الإسلام في بلدان آسيا الوسطى وكل التي أسهبت في حوادثه هى قضية نكبة البرامكة وكيف مزقهم شر ممزق . ولكن هناك إشارة توضح أنّ هارون الرشيد ، كان دائم الغزو . وهذا ما أكده ابن الطقطقي في وصف شخصيته وأعماله ، ومناقبه ، قائلاً : “ كان يحج سنة ويغزو سنة ... “ ولكنه لم يتكلم من قريب أو بعيد عن الغزوات التي قام بها في بلاد آسيا الوسطى . ويذكر البلاذري أنّ قبيلتي الأزد وهمدان وهما من أشهر القبائل اليمنية نزلتا في أرمينية وأذربيجان في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد . وهذا الدليل يقودنا إلى أنّ الدولة العباسية في عهده توجهت صوب أقاليم جديدة في آسيا الوسطى . [c1]في بلاد الروس[/c] وكيفما كان الأمر ، فقد ذكرت المراجع الإسلامية والروسية أنّ أحفاد القبائل اليمنية في بلاد الروس ، كان مركزهم في إقليم داغستان وهى الواقعة في روسيا الاتحادية ( حاليًا ) جعلوها قاعدة لانطلاقاتهم والتوغل إلى داخل روسيا لنشر الدين الإسلامي ، وتشير تلك المراجع إلى أن أحفاد اليمنيين الأوائل حققوا الكثير من النجاحات حيث دخل عددٍ غير قليل من الروس في الإسلام . وهذا ما أكده المؤرخ التركي إحسان حقي بأنه بلغ عدد المسلمين ثمانية عشر مليونًا ، كان الجزء الأكبر منهم في سهول روسيا عند نشوب الثورة الشيوعية .وتقول بعض الروايات التاريخية أنّ أحفاد القبائل اليمنية ، مكثوا واستقروا في بلاد الروس الواقعة تحت نفوذ القياصرة الروس . ويذكر المؤرخون الروس أنّ هؤلاء الأحفاد أو بمعنى آخر الأجيال الجديدة النابعة من أصول يمنية تميزوا بالذكاء الحاد ، فقد صانعوا الكنيسة الشرقية ( الأرثوذكسية ) التي كانت الديانة المسيحية الرسمية للأباطرة الروس والذين كان الأخيرون يتعصبون لها تعصباً أعمىَ ، فبذلوا قصار جهدهم في كسب ود القياصرة وبتلك الوسيلة أو الوسائل تمكن هؤلاء الأحفاد اليمنيون أو الجيل الجديد من اليمنيين أنّ يسيروا بسفينة الإسلام بسلام في بلاد الروس . وتذكر المراجع الروسية أنّ القيصر نيقولا في سنة ( 1902م ) أمر ببناء مسجد جامع للمسلمين في موسكو بجانب الكنيسة الكاتدرائية . وهذا دليل على تعاظم مكانة المسلمين في المجتمع الروسي في عصر القياصرة من ناحية وحضوره الواضح في بعض مناطق بلاد الروس من ناحية أخرى .وتقول بعض المصادر الروسية أنّ القيصر ( ِإيفان الرهيب ) حاول أنّ يكسر شوكة الإسلام في عدد من أقاليم روسيا آسيا الوسطى ولكنه قوبل بثورة عارمة من المسلمين الروس التي كلفته الكثير من المال والرجال ، ولم تخمد جذوة ثورتهم إلا بعد أن كف القيصر يديه عنهم . والحقيقة أنّ أحفاد القبائل اليمنية ، كانوا يدركون تمام الإدراك أنّ القوة الحقيقية التي ستجعل الإسلام ينشر ضياءه في روسيا هو الإنكباب على العلم والمعارف الإسلامية أي التفقه في الدين من جهة وإبراز الثقافة الإسلامية بصورة مشرقة ومشرفة من جهة ثانية وعدم الخوض في قضايا شئون القياصرة الروس السياسية من جهة ثالثة. واستطاع أحفاد القبائل اليمنية بتلك السياسة الحكيمة أنّ يكسبوا ثقة القياصرة وأنّ يتركوا لهم حرية العبادة . باستثناء الإمبراطورة كاترين الثانية ( Catherine ) ــــ . فقد ذكرت المراجع الروسية أنها اضطهدت المسلمين الروس اضطهاداً كبيراً بسبب تعصبها الديني فاستعملت سياسة العنف ، والقسوة ، والبطش معهم . ويبدو أن كاترين الثانية التي كانت ألمانية المولد والمنشأ ، والتي جلست على عرش القياصرة الروس ـــ بعد مؤامرات دموية مرعبة ـــ أرادت أنّ تثبت أنها روسية أكثر من الروس أنفسهم .[c1]اليمنيون والحضارة الإسلامية [/c]تذكر الروايات التاريخية أنّ اليمنيين بمجرد أنّ يصلو إلى عددٍ من بلاد الروس فإنهم يؤسسون من فورهم مسجدًا وبالقرب منه تبنى مقر الرئاسة أو الحكم ، وبجانبه السوق وبذلك كانوا يؤسسون ملامح وصلت ذروة ازدهارها العمراني في القرن الرابع الهجري ( العاشر الميلاد ) ، وقد علق أحد المستشرقين الروس أنّ تلك المدن الإسلامية كانت بمثابة القاعدة الذي تنطلق أنوار الإسلام إلى آفاق شعوب تلك الأقاليم .وذكرت المصادر الإسلامية الروسية أنّ هؤلاء الأحفاد أو الأ-جيال الذين ينتسبون إلى اليمن حملوا أيضًا مشعل الحضارة العربية الإسلامية ، وتظهر في العمارة المسجدية ، والعمارة الدينية كالأضرحة وغيرها الماثلة للعيان حتى يوم الناس هذا في بلاد آسيا الوسطى الواقعة في إطار روسيا والتي تطلق عليها بعض المصادر التاريخية باسم ( بلاد الروس ) تحديدًا عن آسيا الأقصى الواقعة في مجال بلاد الصين .ولقد تمكنت الأجيال النابعة أصولها وجذورها من القبائل اليمنية أنّ ينصهروا في بيئة روسيا آسيا الوسطى ، أنّ يزاوجوا بين بيئة بلاد الروس وروح الحضارة الإسلامية المشرقة ، فجاءت أعمالهم عيناً من عيون العمارة الإنسانية وبذلك حافظوا عبر العصور على تراث وتاريخ آبائهم وأجدادهم اليمنيين النابع من الحضارة الإسلامية الرائعة . ويذهب بعض المؤرخين الروس المحدثين إلى أنّ تلك العمارة الدينية في بلاد الروس كانت بمثابة تواصل الأجيال الجديدة مع أسلافهم القبائل اليمنية أو اليمنيين الرواد الأوائل الذين غرسوا بذور الثقافة و الحضارة الإسلامية في تربة بلاد آسيا الوسطى: أوزبكستان ، داغستان ، تركمنستان ( عشق آباد ) ، سمرقند ، بخارى ، والقفقاس وغيرها حتى يوم الناس هذا . ويعزو بعض المؤرخين الروس سبب تفنن وتفوق أحفاد القبائل اليمنية في بلاد روسيا آسيا الوسطى أو بلاد الروس يعود إلى أنّ اليمنيين في تاريخهم القديم البعيد ، كانوا أصحاب علم ومعرفة وهندسة وزراعة ، وقد شيدوا أعظم سد في العالم القديم حنيذاك وهو سد مآرب والذي عد أعجوبة هندسية بهرت العقول والأبصار ، وعندما ساهم وشارك اليمنيون في الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى ، كانت أعدادهم غفيرة تفوق قبائل جزيرة العرب التي شاركت في تلك الفتوحات ، وعندما فتح اليمنيون الأمصار وأطلعوا على ثقافاتهم الأخرى امتزجت حضاراتهم وثقافاتهم التليدة بثقافات وحضارات الشعوب الأخرى فنتج عن ذلك بروز ثقافة خصبة وغنية . وهذا ما أكده سيد مصطفى سالم في كتابه (( المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول )) : “ وقد ساهم هؤلاء ( أي اليمنيين ) عند ظهور الإسلام مساهمة فعالة مؤثرة في نشر الإسلام ، وفي تعريب منطقة الشرق الأوسط وذلك لاشتراك الأعداد المغفيرة منهم في الجيوش الإسلامية في عهد الفتوحات ، ثم بهجرة قبائلهم إلى المناطق المفتوحة واستقرارهم بها “ . ويوضح المؤرخون الروس أثر حضارة وثقافة اليمن القديمة على أحفادهم في ميدان الحضارة الإنسانية , كيف أبدعوا أيما إبداع في مجال العمارة الدينية في أقاليم آسيا الوسطى والمناطق الواقعة في بلاد روسيا ، قائلين بما معناه : “ كانت لديهم ( أي اليمنيين القدامى ) حضارة ساطعة ومتألقة تقف في مصاف الحضارة الفرعونية في وادي النيل ، والبابلية في بلاد الرافدين ( العراق ) على قدم المساواة وغيرها من الحضارات القديمة التي طفت على وجه الحياة الإنسانية ، فتشرب أحفاد اليمنيين الجدد الروس أو غيرها من بلاد آسيا الوسطى بروحهم الإبداعية في العمارة الدينية الإسلامية والمتمثلة بالمساجد الضخمة والفخمة التي نشاهدها ونلمسها في تلك الأصقاع سواء في بلاد الروس أو بلاد آسيا الوسطى والتي تعد عيناً من عيون الثقافة والحضارة الإسلامية المتلألئة دائمًا وأبدًا “ . [c1]الملف المفقود [/c] والحقيقة لقد حاولنا قدر استطاعتنا وإمكانياتنا أنّ نرسم خطوطاً عريضة وسريعة عن تاريخ القبائل اليمنية في بلاد الروس لنلفت نظر المؤرخين المحدثين والباحثين الحاليين سواء من اليمنيين أوالروس نظرًا أنّ هذا الموضوع لم يكتب بصورة شاملة وكاملة في كتب المؤرخين القدامى ، مما دفعنا إلى البحث والتنقيب في عددٍ من بطون الكتب القديمة أو المتأخرة على السواء والتي كانت معلوماتها عن تلك الفترة التاريخية البعيدة ــــ مع الأسف العميق ــــ متناثرة ومبتورة وشحيحة . ولسنا نبالغ إذا قلنا أنّ تاريخ القبائل في بلاد الروس يعد من الملف المفقود الذي ينبغي البحث عنه ولم ولن نستطيع العثور عليه إلا إذا تكاتفت كافة الجهود العلمية بين جامعاتنا والجامعات الروسية لدراسة تاريخ القبائل اليمنية ومناقبهم الرائعة في بلاد الروس ، وبلاد آسيا الوسطى. وكانت ستظل هذه البلدان الإسلامية الواقعة في بلاد الروس أو آسيا الوسطى التي تضم بين ثناياها أسلافنا العظام من القبائل اليمنية التي نشرت أنوار الإسلام فيها من جهة ورفعت كذلك لواء العلوم والمعارف الإسلامية من جهة أخرى ، ولقد بلغت عمارة المدن الإسلامية في بلاد الروس ، وبلاد آسيا الوسطى ذروة قمتها وازدهارها في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي ، وكان ذلك على يد البناء والمهندس اليمني في تلك الفترة التاريخية البعيدة .وأنني أكاد أجزم بأنّ الباحثين الحاليين والمؤرخين المحدثين المتخصصين في ميدان تاريخ اليمن الإسلام سيوجهون كل طاقاتهم العلمية في البحث والتنقيب على إبراز دور اليمنيين في نشر الثقافة والحضارة الإسلامية والتي مازالت ماثلة في عددٍ من الأقاليم الإسلامية في آسيا الوسطى وبلاد الروس . [c1]الهوامــــش : [/c]ابن الطقطقي ؛ الفخري ، دار صادر ـــ بيروت ـــ لبنان ــــ .أحمد أمين ؛ ضحى الإسلام ، الجزء الأول ، الطبعة العاشرة ، دار الكتاب العربي ـــ بيروت ــــ لبنان ـــ .الدكتور السيد عبد العزيز سالم ؛ تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس، الطبعة الثانية 1986م ، مكتبة الأنجلو المصرية .الشيخ طه الولي ، صفحات من تاريخ الإسلام والمسلمين في بلاد السوفيات ، الطبعة الأولى ، دار الفكر الجديد ــــ بيروت ــــ لبنان ــــ . تعريب الدكتور إحسان حقي ؛ المسلمون في الإتحاد السوفيتي ، الطبعة الثانية 1408هـ / 1988م ، مؤسسة الرسالة ـــ بيروت ـــ . البلاذري ؛ فتوح البُلدان ، بإشراف لجنة تحقيق التراث ، الطبعة الأولى 1404 هـ / 1983م ، دار ومكتبة الهلال ـــ بير وت ـــ لبنان ـــ . خالد محمد مصطفى عزب ؛ تخطيط وعمارة المدن الإسلامية ، كتاب الأمة ، العدد 58 ، ربيع الأول 1418هـ ، السنة السابعة عشرة ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ــــ قطر ــــ .د . حسين مؤنس ؛ المساجد ، سنة الطبعة 1401هـ / 1981م ، عالم المعرفة ــــ الكويت ــــ .الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ المؤرخون اليمنيون في العهد العثماني الأول 1538 ــــ 1635م ، سنة الطبعة 1971 الجمعية المصرية للدراسات التاريخية .