تزايد في الآونة الأخيرة بصورة لافتة الحضور القوي للفتاوى الدينية الصادرة عن مجاميع لا حصر لها من المشايخ والمراجع الدينية بتوجهاتها ومشاربها المختلفة، حتى أضحت الفتاوى إحدى الظواهر - وما أكثرها - الصاعدة في سماء الحياة العربية الملبدة بالغيوم، المتأكسدة على ما يبدو من انبعاثات التغير المناخي.الفتوى ليست بدعة، على أي حال، في حياتنا العربية، فهي كانت موجودة منذ قديم الزمان، واستمرت باعتبارها أحد مصادر المعالجات الظرفية لإشكاليات حياتنا الاجتماعية، ولذلك كان اللجوء إليها مرتبطاً بحالاتها الظرفية المستجدة في علاقات المجتمع بكليتها وفي علاقات أفراده بعضهم ببعض.وكانت مصادر الإفتاء قليلة ومقننة، من خلال حصرها في جهة (اعتبارية أو فردية)، محددة، مخولة بإصدار الفتاوى في الأمور الإشكالية والأخرى غير الحائزة على إجماع فقهي من قبل سدنة علماء الدين.بيد أن الجديد في الأمر هو خروج موضوع الإفتاء عن سراطه المعتاد وارتياده آفاقاً لم نبلغ ذراها من قبل قيام الدولة العربية الحديثة قبل حوالي قرن من الزمان.حتى بدا كأن مطلقي الفتاوى الذين تزايدت أعدادهم بكثرة في السنوات التي أعقبت التفجيرات الإرهابية في نيويورك وواشنطن ولندن وإسبانيا، يتبارون في ما بينهم في عرض الفريد والغريب من فتاوى تخفق لها قلوب البسطاء.ليس هذا فحسب، بل إن الفتوى والمفتين أضحوا يزاحمون القوانين الرسمية التي تحكم علاقة الدولة بالمجتمع وعلاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض، وينافسون السلطات الحاكمة، التنفيذية والتشريعية.يحدث هذا بصورة اقتحامية فجة من دون أن يعترض سبيل هذه الاقتحامات/ الفتاوى أي عارض، بما في ذلك الدول المعنية التي يفترض أن تهب للدفاع عن موقعها السيادي وهيبتها في وجه من تنطع لمحاولة مصادرة إحدى وظائفها متسللاً خلف العباءة الدينية.ومع ترك الحبل على الغارب أصبح مفعول الفتوى أقوى من مفعول القانون والنظم والتشريعات والقرارات الصادرة عن الدولة ومؤسساتها السيادية، الأمر الذي أوقع هيبتها ومصادر قوتها في حرج بالغ.في مصر، على سبيل المثال لا الحصر، لقد تطلب الأمر قيام مفتي الديار بإصدار فتوى قضت بأن “الختان عادة محرمة شرعاً”، لينقض فتوى سابقة معاكسة - من أجل إحداث الأثر المطلوب على العامة للكف عن هذه العادة القديمة، بعد أن راحت طفلة لم يتجاوز عمرها 9 سنين، ضحية هذا الطقس الإفريقي السحيق.هذا بخلاف الفتاوى التي راحت تترى تباعاً هنا وهناك والملغومة بكميات متباينة من بارود التحريض على الفتن الطائفية وعلى التشطير المجتمعي والفئوي.ولعل هذا البؤس الفكري والثقافي (الحضاري) الذي نتردى إليه، إن دل على شيء فإنما يؤشر الى علائم تدهور الموقف العام العربي بين شعوب وأمم العالم المختلفة، والذي لا يستره ولا يغطي عجزه هذه الأيام سوى إيرادات المصادر الريعية مثل النفط والغاز والفوسفات وتحويلات العاملين في الخارج ورسوم معابر الممرات المائية.وهو، إلى ذلك أيضاً، يؤشر إلى وجود نوايا صريحة لوضع فكرة الدولة الدينية موضع التنفيذ، وذلك من خلال الزحف المنظم، السلس والهادئ، على مواقع الدولة المدنية، لا سيما المكشوف منها أمام طمع الطامعين المتهيئين والمتحفزين للتسلل إليها والاستيلاء على أكثر مواقعها أهمية وحساسية.وكل ما يملك المرء قوله إزاء هذا التداعي المؤسف والخطير لظاهرة نجم الفتاوى على حساب دولة القانون والمؤسسات، هو التنويه إلى التجربة الباكستانية التي يجب الاتعاظ بدروسها البليغة.[c1]* كاتب بحريني [/c]
|
فكر
الفتوى أضحت تزاحم القانون
أخبار متعلقة