صور حية من معارك نقيل يسلح
إعداد/ سلوى صنعاني :كم مرة مررنا بمنعطفات نقيل يسلح صعوداً ونزولاً منعمين برحلاتنا من وإلى صنعاء، واحياناً يروق للبعض منا ان يرفع صوت الأغاني الصادحة في السيارة لم نفكر ولم يخطر على بال احد منا.. أن يلقي تحية لأرواح البواسل المرفرفة في سمائه والذين لولا تضحياتهم الجسيمة ماتسنى لنا ذلك.ذات يوم قصدوا النقيل أحلامهم تسبق خطواتهم يحملون أرواحهم على أكفهم ليقدموها قرباناً لهذا الوطن ولأهلة ومن اجل كرامته.هنا دارت رحى معارك علا غبارها الهامات والوجوه... وتناثرت أشلاء أجسادهم ورووا بدمائهم حجارة النقيل وطرقاته الترابية.. صنعوا مأثرة يفاخر بها الوطن... وتتناقل الأجيال تفاصيلها ومضت الأقلام تسطر جزئياتها وإحداثها.ومن حسن الحظ إنني على صلة بأحد الذين عادوا منها سالمين... وقد وجدت صعوبة كبيرة في انتزاع تلك الحقائق منه. لا لسبب بل لأنه رجل عفيف، وقد رفض الحديث معي .. حتى لا يقال عنه انه يظهر بطولته لكنني حاولت أقناعه .. وهو الزميل نصر صالح بن صالح الملقب باليافعي.. محاولة إجلاء الصدى عن ذاكرته المليئة بغيوم الأسى وعن نفسه المفعمة بالحزن..التزفير :قبل الخوض في تفاصيل المعركة كان للحديث مقدمات تبدأ من رحلته الاقصائية من عدن إلى تعز عبر منطقة المغاليس مع فرقته التي تراوح عددها بين 600-400 فرد عبر سيارات أعدتها رجال العزيبة وعلى رأسهم (سيف العزيبي) المشكور لهم ذلك الجهد.إذ جاءتهم توجيهات قيادتهم من بالانسحاب من مواقع المواجهة مع إخوة السلاح. وكان نصر عضواً في “ التنظيم الشعبي الناصري للقوى الثورية لجبهة التحرير (الصاعقة) وانتهت برحلتهم بالسيارات ثم راحلين إلى صالة والى شارع جمال وكانت أيامها تعز تعج بالجنوبيين المنفيين من عدن.جاء اتصال يدعو لأغاثه صنعاء المحاصرة وتجمع الجميع في معسكر الحوبان ليلاً.. وكان الذهاب والاستجابة لهذه الدعوة طوعية وليس اجباراً ليلتها اعترض المناضل علي محمد سعيد البيحاني ولقبه (هارون) على ذهاب الشباب وكان رفضه ليس جبناً بل حرصاً بفعل تجربته في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر62م وحتى لا يتعرض هؤلاء الشباب للبيعة من كمائن وافخاخ ولأنهم لا يعرفون ارض المعركة ولا تضاريسها .. وهو رفض له مبرراته المنطقية.لمهم تجاوزه الشباب وتجهزوا للانطلاق لإنقاذ فريق الصاعقة .. وفتح الطريق وفك الحصار عبر يسلح.ضمن تلك الجمهرة الغفيرة كانت عناصر قد تدربت في معسكر (الليوي) وعناصر متدربة من جيش التحرير والجيش اليمني (الحرس الوطني) النظامي الذين تشجع بهم المتطوعون.عبر نقيل سماره نقلوا بعد ان تركوا أسلحتهم في معسكر الحوبان، لأن التوجيهات قضت بتسليحهم في معسكر معبر الذي وصلوا إليه.[c1]في معسكر معبر :[/c]وصل المدافعون إلى منطقة معبر وهي تلي مدينة ذمار فيها معسكر أطلق عليه اسم معبر يقع في منطقة سهلية (قاع جهران) ذلك المعسكر المبني من الطين ويبدو عليه لمسات الأتراك وهو من مخلفاتهم كان خالياً إلا من نفر معدودين “ يلبسون زياً مدنياً ويتمنطقون بالجنابي” وهم متعهدون للجيش اليمني بتحضير وإعداد وتزويد المتطوعين بالأسلحة أما المهمة المطروحة أمامهم فالأولى نجده الصاعقة فوق قمة يسلح والمهمة الأخرى فتح الطريق إلى صنعاء انتظرت الجموع المفعمة بالحماس ان يبادر المتعهدين بمدهم بالسلاح والعتاد. ولكنهم لمسوا بروداً كبرودة الطقس الذي الهبهم بسياطه تقدموا منه متسائلين أين السلاح؟فأجابوا عنهم “ السلاح فوق نقيل يسلح”!! علا صوت احد المحاربين القدامى الذين اشتركوا في معركة ثورة 26 سبتمبر 62م واسمه صالح الاقطب والاقطب لقب أطلق عليه لأنه فقد اصابعة بالرصاص أثناء المعارك إما اسمه الفعلي فهو (صالح العولقي) وقال: “ هذه بيعه ياعويله”.وسرت الهمهمات بين الجموع وتسأل بعضهم بغرابة عن هذا الرد وعن ذلك الموقف المريب، ولم يجدوا أجابه هنا شموا رائحة الخيانة.استفزهم الوضع فهاجوا حين سمعوا عبارة ذلك المناضل الخبير ذي التجربة “ لقد سلموكم للملكيين” وأغلقوا المعسكر وأعلنوا حالة الطوارئ فيه وأصروا على الحصول على السلاح الأمر الذي أخاف المتعهدين وأجبرهم على توزيع الأسلحة وهي عبارة عن بندق تشيكي الصنع وبعض الطلقات.ضحى ذلك اليوم الرمضاني تحرك أكثر من مائتي شخص وبصحبتهم دبابتين وسيارتين نوع لاندروفر تحركت الدبابات والسيارتان مباشرة عبر طريق نقيل يسلح الترابي.. بينما تبع الجمع المرشد راجلين سيراً على الأقدام وفي طريقهم مروا بإحدى القرى متجهين من غرب النقيل إلى شرقه.كان المرشد وهو زيدي الأصل يمشي بطريقة أثارت الريبة في نفس نصر الذي كان يسارع الخطى وراءه مباشرة.أثناء السير رآه يختفي تحت صخرة بينما المجاميع تسير جملة إلا نصر ظل يتتبع خطى المرشد سريعاً لارتيابه فيه وشكه في أمره. لحق به في الحال.. الامر الذي تفاجأ به المرشد وهو يرى نصر امامه.نظر نصر إلى قنبلة كان يحملها المرشد في يده فوجه اليه البندقية التشيكية وسأله عن سر وجود القنبلة بحوزته وهو مرشد فقط . اردف نصر ثائراً في وجهة قائلاً: “ هذا الذي تفعله مشين” وفي ثورته هذه لمحة احد رفاقه وهو المناضل الجسور” احمد عبدا لله الحيك” الذي سمع الحوار فما كان منه سوى ضرب المرشد يعقب الكلاشينكوف وهم بقتله وهو يصرخ ويتوسل ولكن نصر احال دون ذلك بتدخله وسلبه القنبلة التي كان ينوي رميها على الفرق المتطوعة وطرده وهم مازالوا في الطريق واكتفوا بارشاد بعض القوى التي تعرف تضاريس المنطقة ولها دراية بها.واصلوا رحلتهم الراجلة وجرابهم فاضية إلا من بعض (الكدم) وبعض الماء والتمر الذي أعطوهم إياه أهالي القرية التي مروا بها .[c1]اللقاء :[/c]والتقوا برفاقهم الارسى (الشاحنة) التي تحصل عليها احدهم في معارك ردفان من الانجليز والسيارة اللاندروفر والدبابتين.كان الجو بارداً جداً بيد ان حماستهم الحارة كانت تبعث الدفء في أجسادهم . وبالقرب من نصر كان الأخ المناضل عبده احمد ناجي الحاج الكثير النكات وهو ينتمي لأب من منطقة التربة ومن مواليد الشيخ عثمان حالياً يقيم في دولة الإمارات العربية وهو اصغر سناً من نصر إلا انه أكثر شجاعة نصح من حوله بالتدفئة تحت الدبابات الرابضة على صدر يسلح.كانت الشمس تأذن بالمغيب والنهار يلفظ أنفاسه في نزاع مع خيوط الظلام الأولى وهناك بدد ذلك الصمت المريب كرة أدميه تدحرجت من فوق الجبل وراؤها بعين رأسهم عيان، رجلين من الصاعقة _جنديين) متشابكين بالأرجل والأيدي على شكل كرة تدحرجاً من تلك ألتله في قمة النقيل إلى أسفل ووقفا على رجليهما ولم يحدث لهم أي سوء وتلك من اللياقة التي يتمتع بها رجال الصاعقة.وعرفنا منهم إنهما آخر عنصرين تبقيا من الصاعقة. بعد تبادل التحية تساءل رجلا الصاعقة عن مجيء المتطوعين فأجابوهم أنهم جاءوا لإنقاذ فريق الصاعقة التي حصدت مدافع الهون والرصاص أرواحهم وصنعتهم الأمن هذين الجنديين اللذين صمدا وبقيا على قيد الحياة.فجأة دوى انفجار عنيف تردد صداه بين الجبال أرعب الجميع وعلمنا من الجنديين ان الانفجار من تدبيرهما لقد قررا نسف المكان بما فيه بعد ان دب اليأس في نفسيهما من وصول نجدة إليهما او تعزيز بعد ان استشهد كافة أفراد السرية البطلة بنيران الملكيين.ووفقاً لتوجيهات القيادة توزع الجمع واخذوا مواقعهم ولكنهم تفاجئوا بغياب المرشدين االلذان كانا معهم واللذان اختفا فجأة. واتضح فيما بعد إنهم يعملون مع المرتزقة الملكيين.وجاءت الزخات الكثيفة من الملكيين الذين عرفوا أين موقع المقاتلين من عملاءهم المرشدين وتوالى القصف ليلاً عليهم ببوازيك أمريكية بين 10 ومدافع الهاون التي راحت (داناتها) تلعلع في سماء يسلح على رؤوس المقاتلين.ومن خلال نيرانهم عرف المقاتلون بعض مواقع الملكيين. وكان نصر بالقرب من الشهيد سالم يسلم الهارش وقد لمح بين بندقية نوع FN تحصل عليها أثناء معاركة مع الانجليز في ساحات عدن بينما كان هاشم يمسك بندقية كلاشينكوف بينما كان بحوزة الأخ صالح الاقطب بازوكا وبعض مدافع هون صغيرة.قررت القيادة التقدم إلى مواقع العدو حتى يتسنى لها ضربهم عن قرب.يقول نصر: ومنذ الخيوط الأولى للفجر وحتى الظهر دارت معركة عنيفة بين العدو والمقاتلين. عدنا أدراجنا ... وعصرية اليوم التالي بعد ان لمسنا مدى تفوق العدو علينا بالإمكانيات وقياسنا لمعداتنا. شعرنا ان لا تكافؤ يمكننا من النيل منهم... وان الشجاعة وحدها لا تكفي دون أسلحة ومعدات بحجم مايملكه العدو.فقد اتضح ان الدبابتين قد خلت من الذخيرة بعد قذيفتين اثنتين فقط أطلقت على موقع العدو كانت فكرة احمد الحيك رحمه الله ومجموعته قد طرحها للانسحاب بعد تقييمهم للقدرات الميدانية الغير متكافئة وكان الوقت بعد الظهر إلا ان الشهيد “ العم سالم” كما كان يحب مخاطبوه التحدث معه لدماثة خلقه رفض الانسحاب وامسك بالحيته الصغيرة وقال لهم “ عيب علينا ترك المعركة”.وخلال مجادلات ومحاولات إقناع العم سالم يسلم الهارش وهاشم عمر ومعهما مجموعة من المقاتلين تم طرح فكرة الانسحاب للتزود بالسلاح والعودة إلى المعركة إلا أن العم سالم ورفاقه أبوا ترك مواقعهم، اختار الشهادة .. وكان هو وعمر هاشم صائمين من بين المقاتلين.في تلك العصرية استغلت المجاميع الشاحنة “ الارسى” وعادت أدراجها مودعة العم سالم وعمر هاشم ومجموعة من المقاتلين أبت العودة مع المجاميع.عند المنعطف الأول أثناء نزول الشاحنة المكشوفة والمسلحة بأعمدة حديدية أمطرت قوات المرتزقة بحقد المقاتلين الذين على متن الشاحنة بوابل من الرصاص تلته مدافع الهاون وكان الضرب من اتجاه قرية يطلق عليها قرية (الروس) أصيب أحد المقاتلين في ساقه وهو من الصبيحة . تنبه عبده الحاج بمصدر الضرب بأنه من جهة الموقع التابع للصاعقة بعد أن تم تصفيتها أحتله الملكيون . وفي ذلك الوقت مثل سائق الشاحنة لم ينتبه المقاتلون إلى ذلك لأن المقاتل الشجاع أحمد الحيك سحبه إلى جانبه وتولى قيادة الشاحنة دون أن يشعرهم.ونتيجة هذه الغارة عليهم كان أحدهم قد توفي لأنه كان مصاباً بمرض القلب وجاءت الصدمة وأثرت عليه فتوفي في الحال وعمره 14 عاماً .[c1]سيطرة الحيك :[/c]والحديث للأخ نصر :وقعت إحدى القذائف الهون قبالة الشاحنة وأعطبت شظاياها عجلاتها. إلا أن أحمد الحيك قادها بحنكة وسيطر عليها بقوة واستمر في السياقة حتى بلغ مكاناً آمناً في النقيل بعيداً عن مرمى أوقف الحيك الشاحنة لإصلاح وإبدال العجلة وهناك رأينا منظراً مؤلماً وموجعاً.... حيث انهالت ضربات العدو على من تبقي من أخوتنا وتحركت الدبابات التي تقافز إليها المقاتلون ولكنها ناثرت أجسادهم أشلاء وسالت دماءهم الطاهرة على جنباتها وأصبح لون الدبابات حمراء بدلاً من لونها الأخضر ... وكانت الفاجعة بل نالوا الشهادة .وواصلنا رحلة الانسحاب إلى معبر وهناك التقينا بالأخ علي الذي جاء ليعرف أخبارنا وسلمناه السائق القتيل والمتوفي ليتصرف في قبرهم ومضينا إلى تعز .وهناك أتضح لنا وبعد أيام أن يسلم سالم الهارش وهاشم عمر إسماعيل ونصر بن سيف وحسن سعيد يافعي ومعهم مجموعه من الأخوة قد أستشهدوا منهم أثناء المعركة ومنهم أسروا ثم تم تصفيتهم، وأذكر هنا أن الشهيد عبد الله فريد بيحاني وهو أب قد أصيب بالحمى وكان برفقة الأخ محمد الجعشني الذي سلمه لشدة مرضه للأهالي في أحد القرى وهناك تم أسره وتصفيته.ومكثنا فترة في تعز حتى جاء الطلب مرة أخرى بعودتنا إلى ساحة المعركة ... والرسل كانوا من الضباط المحترمين ولكننا رفضنا لاعتقادنا أن التوجه إلى نقيل يسلح مرة أخرى . وكلنهم أخبرونا بأن التوجه سيكون إلى مواقع القتال حول صنعاء وبالطائرة . وانتقلنا عبر طائرتين نوع “داكوتا” دي سي3 مع العملاق الطيار جوهر لتوزيعنا على فرق الصاعقة . وأثناء الطيران تعرض للقصف .. فأخذ اتجاهاً عمودياً لتفادي الضربات شعرنا مع هذه الحركة بأننا سنلفظ أمعاءنا من أفواهنا....وهبط بنا في المطار الجنوبي حالياً شارع السبعين وكانت المفاجأة لنا . فقد كنا نتوقع قدوم قائد الصاعقة الشهيد عبد الرقيب عبد الوهاب . ولكن من قابلنا هو “الوحش” قائد سلاح المظلات، وكان هناك تنافس بينهما للحصول على أكبر عدد من المتطوعين .ونشأ خلاف بيني وبين الوحش تعرضت لنقمته لأنني رفضت العمل معه في المظلات.. كنت أتوق للالتحاق بدورة مع الصاعقة لإعجابي بهم . وأمر بسجني بقوله “ألحقوه بيت خالته” ولم أكن أعرف ماذا يعني ذلك؟ثم أمرهم قائلاً :غسلوه؟ ولم أعرف أن غسلوه.. انزلوه في “البلاعة” ثم أمرهم بضربي حتى استسلمت لأوامره . وعلى يده تعلمت ماذا تعني العسكرة . واصطحبني معه إلى نقم في المعارك الدائرة هناك . إلى أن جاءت فرصة ... هربت منه إلى قاعدة الصاعقة وأخذت دورة هناك وأبقوني كمقاتل ثابت في جبهة عيبان فعلى الرغم من أن الحصار قد انتهى إلا أن المواجهات بقيت قائمة حتى أغسطس 68م في عيبان ونقم والدبة السوداء وبني مطر. وذات يوم من أغسطس سلمت أغراضي لقائد الموقع أسمه اليافعي وطلبت الإذن بالمغادرة بحجة زيارة الوالدة المريضة في تعز.. ولكنه أحس بأنني لن أعود ومع ذلك قدر وضعي وأطلق سراحي . توجهت إلى تعز في تعز قابلني كبير المعلمين الأستاذ محمد عبده ناشر وطلب مني الغوث في إنقاذ عبد الرقيب عبد الوهاب الذي قتلوه.... ولكنني أدركت أن الوقت لا يسعفنا بهذه المهمة . ولم يطب لي فيها المقام بعد ذلك عدت مغامرة إلى عدن ..!! ولكن والدي الذي كان عضواً في الجبهة القومية قد حماني من التعرض لأية مساءلة أو اعتقال وهكذا أنتهت الحكاية .