قضية المرأة وخطاب النهضة العربية
د . يحيى قاسم سهليبدو لبعضهم أنّ موضوع المرأة قد قيل فيه وأُعيد حتى ابتذل فما عاد فيه مجالاً للاجتهاد والبحث أو لعله أن يكون موضوعاً مفتعلاً من أساسه فلا داعي إلى أنْ يطرح أصلاً وعلى افتراض صحة مثل هذا القول، فإنّ الفكر العربي لم يأت بعد بالقول الحاسم الفاصل في قضية المرأة، ولا أعني بذلك أن ينهي الكلام عن قضية المرأة ويطوي صفحتها، بل أقصد القول الذي يحقق التقدم فيكون مؤشراً على حدوث نقلة نوعية في الموضوع ولا يعني ذلك أنّ هذه الورقة مرشحة لإنجاز هذه المهمة. إنّ التعريف بقضية المرأة في خطاب النهضة أو فكر النهضة ليس أمراً مطلوباً لذاته، مهما كانت الرؤية التي يصدر عنها، ومهما تكررت الأفكار، بل هو يطلب على سبيل التقديم لما يحتاج إليه وهو التأسيس الجديد عبر جدلية التجاوز في صلب كيان واحد هو الفكر العربي، وقد صدق أبو عثمان الجاحظ وثبت أنّ من التكرار ما ليس من التكرار في شيء.وقبل البحث في قضية المرأة، نقف عند مصطلح »خطاب النهضة« ثم نتناول قضية المرأة عند رفاعة طه الطهطاوي وقاسم أمين على النحو الآتي :[c1]أولاً : الخطاب : [/c]يشير مصطلح خطاب إلى "كلام تجاوز الجملة الواحدة سواء كان مكتوباً أو ملفوظًا).كذلك نجد في اللسانيات ما يظهر، أنّ الخطاب هو اللغة في طور العمل أو اللسان الذي تنجزه ذات معينة كما أنّه يتكون من متتالية تشكل مرسلة لها بداية ونهاية ويرى كثير من اللسانيين الذين يكتبون بالإنجليزية، إنّ الخطاب يعني الحوار، وكذلك يرتبط تحليل الخطاب لديهم بنمط معين من تحليل الحوار عبر تحديد مجموعة من الوحدات الحوارية.وإذا كان الخطاب هو ما تؤديه اللغة عن أفكار الكاتب ومعتقداته، فإنّه لابد من القول إنّ الخطاب يقوم بين طرفين أحدهما مخاطِب _ بكسر الطاء _ وثانيهما مُخاطَب _ بفتحها _ والخطاب عموماً عبارة عن وحدات لغوية تتسم بعدة سمات، يمكن وصفها بالقوانين العامة للخطاب دون تفرقة بين جنس الخطاب العلمي وجنس الخطاب الأدبي والفني، وبصرف النظر عن خصائص الخطاب الجمالي والخطاب الأدبي عند الشكلانيين.وجعل المفكر الفرنسي (ميشيل فوكو) للخطاب مفهوماً اصطلاحياً مميزاً عبر الاستعمال المكثف لها في العديد من مؤلفاته، وقد حدّده بأنّه شبكة معقدة من العَلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تبرز فيها الكيفية التي ينتج فهيا الكلام بصفته خطاباً ينطوي على الهيمنة والمخاطر في الوقت نفسه فللخطاب دور واعٍ يتمثل في الهيمنة التي يمارسها أصحاب حقل معرفي أو مهني على صحة خطاب المتحدث ومشروعيته مما يشير إلى أنّ إنتاج الخطاب ليس حراً وإنّما يخضع إلى مجموعة من المعايير الاجتماعية والثقافية السائدة. وفي إطار الحديث عن الهيمنة الخطابية يجب أن لا ننسى (إدوارد سعيد) وهو من أشهر الذين أفادوا عن مفهوم الخطاب وقد زعزع في كتابه (الاستشراق) قواعد مؤسسة معرفية كاملة كانت لها سطوة وسلطان. وتذهب د . رزان محمد إبراهيم إلى القول (إنّ الخطان بأشكاله المتنوعة يعبر عن جامعة، ويعكس مظاهر أيديولوجية متنوعة تخاطب وتحاور وتحاول أن تقنع وتؤثر وتحدث هيمنة من نوع ما).وتأسيساً لما سبق، ربما تساهم بعض أنواع الخطاب في تأسيس وتكوين مجتمع عربي جديد قوامه إنسان عربي جديد. وهنا يبرز دور القارئ الحصيف القادر على ربط الخطابات بمرجعياتها السياقية التي تنطلق منها، دون السقوط فيما يمكن أن نسميه القراءة الاحتفالية، المنهكمة باستعمال مفاهيم منهجية احتفالية مثل الريادة والسبق والتقدمية... والسعي للبحث في النصوص النهضوية عما يبرر السبق في هذا المجال أو ذاك مما أدى في النهاية إلى إنتاج خطاب احتفالي عن فكر النهضة العربية، خطاب لم يكلَّف نفسه عناء البحث في الشروط التاريخية العامة المواكبة لهذا الخطاب، ولم يهتم بصياغة مفاهيمه ومحاوره الكبرى، وإبراز علاقتها بمجراها التاريخي، حيث لا يمكن يكون هذا الخطاب ذو المضامين السياسية والاجتماعية خطاباً من دون مصالح، أي خطاب فوق التاريخ.[c1]ثانياً : النهضة : [/c]تعني النهضة البعث أو الإحياء وحرفياً تعني ميلاداً جديدا أو تكرار الميلاد.وكانت النهضة الفكرية العربية موضوعاً لعددٍ كيرٍ من الدراسات والأبحاث، وانشغال عدد آخر من الكُتّاب بسؤال النهضة، بمعنى أنّهم جعلوا النهضة موضوعاً رئيساً لأبحاثهم، وهناك عدد كثير من الكتب التي انطلقت من أسئلة النهضة العربية لتقدم مقاربات فكرية وتاريخية وحتى أدبية ضمن رؤية شاملة لدراسة العرب والتاريخ في مطلع القرن العشرين.ويكشف ذلك غنى وعمق أسئلة النهضة العربية، وما أثارته من إشكاليات كان في مقدمتها تحديد زمن انطلاق النهضة العربية.وفي إطار البحث عن جذور النهضة اندفع كثيراً من الكتاب إلى تاريخ بداية النهضة العربية بحملة نابليون بونابرت سنة 1798م، واعتبر بعض آخر بداية النهضة العربية بمشروع محمد علي باشا لبناء دولة حديثة في مصر.وهناك رأي للمؤرخ الأمريكي (بيترجران) ومفاده (إنّ حملة نابليون على مصر عام 1798م)، لم تكن هي البداية كما هو سائد، بل أنّها كانت على العكس إجهاضاً لحركة نهضوية وطنية داخلية ابتدأت في المجتمع المصري منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر.ونرى أنّ الأمر المهم لا يتعلق ببداية النهضة _ فالنهضة مفهوم فكري تاريخي شامل، ومرحلة تاريخية لها أبعادها وأهدافها، ومن المغالاة تحديد زمن بذاته لهذه النهضة لأنّها عملية تاريخية تتفاعل وتتحرك في مداخل عديدة وهي لا تشبه يقظة النائم من منامه، بل هي يقظة شعوب وتحركها من أجل الدخول في مسار التاريخ بعد قرون من التأخر والانقطاع عن ركب التاريخ _ بل بسؤال النهضة، بالباعث التاريخي للنهضة بالغرب كعامل رئيس في انبعاث الفكر النهضوي العربي.إنّ المتأمل في الخطاب الفكري الثقافي في مشروع النهضة العربي يجد أنّ مشكلته الأساسية تكمن في وقوعه بين رغبة الاستقلال والانسجام الذاتي من ناحية، ورغبة التكيف مع المفاهيم والأفكار الجديدة التي يرى في كثير من الأحيان إنّ تجئ على حساب الالتحاق بالواقع والالتصاق به لهذا رأى بعض المفكرين العرب أنّ مشروع النهضة العربي لم يستطع أن يتبنى قيماً فكرية كبرى، وإنّما كانت قيّمة قيماً تابعة بمعنى ما، وتتجاور في داخلها وخارجها مع قيم الغرب المختلفة.ولذلك ارتبط المشروع النهضوي بمصطلحات يكثر استعمالها في كتابات عصر النهضة، مثل التقدم والتمدن والترقي، كما تشيع فيه مفاهيم ذات طبيعة ثنائية من مثل : الدين والعلم، العقل والنقل، العرب والغرب، الأصالة والمعاصرة التقدم والتأخر وغيرها.كما يكثر الحديث في المشروع النهضوي عن الحرية بمختلف أبعادها، كذلك ينحو المشروع إلى تأكيد معنى العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع بغض النظر عن الاختلافات الجنسية والعرقية وما إلى ذلك.[c1]ثالثاً : الطهطاوي وقضية المرأة 1801 _ 1873م : [/c]يكاد يجمع الدارسون على اختصاص رفاعة الطهطاوي بدور الريادة الأولى من بين أعلام النهضة العربية _ الإسلامية الحديثة. فهو من أول أعلام النهضة الذين خاضوا عملية الجدل المزدوج مع القديم من جهة فوضعوا أسس المناهج الإصلاحية في التعامل مع التراث ومع الجديد من جهة أخرى فضبطوا معايير الاقتباس عن الغرب ورسموا حدوده.وقد تناول الطهطاوي جوانب من الحياة الاجتماعية في كتبه : (تخليص (الأبريز) ثم (مباهج الآداب المصرية في مباهج الآداب العصرية)، وفيما بين هذين الكتابين أصدر الطهطاوي كتباً عديدة منها المؤلف بقلمه ومنها المترجم من أهمها : (القول السديد في الاجتهاد والتجديد) وفيه عرض مذهبه عن الاجتهاد في الإسلام و(المرشد الأمين للبنات والبنين) وهو يحوي أفكاره عن التربية والتعليم.وبوصفه مؤسس المذهب الديمقراطي الليبرالي كما يرى بعضهم، فقط نادى بسيادة الشعوب ودحض في مبدأ (الحق الإلهي) في الحكم انتصر لفكرة الدولة الزمنية أو العلمانية ... الخ.وأروم في سياق هذه المقاربة لموضوع المرأة في الخطاب النهضوي العربي، الإشارة إلى حساسية الموضوع واتصاله المباشر بالدين في الرؤية العربية الإسلامية، وهي العقبة التي أصطدم بها الطهطاوي وغيره من الرواد اللاحقين.وعلى الرغم من ذلك فإنّ الطهطاوي خطا خطوة جريئة بالنظر إلى معاصريه، وأعلن لأبناء عصره بوحي من خبرته بحالة المرأة الفرنسية إنّ (وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة) (في أول كتبه) ثم ليردد في آخر سنة من عمره إنّ (من الأحسن إلى البنات تزويجهن إلى من هويناه وأحببناه).وقد تصدى الطهطاوي في مجمل مواقفه من المرأة للأحكام المسبقة السائدة عن المرأة، حيث أبرز مجموعة من الحقائق والملاحظات الخاصة عن المرأة الفرنسية في كتابه (تلخيص الأبريز) كما تناول المرأة بصفة عامة وما ينبغي للمرأة الشرقية في رأيه عندما ألّف (المرشد الأمين).ويحصر الطهطاوي مجموع التصورات المانعة لحصول التغيير في أوضاع المرأة مثل رفض تعليم النساء القراءة والكتابة، والتصورات التي تلصق بالنساء مواصفات المكر والدهاء ونقص العقل، حيث لا تتجاوز وظيفة المرأة في نظر من يؤمن بما سبق حسب عبارة الطهطاوي (وظيفة الوعاء الذي يصون النسل).وفي مواجهته للخطاب التقليدي السائد في موضوع تعليم المرأة، يلح الطهطاوي عن أهمية العلم في الحياة، إذ أنّ امتلاك النساء لملكة القراءة والكتابة يؤهلن لتحصيل الأخلاق المرتبطة بالمعرفة، والمطلوب في مجال التربية وإعداد الناشئة، بل أنّ إدراكه لأهمية تعليم البنات جعله ينظر إلى الرافضين بوصفهم من حماة تقاليد الجاهلية، وقد عمل بالحجج التاريخية على نقد تصوراتهم، كاشفاً أهمية التعليم في إضفاء مزايا الجمال المعنوية التي تمنح المرأة ذكاء يرفع من مكانتها داخل المجتمع.إنّ التطور الكبير فعلاً والجديد حقاً في موقف الطهطاوي من قضية المرأة، يظهران في تصدّيه لهذه القضية في زواياها الاقتصادية والاجتماعية.فالمرأة هنا طاقة مجمّدة وقوة عمل معطلة ولتنشيط الأولى وتزكيتها دعا الطهطاوي إلى تعليم البنات ولتحريك الثانية واستثمارها نادى بانخراطهن في العمل. واعتبر قضية العفة موضوعاً تربوياً لا عَلاقة له بخروج المرأة أو عدم خروجها ونادى بحق المرأة في العمل، ورد أيضاً على التحفظ السائد تجاه ذلك بالعبارة الآتية :-(العمل يصون المرأة عام لا يليق ويقربها من الفيلة. وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال فهي مذمة عظيمة في حق النساء).وإضافة إلى أهمية التعليم ودوره في انخراط المرأة في سوق العمل، فإنّ أثر تعليم المرأة يتجلى في بناء الأسرة فالمرأة المتعلمة تربي أولادها التربية المناسبة.. وفي ذلك يقول : (التربية الأولية للأبناء مخصوصة بهن، حتى إنّ ما يشتهر به فحول الرجال والأبطال من العز الفخار وشرف النفس والاعتبار هو في الأصل مكتسب من تربية ربات الرجال)، وتحضر في نصوص الطهطاوي المتعلقة بتعليم البنات أسئلة الاختلاط والحجاب، بحكم إنّها من القضايا المعبرة عن جوانب من ملامح المجتمع العربي.ودون الخروج عن مقتضيات الشرع الإسلامي، فإنّ الطهطاوي حاول المواءمة بين التاريخ المتمثل في ثقل المورث، وبين مكاسب العصر، وعمل على تأسيس ما يسمح بالاختلاء الذي لا يخل بقيم الحياء.ولعل بعضهم يرى أنّ نصوص الطهطاوي بشأن المرأة لا تتجاوز مجموعة من الإشارات العامة ولا ضير في ذلك باعتبار أنّ تلك الإشارات إثارة أسئلة بلغة تع حدودها وحدود الشرط التاريخي والسياسي الذي تتبلور في إطاره.وهذا شأن نصوص أغلب المصلحين الرواد في القرن التاسع عشر والتي تشكل العلامات الكبرى الأولى في سجل بناء مرجعية جديدة في موضوع مقاربة أحوال المرأة وأحوالنا الاجتماعية بصورة عامة. ليس هذا فحسب، بل أنّ تلك النصوص تلتقي مع الطهطاوي في أغلب مفاصل تصوره لأهمية متغير التعليم في تعديل وتغيير النظرة النمطية الشائعة عن المرأة في المجتمع العربي، بل إنّ عنايته بمتغير التربية والتعليم ستظل عنواناً مناسباً لموضوع إصلاح أوضاع النساء في العالم العربي إلى حدود يومنا هذا، ذلك إنّ معدلات الأمية في وسط النساء في مجتمعنا ما تزال أعلى من معدلاتها وسط الرجال.[c1]رابعاً : قاسم أمين 1865 _ 1908م : [/c]لا نستطيع الإلمام بمختلف الجوانب في قضية المرأة، وأن نقف على أهم أطوارها بوصفها محور من محاور فكر النهضة عامة، ما لم نقف على ما كان لأمين من دور في تطوير طرحها من حيث منهجية المقاربة وطريقة الإدراك.كانت قضية المرأة الشغل الشاغل لقاسم أمين عكس الآخرين من رواد النهضة المعاصرين لقاسم أمين وغير المعاصرين الذين انجروا إلى إثارة قضية المرأة، ذلك هو تحول النوعي الكبير الذي أدخله قاسم أمين على تاريخ هذه القضية في الفكر العربي الحديث، وهو التحول بقدر ما يعبر عن تطور في اتجاه التفكير عامة، فإنّه يدل دلالة واضحة على تعاظم أهمية هذه القضية واشتداد إلحاحها على الواقع والفكر معاً.يعد قاسم أمين أول داعية إلى تحرير المرأة في المجتمعات الشرقية يعده هشام شرابي نموذجاً لتيار المسلمين العلمانيين في فكر النهضة. ويعود الفضل للدكتور/ محمد عمارة الذي أخرج للناس في بعض ما أخرج من آثار رواد النهضة الحديثة الأعمال الكاملة لقاسم أمين، وقد ضمنها كل مؤلفاته ومقالاته وخواطره ومنها خاصة كتابه المغمور، على خطورته البالغة : (المصريون ... رد على الدوق دار كور) وهو أول كتبه نشر باللغة الفرنسية عام 1894م، ولم يترجم إلى العربية إلا سنة 1976م من قبل محمد البخاري.ويظهر من عنوان الكتاب أنّ قاسم أمين كتب رداً على الكاتب الفرنسي (الدوق دار كور) الذي أصدر في سنة 1893م كتاباً حمل فيه على مصر والمصريين حملة عنيفة وشنع بالإسلام والمسلمين ويهمنا في هذا الكتاب كل ما يتعلق بموضوعنا هذا وهو قضية المرأة ويجب معرفة أولاً أنّ (الدوق دار كور) قد اتخذ من وضعية المرأة في المجتمع المصري مطية للطعن في الإسلام والمسلمين، وفي هذا المضمار ردد ما جرى غيره من أهل الغرب على ترديده من مطاعن في أحكام تعدد الزوجات والطلاق والحجاب.وكان رد أمين عليه واضحاً لا غبار عليه فهو يفضل الحجاب ويدفع عن المجتمع الشرقي الانفصالي دفاعاً مستميتاً ويرى فيه تطبيقاً أميناً للشريعة الإسلامية التي قضت بأن (يكون للرجال مجتمعهم الذي لا تدخله امرأة واحدة وأن يجتمع النساء دون أن يقبل بينهن رجل واحد... وذلك لحماية الرجل والمرأة مما ينطوي عليهما صدورهما من ضعفٍ والقضاء الجذري على مصدر الشر) ويرى قاسم أمين في الطلاق قضية شخصية بحتة لا يمكن أن تفضها محكمة أو سلطة ما لذلك فلابد من أن يبقى للزوجين مطلق الحرية في شأنها، ولا ينكر قاسم أمين تعدد الزوجات وإنّ كان يلح عن ضرورة إجراء أحكام الشريعة فيه لما تنص عليه خاصة من وجوب العدل بين النساء.وواضح الاتجاه المحافظ أشد المحافظة الذي يدافع عنه أمين هو الاتجاه نفسه الذي سيقاوم دعوة أمين إلى (تحرير المرأة).[c1]كتاب (تحرير المرأة) 1899م : [/c] كتاب تحرير المرأة هو الذي أكسب أمين الريادة في تحرير المرأة في العالم العربي وذاع صيته بين أعلام النهضة.وأروم في البدء الإشارة إلى ما تردده الأخبار من ملابسات حفت بكتابه الثاني هذا، وتدور هذه الأخبار عن مسألتين أثارت كثيراً من الجدل :المسألة الأولى : وهي أنّ قاسم أمين ألَّف كتابه الموسوم (تحرير المرأة) ليعتذر للأميرة نازلي فاضل ويصلح خطأه في حقها، ذلك إنّها كانت من زعيمات الحركة النسائية يومئذٍ مما جعلها تستاء أشد الاستياء مما عبّر عنه أمين عن أفكار في قضية المرأة في كتابه (المصريون).المسألة الثانية : ترددت روايات مفادها أنّ الشيخ محمد عبده كتب بعض فقرات الكتاب ولعله أن يكون مؤلف القسم الديني في نظر بعض، فيما اكتفى أمين بالجوانب الاجتماعية من القضية.وأصحاب هذه الأقاويل في تقديري لا هدف لهم سوى الإساءة إلى أعلام النهضة لصرف الناس عن جوهر القضايا التي نذروا لها وتراثنا العربي الإسلامي مثقل بمثل هذه الأراجيف، فنحن لا نجيد سوى كُره الامتياز في الآخرين، ما بالكم بأمين الذي تصدى لقضية المرأة التي صارت لجميع القضايا الثقافية والحضارية بؤرة ومنطلقاً تفضي إليها وتصدر عنها في تفاعل جدلي عميق بين الجزء والكل.هذا، وتستوعب نصوص أغلب المسهمين في إنشاء نصوص هذه الحقبة محتوى مدركات الفارق التي تبلورت في أعمال الطهطاوي، وتدعو إلى المماثلة دون حرج. فلم يتردد قاسم أمين كما لم يتردد الطاهر الحداد في كتابه (امرأتنا بين الشريعة والقانون) رائد حركة تحرر المرأة في تونس (1899 _ 1935م) في الدفاع عن مبدأ الاستفادة من تجارب التاريخ والمجتمع الأوروبي في هذا الباب، مع نكران وجود أي تنافٍ بين مبادئ الشريعة وقيم الحياة الجديدة الناشئة في المجتمعات المعاصرة، وعلى الرغم من الطابع المحافظ لبعض التأويلات الرافضة لمكاسب ومنجزات هذه المجتمعات.دعا قاسم أمين في (تحرير المرأة إلى تعليم النساء، ونادى رفع الحجاب، إلا أنّه حرص على أن ينبّه إلى معارضته للسفور على الطريقة الأوروبية وإلى أن ما يدعو إليه هو سبيل وسط بين غلو الغربيين في إباحة التكشف ... وغلونا في طلب التحجب والتحرّج من ظهور النساء لأعين الرجال وهذه السبيل هي الحجاب الشرعي).وقال بضرورة اقتحام المرأة لميدان العمل الاجتماعي على أن لا تتعداها إلى (الوظائف العمومية) كالخلافة والإمامة والشهادة في بعض الأحوال، أي كل ما يتصل بالشؤون السياسية، أما تعدد الزوجات فقد عارضه مستشهداً بالقرآن والحديث أما الطلاق فقد وضع له حدوداً تقيده وتحول دون تفشي آثاره السيئة على العائلة والمجتمع.نلاحظ في كتاب (تحرير المرأة) تطوراً ملحوظاً عبّر عن البحث عن الحلول الوسطى بروح توفيقية تستحضر لحظتي الماضي والحاضر وما يقترن بهما من ثنائية الأنا والآخر.وهذا هو المنطلق الذي صدر عنه قاسم أمين في معالجته لقضية المرأة في هذا الكتاب بحثاً عن الحلول الموفقة بين حدود الواقع القائم من جهة ومقتضيات الحضارة الوافدة من الغرب من جهة أخرى، وليست هذه الحلول سوى رجوع إلى أحكام الإسلام في صورته النقية الأصيلة. وهكذا انخرط أمين في صميم فكر الإصلاح الإسلامي الذي قام، فيما قام عليه من أسس، على قاعدتين مبدئيتين جوهريتين :أولاهما : أنّ المسلمين قد حجبوا الإسلام وشوّهوا حقيقته بما يأتون من أعمال وما يتواطئون عليه من عادات.الأخرى : إنّ الإسلام، ما أزيلت عند الغشاوة وجُرّد مماران عليه من بدع، قادر على استيعاب العلوم الحديثة قابل للتفاعل مع الحضارة الغربية والاقتباس عنها.ويمكن تعيين علامات الدونية كما تبلورت في نصوص قاسم أمين على النحو الآتي :عدم الخروج من البيت، من دون عمل، الانفصال في الأكل، المراقب، الطلاق، المرأة ليست محلاً للثقة، من دون موقع قدم في مجال المرافق العمومية ومؤسسات الشأن العام، من دون مقام في الاعتقاد الدينين من دون ذوق، ومن دون فيلة وطنية.ويحضر هذا التشخيص لعلامات الدونية في نصوصه بطريقة نقدية وبمنحى إصلاحي دعوي.ويوصف سرد الأوضاع ببلاغة توحي بكثيرٍ من سلبيات هذا الذي يرشح دونية المرأة وما هو أهم من كل ما سبق هو الجدلية التي يُنظر من خلالها إلى دور المظاهر المذكورة في إعادة ترسيخ الدونية المشخصة آنفاً بهدف البحث عن سبيل نفيها وتجاوزها.[c1]كتاب (المرأة الجديدة) 1900م : [/c]أعلن قاسم أمين في هذا الكتاب في غير مواربة وأفصح في غير تردد عن خروجه على محور الفكر الإصلاحي الإسلامي وأشهر تبنيه الصريح للتمدن الغربي فكراً وقيماً وعملاً.لقد أقلع في هذا الكتاب عن الحلول الوسطى وغادر السبل التوفيقية الإصلاحية وأعرض عن مهادنة الواقع والخضوع لمقتضياته وحدوده معلناً أن (الإنسان في البلاد الحرة قد يجاهر بأنّه لا وطن له ويكفر بالله ورسوله ويطعن في شرائع قومه وآدابهم وعاداتهم ويهزأ بالمبادئ التي تقوم عليه حياتهم العائلية والاجتماعية، يقول ويكتب ما يشاء في ذلك ولا يفكر أحد لو كان من ألدّ خصومه في الرأي أن ينقص شيئاً من احترامه لشخصه متى كان قوله صادراً عن نية حسنه واعتقاد صحيح).ويذهب أمين في هذا الكتاب أيضاً إلى أنّ دواء المسلمين (أن يربّوا أولادهم على أن يتعرفوا شؤون المدنية الغربية ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها. إذا أتى ذلك الحين _ ونرجو ألا يكون ذلك بعيداً _ انجلبت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنّا أنّه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكون مؤسساً على العلوم العصرية الحديثة).لقد تغيّرت نظرة قاسم أمين إلى المرأة وتجاوزت النظرة الأبوية الذكورية والنظرة البرجوازية النفعية، والأهم من ذلك، تأكيده على أنّ الظروف الاقتصادية والاجتماعية والتربوية هي التي تحدد منزلة المرأة وأنّ حظ الطبيعة في هذه العملية لا يكاد يذكر.لذلك فهو يقرر أنّ الحجر على المرأة أن تتناول الأشغال العمومية ليس حجراً مؤبداً وهو هو مبدأ لازم للنظام الاجتماعي.ويدعو إلى (وجوب أن تربى المرأة على أن تكون لنفسها أولاً لا أن تكون متاعاً لرجل ربما لا يتفق لها أن تقترن به مدة حياتها، ووجوب أن تربى على أن تدخل في المجتمع الإنساني وهي ذات كاملة لا مادة يشكلها الرجل كيفما شاء، ووجوب أن تربى على أن تجد أسباب سعادتها وشقائها في نفسها لا في غيرها).ولا يتردد قاسم أمين في نقد حجب المرأة عن الحياة العامة وعزلها ومنعها من اكتساب المعرفة والمشاركة في قضايا الشأن العام، إلا أنّ هذا الموقف تطلب منه العمل في جبهتين :الأولى : جبهة نقد العادات والتقاليد وأساليب المعاملة السائدة في موضوع عَلاقة المرأة بالرجل داخل الأسرة والمجتمع.الأخرى : جبهة مساجلة ونقد الفقهاء المشتغلين بقضايا الشريعة، من أجل إقناعهم مبدأ مراعاة حاجات المجتمع في موضوع المرأة وقضاياها.وقد أُتهم قاسم أمين من طرف خصومه بالانحياز لقيم دخيلة ومفسدة (للفطرة) السائدة في مجتمعاتنا، واعتبر أمين (ممن تخطفت زخارف التمدن الأوروبي بصائرهم) ووصلت الحملة التي شُنت ضده إلى تحريم دخوله قصر الخديوي، ومحاولة الاعتداء على زوجته من قبل جمع من العامة بدعوى أنّ تحرير المرأة يبيح للرجال مثل ذلك، ومنها ما نُشر ضده من مقالات ومؤلفات لعل من أهمها : (الرفع المتين في الرد على قاسم أمين) لعبد الحميد خيري.ولا شك في أنّ هذه الحملة الشرسة على قاسم أمين، كان لها أثراً كبيراً في التحول الكبير في مسيرته الفكرية في معالجة قضية المرأة مثل قوله في كتاب (المرأة الجديدة) :(فأنظر إلى البلاد الشرقية تجد أنّ المرأة في رق الرجل والرجل في رق الحاكم فهو ظالم في بيته مظلوم إذا خرج منه، ثم أنظر إلى البلاد الأوروبية تجد أنّ حكومتها مؤسسة على الحرية واحترام الحقوق الشخصية فارتفع شأن النساء فيها إلى درجة عالية من الاعتبار وحرية الفكر والعمل).وهذه الفكرة التي تكبها أمين عام 1900م هي ذاتها التي ينطلق منها الماركسيون في معالجة قضية المرأة والفكرة مؤداها أنّ وضعية المرأة في مجتمع ما هي المعيار الدقيق لتحديد درجة تقدمه أو تخلفه.ومن نافلة القول إنّ نصوص قاسم أمين تقدم في هذه اللحظة العناصر الأساس في باب رصد عناصر التحول في إدراك النخب العربية لطبيعة الوضع النسائي في المجتمع العربي، ولنوعية الأسئلة الاجتماعية المواكبة لمختلف مظاهر التغيير التي حصلت بدرجات متفاوتة في مختلف البلدان العربية، على الرغم من مظاهر الهيمنة الاستعمارية التي كانت تشكل السمة الأبرز في واقع حال أغلب هذه المجتمعات.إضافة لذلك يستند برنامج قاسم أمين في الإصلاح إلى مرجعيات تتداخل فيها الروح الإصلاحية الجديدة في فكر النهضة العربية، مع مردة الفكرة الاجتماعي الجديد في أوروبا، وبعض مقدمات الفلسفة الوضعية، حيث نكتشف أنّ الخلفية النظرية الناظمة لمشروعه تتأسس اعتماداً على المرجعيات والمبادئ الفكرية التي واكب ظهورها ميلاد المجتمع الصناعي، وما نتج عنه من تحولات في المجتمع وفي النظرة العامة إلى المجتمع والتاريخ.إنّ المشروع الإصلاحي لقاسم أمين فيه من العناصر ما يبرز إننا أمام تحول مفصلي في النظر إلى قضايا المرأة العربية، تحول يرسم ملامح نقد قوية تضعنا على عتبة آفاق جديدة في النظر إلى واقع المرأة، حتى عندما لا تتوافر سبل دفع هذا المشروع نحو الإنجاز.والمؤسف أنّ مشروع قاسم أمين ومطالبة التي سُطرت وحررت قبل ما يزيد عن مائة سنة، ما تزال تطرح بصيغ متعددة في واقعنا الراهن، مما يكشف صلابة القضايا الموصولة بواقع المرأة في مجتمعنا، حيث تظل الممانعة التاريخية عنواناً كاشفاً عن عمق المعارك التي ما تزال مطلوبة.إنّ أهمية قاسم أمين تتمثل في وضوح نصوصه ومنهجيتها الجديدة في مقاربة قضايا المجتمع العربي، وهذه السمات لم تميز نصوصه وحدها، بل كانت عنواناً للغة إصلاحية جديدة ناشئة في الفكر العربي المعاصر... نلحظ ملامح هذه اللغة في نصوص فرح أنطون المنشورة في مجلة (الجامعة) كما نتبينها في نصوص لطفي السيد في (الجريدة) ونجدها في نصوص رواد الفكر العربي طيلة العقود الأربعة الأولى من القرن الفارط. ونقصد بذلك على عيد الرازق وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم.. حيث سيتبنى هذا الجيل مشاريع في الإصلاح تهدف إلى تجاوز تركه التأخر التاريخي العربي، المقيدة للإبداع والمعطلة لأسباب النهضة والتقدم.[c1]المراجع : [/c]1 ) كمال عبد اللطيف، سلامة موسى وإشكالية النهضة، الطبعة الأولى، دار الفارابي، بيروت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 1982م.2 ) د . محمد فهمي حجازي / أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي مع النص الكامل لكتابه : (تخليص الإبريز) الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974م.3 ) فرج بن رمضان، قضية المرأة في فكر النهضة العربية، الطبعة الثانية، دار محمد علي _ صفاقس، دار الحوار، اللاذقية، 1989م.4 ) روجيه غارودي، ترجمة محمود هاشم الودرني، مستقبل المرأة، الطبعة الأولى، دار الحوار، اللاذقية، 1985م.5 ) هشام علي، المثقفون اليمنيون والنهضة، الطبعة الأولى، مكتبة الإرشاد، صنعاء/ 2002م.6 ) الطاهر الحداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، موفم للنشر، الجزائر/ 1992م.7 ) كمال عبد اللطيف، قضايا المرأة في الفكر العربي وأسئلة التغيير، مجلة التسامح، تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية/ سلطنة عُمان، مسقط، السنة الثالثة، العدد (11) صيف 2005م، ص (44).8 ) د. عبد الله ولد محمد سالم، النهضة وإشكالية الداثة، مجلة الرافد، دائرة الثقافة والإعلام، حكومة الشارقة، دولة الإمارات العربية المتحدة، السنة (11)، العدد (96)، أغسطس 2005م، ص 12.ورقة ستقدم يوم الأربعاء 15 مارس في جمعية تنمية الثقافة والأدب بدار سعد.
الطهطهاوي
قاسم أمين