[c1]فرانك ديفيل*[/c]هجرة بعض البشر اليوم صارت تناظر تداول المعلومات والمتاجرة بالعملات والبضائع. من التناقضات الصارخة أن يواجه البعض حركات الهجرة بمشاعر مشوبة بالقلق والذعر، متجاهلاً أن هذه الحركات كانت قد شاركت بفاعلية قوية لأن ترتقي أوروبا إلى مصاف أكثر أقاليم المعمورة رخاءً ورفاهية.ترتبط أوروبا اقتصادياً وسياسياً بالعالم أجمع ارتباطاً وثيقاً. أضف إلى هذا أنها تجسد، من وجهة النظر الجغرافية، الطرف الغربي من القارة الأوربية-الآسيوية. وعموماً يمكن القول إن بني البشر قد دأبوا على الهجرة دائماً وأبداً. إن الإشارة إلى هذه الحقائق أمر مهم وذلك لأنها تمكننا من الإحاطة بالظروف الجوهرية المحيطة بأوروبا باعتبارها أحد مسارح تنقلات المهاجرين على مستوى العالم أجمع. ويلتقي المرء الأوربيين في كل أصقاع المعمورة تقريباً إما كسائحين أو كرجال أعمال أو كمهاجرين أو أبناء مهاجرين. من ناحية أخرى أمست أوروبا محط قدم بشر جاءوا من كل صوب وحدب. لقد تلاحمت أوصال العالم فغدا بُعْدُ المسافات بين بلدان العالم أمراً نسبياً؛ بهذا المعنى صار العالم في حركة مستمرة سياسياً وجغرافياً وسكانياً وسلعياً.وفي سياق هذا كله تبلورت أساليب ونماذج وقنوات جديدة للهجرة. فهجرة بعض بني البشر صارت تناظر تداول المعلومات والمتاجرة بالعملات والبضائع، إلا أن الأمر الذي تتعين الإشارة إليه هو أن هذه التحركات والتنقلات لا تتخذ مساراً أحادي الاتجاه، بل هي تتم في كلا الاتجاهين من حيث المبدأ.والهجرة لا تشكل أحد مظاهر العولمة الناشرة أبعادها على العالم فحسب، إنما هي أيضاً حصيلة منطقية أفرزتها العولمة ذاتها. ومع هذا كله، فإن الملاحظ هو أن أقلية ضئيلة من بني البشر تسلك مسافات بعيدة في هجرتها، أي أن فئة ضئيلة العدد تهاجر من قارة إلى أخرى، أو تهاجر لأمد طويل أو على مدى الحياة.فهجرة، شبيهة بالهجرة الأوربية الكبيرة التي نزح في سياقها ما يزيد على ستين مليون أوربي إلى أمريكا وأستراليا، ستظل حالة استثنائية في أغلب الظن. فالغالبية العظمى من بني البشر تنزح وتسيح في حدود دولها الوطنية، أي أنها تتنقل من مدينة إلى أخرى في الوطن الأم. أما بالنسبة لأولئك الذين يهاجرون عبر الحدود الدولية فإنه يمكننا القول بأن هؤلاء غالباً ما يهاجرون إلى دول أو أقاليم مجاورة لوطنهم الأم.من هنا لا عجب أن تتخذ عمليات الهجرة والاستيطان في أوروبا شكل تنقلات إقليمية الأبعاد، أي أن تتخذ شكل الهجرة من شرق أوروبا إلى غربها أو في إطار الإقليم الاسكندنافي أو بين البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط. أضف إلى هذا أن أكثر الناس تتنقل لقضاء فترة زمنية قصيرة لا غير. ويستحوذ عدد المتنقلين للأغراض السياحية على حصة الأسد؛ ويحتل عدد المتنقلين من رجال الأعمال المرتبة الثانية. ويشكل التنقل للدراسة في بلد أجنبي أو العمل لدى إحدى العائلات الأجنبية من أجل تعلم اللغة أحد دوافع الإقامة في البد الأجنبي لفترة مؤقتة.وهكذا، فسواء تعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية أو بأوروبا، تشكل الإقامة المؤقتة أكثر الصيغ الدارجة هنا وهناك. أما بالنسبة لأغلب بني البشر الذين يتنقلون للعمل في بلد أجنبي، فالملاحظ الآن هو أن هؤلاء يذهبون إلى هناك لقضاء فترة وجيزة تبلغ عادة بضعة شهور وليس بضع سنين؛ إنهم قد يأتون إلى البلد الأجنبي لمرات عديدة، لكنهم نادراً ما يقيمون لمدة طويلة من الزمن. بهذا المعنى لم تعد إشارة زيميل (Simmel) القائلة بأن "القوم يأتون اليوم ويستقرون لقضاء الغد أيضاً" تنطبق على واقع الحال؛ فالحقيقة الملاحظة في اليوم الراهن تحتم تعديل هذه الإشارة لتصبح "القوم يأتون اليوم ويرحلون في الغد".ومهما كان الحال، يمكن أن تكون الهجرة استراتيجية للبقاء على قيد الحياة: فالهروب من الملاحقة والرغبة في الخلاص من فخ العوز والفاقة تشكل دوافع لا يصعب فهمها. كما تجسد الهجرة استراتيجية اقتصادية أيضاً: التفتيش عن المكان الذي يتيح للمرء الفرصة المناسبة لعرض قوة عمله والحصول على أكبر أجر ممكن.وضف إلى هذا أن الهجرة يمكن أن تكون صيغة احتجاج يريد المهاجر من خلالها القول: "إني أحتج على الظروف السائدة في مسقط رأسي، إني لم أعد قادراً على الرضوخ لهذه الظروف، ولذا فإني أهاجر إلى عالم آخر." كما تشكل الهجرة النتيجة المنطقية لتوزيع الخيرات والرفاهية المتحققة على المستوى العالمي توزيعاً يفتقر إلى العدالة. من ناحية أخرى تشكل الهجرة سبيلاً للاطلاع على العالم والتعلم من البلدان الأجنبية، فمن خلال الهجرة يكتسب المرء تجارب قد تنفعه طيلة حياته.وتنطوي الهجرة على هجرة المعارف والخبرات أيضاً؛ من هنا لا عجب أن يتزايد عدد العمال المهاجرين، فهؤلاء صاروا يتنقلون إلى كل بقعة تخطر على البال. وكثيراً ما تشكل القوانين الحكومية عقبة كأداء أمام رغبات القوم المهاجرين؛ وفي كثير من الحالات تدفع هذه العقبة بعضهم لأن يسلكوا مسالك لا تتفق والقوانين الحكومية المرعية.إن الهجرة معبر قوي عن التحولات الاجتماعية؛ فالهجرة تشارك في خلق التحولات التي تطرأ على الدول والأقاليم المعنية؛ إلا أنه لا يجوز أن يغيب عن بالنا أن التغيرات والتحولات تطرأ على الهجرة ذاتها أيضاً. فالهجرة تؤدي إلى تطعيم سكان أوروبا بأناس جاءوا من أقاليم أخرى، وإلى حدوث تغير على التركيبة السكانية فيها باستمرار وبنحو بين للعيان.وإذا كانت أوروبا قد اتصفت في يوم من الأيام بنزوح بعض مواطنيها إلى بلدان وأقاليم أخرى، إلا أن أوروبا أمست حالياً قارة تستقطب المهاجرين. فالبلدان التي جاء منها "العمال الضيوف" (Gastarbeiter) في سابق الزمن، أعني إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، والنمسا أيضاً، صارت هي ذاتها هدفاً تهفوا إليه قلوب "العمال الضيوف" الجدد القادمين من جنوب شرق أوروبا وأفريقيا وآسيا على سبيل المثال لا الحصر.من ناحية أخرى غدت دول من قبيل بولونيا والمجر وتركيا دولاً ينزح منها بعض مواطنيها وتستقطب بعض المهاجرين الأجانب في آن واحد. ففي بولونيا ثمة احتمال أن يكون عدد الأوكرانيين العاملين فيها قد صار يعادل، لا لربما يفوق، عدد البولونيين العاملين في ألمانيا.بهذا المعنى تغير حركة الهجرة اتجاهاتها باستمرار، لا بل من الممكن أن يتحول مسارها رأساً على عقب كما هو بين من التاريخ الأوربي. ومن التناقضات الصارخة أن يواجه البعض حركات الهجرة بمشاعر مشوبة بالقلق والذعر، متجاهلاً أن هذه الحركات كانت قد شاركت بفاعلية قوية لأن ترتقي أوروبا إلى مصاف أكثر أقاليم المعمورة رخاءً ورفاهية.[c1]الهجرة إلى أوروبا بالأرقام وبالحقائق الموثقة[/c]بالنسبة لحركات الهجرة المتجهة إلى أوروبا ثمة وقائع أساسية تتعين الإشارة إليها. من هذه الوقائع المهمة: أن العدد الكلي للمهاجرين قد ارتفع بشكل ملحوظ، إلا أن صافي عدد المهاجرين، أي إذا ما طرح المرء من عدد الداخلين عدد الخارجين، قد ارتفع بنحو ضئيل في الواقع.الزيادة الكبيرة حققتها هجرة الخبراء وأولئك العمال الذين يعملون موسمياً والأفراد المتدربين على كسب بعض المهارات والموظفين الذي تنقلهم شركاتهم العابرة للقارات للعمل في فروعها المقيمة في البلدان الأجنبية وكذلك الأفراد الذي يقطنون في هذا الجانب من المنطقة الحدودية لكنهم يعملون في الجانب الآخر من الحدود المتاخمة.بهذا المعنى فإن الهجرة المؤقتة والهجرة لأسباب استثنائية قد كانت أكثر صيغ الهجرة نمواً وارتفاعاً؛ إلا أن هذه الحقيقة لا يجوز أن تحجب عن ناظرينا أن لَمَ شملِ العائلاتِ قد كان من أهم صيغ الهجرة من حيث العدد؛ وأن الهجرةَ لغرض العمل في بلد أجنبي قد احتلت المرتبة التالية على هذه الصيغة. من ناحية أخرى سجل عدد الطلبة المتنقلين في داخل أوروبا وعدد الطلبة القادمين من بلدان غير أوروبية ارتفاعاً ملحوظاً؛ أما الهجرة لغرض اللجوء فإنها في تراجع ملموس.إن من الصعب جداً حصر مستوى الهجرة بالأرقام؛ فهي ظاهرة عابرة شديدة التعقيدات تصعب دراستها دراسة دقيقة بأساليب البحث العلمي. وإذا كانت الأرقام المنشورة بشأنها توحي بشيء من الدقة، إلا أن الأمر الذي تتعين الإشارة إليه هو أن هذه الأرقام ليست بالدقة التي يتصورها المرء عادة. أضف إلى هذا أن الإحصائيات الخاصة بالهجرة لا تُفْصِحُ عن شيء ذي بال بالنسبة للحالة الخصوصية التي يتسم بها كل مهاجر، أعني أنها تتجاهل، بنحو ما، تطلعات بني البشر الفردية ومصائر كل واحد منهم.فالأرقام تعبر حقاً عن الأبعاد التي اتخذتها ظاهرة اجتماعية معينة، إلا أنها، أعني الأرقام، لا يمكن أن تكون أكثر من أداة تقيس الظاهرة الاجتماعية المعنية بنحو تقريبي لا غير. من ناحية أخرى تترتب على الأرقام انفعالات نفسية عميقة الغور، فهي، أعني الأرقام، يمكن أن تهدئ الخواطر وتسكنها ويمكن أن تلقي الرعب في النفوس.لهذه الأسباب مجتمعة يُستحسن أن يتحلى المرء بالحذر حينما يتعامل مع الإحصائيات الخاصة بالهجرة. ومهما كان الحال، فمنذ عام 1985، أي منذ اندلاع العولمة، أخذت الهجرة على مستوى العالم تنمو ببطء مقارنة بنمو عدد السكان. في عام 1985 كان حوالي 2,5 بالمائة من سكان المعمورة يقيمون في دولة أجنبية؛ في عام 2005 ارتفعت هذه النسبة فبلغت ما يقرب من 3 بالمائة، أو ما يعادل 175 مليوناً من سكان المعمورة.[c1]* متخصص في علم الاجتماعبشؤون الهجرة والمهاجرين:الهجرة في العالم - الهجرة إلى أوروبا[/c]
الهـجرة (1-1)
أخبار متعلقة