محمد الحدّاد[c1]* [/c]مثّلت محاضرة البابا بيندكت السادس عشر في 12 ايلول (سبتمبر) 2006 في جامعة رغنسبورغ الألمانية حدثاً ذا دلالات استثنائية ومفاجئة. فلقد كان موضوعها الأصلي إدانة وجهين من الشطط احدهما علماني يتخذ العقل مرشداً أوحد للإنسان والثاني ديني يغلق الفهم الديني عن التعقل. ولم تخل المحاضرة من غمز من قناة البروتستانتية التي أفرطت من جهة نظر البابا في اللهثان وراء العقل الحديث. وكان سبق هذه المحاضرة بيومين قدّاس ضخم حضره حوالى ربع مليون من الأتباع دان خلاله البابا الشكل الحالي للعلمانية الغربية التي جعلت الغربيين يصمّون آذانهم، كما قال، عن كل ما هو ديني. اما الإسلام فكان خارج إطار المحاضرة لا ندري هل سبب غيابه الاعتقاد انه غير معني بالقضية المطروحة ام كون المحاضرة ألقيت في محفل مسيحي لا حضور للمسلمين فيه.لكن فقرة عارضة جاء فيها ذكر الإسلام قد حوّل المحاضرة وجهة اخرى. فإذا بردود الفعل الإسلامية تصوغها صياغة مختلفة. وإذا بالعلمانيين والكاثوليك والبروتستانت في الغرب يصبحون موقفاً واحداً ضد ردود الفعل الإسلامية التي تراوحت بين العنف ومطالبة البابا بالاعتذار. فأضحى الأمر وكأن المحاضرة موجهة ضد الإسلام بينما سكت عن الرد عليها من كان المقصود بالنقد الوارد فيها.الفكرة الأساسية لمحاضرة البابا هي من نوع ما يقوله المسلمون ويكتبون كل يوم، فقد اراد البابا ان يرسخ بين أتباعه ان الكاثوليكية وسط بين الدين المنغلق على العقل والعقل المنغلق على الدين، فهي الطريق الوسط الأكثر نفعاً للبشر. وهذا كلام المسلمين ايضاً لو غيّرنا كلمة كاثوليكية بإسلام. لكن الوحدة الدينية امام معضلة العقل والدين قد انفجرت امام ردود فعل إسلامية مشطّة أدت الى عكس المقصود. فكيف تقوم التظاهرات العنيفة تطالب بالتمييز بين الإسلام والعنف؟ وكم من المحتجّين قرأ محاضرة البابا الدسمة التي لا يكاد يفهمها إلا المختصّون؟ وكيف تصدر من بيانات التنديد والشجب المئات ولا يصدر من الردود الرصينة إلا الآحاد؟ بل لم أقرأ الى الآن من الردود ما هو جدير بالاحترام سوى مقال نشره الدكتور رضوان السيد. لقد بدأ البابا محاضرته باستعراض ذكرياته الشخصية عندما كان استاذاً جامعياً يحاضر امام الطلبة ويتناظر مع زملائه ويجالس المؤرخين والفلاسفة ويختلط بعلماء اللاهوت البروتستانت. وشدد على ذكرى معينة هي الملتقيات الدورية التي كان الأساتذة ينظمونها بحضور الطلبة، فقد كان تنوع الاختصاصات والمذاهب يدفع الى اتخاذ العقل حكماً وحيداً بين الآراء.وقال المحاضر انه استعاد هذه الذكرى عندما قرأ أخيراً مناظرة قديمة جمعت بين الأمبراطور البيزنطي المثقف مانويل الثاني الملقب باليولوغوس (1391 - 1425) ورجل مسلم قال البابا انه عالم فارسي (وهو في الحقيقة رسول عثماني في عهد بايزيد الأول (1389 - 1402). ومصدر البابا نص محقق نشره عادل ثيودور خوري سنة 1966 عنوانه «مناظرات مع مسلم» يعرض تلك المناظرة التي دارت سنة 1391 وسجّلها بعد ذلك ببضع سنوات الامبراطور المحاصر في القسطنطينية، وهي مناظرة من المناظرات الكثيرة التي لم يخل منها العصر الوسيط في المفاضلة بين المسيحية والإسلام. وأشار المحاضر الى اننا لا نعرف عنها اكثر مما نقله احد طرفيها دون الطرف الآخر أي المسلم، وأشار الى ان رأي الامبراطور في الإسلام معروض بفجاجة تذهلنا اليوم. فهل المقصود بهاتين الإشارتين ان يتنصل المحاضر من مسؤولية المقول؟ ام المقصود ان يتأسف لغياب تقاليد الحوار الصريح اليوم، كما كان في عهد مانويل الثاني أو في العهد الذي كان راتسنغر يشغل فيه كرسي الأستاذية في الجامعات الألمانية؟ هذان تأويلان ممكنان لمقصد المحاضر لا يمكن ترجيح احدهما على الآخر. اما التأويل الثالث الذي ذهب إليه المحتجون من المسلمين والذي يعتبر ان البابا قد استشهد برأي الامبراطور البيزنطي لاقتناعه به، فهو يتجاوز ظاهر النص الى الحكم على نيات صاحبه.موضوع المناظرة التي أوردها البابا علاقة الألوهية في المسيحية والإسلام بالعقل والعنف. قال الامبراطور لمخاطبه المسلم: أرني من _الجديد الذي اتى به محمد (صلى الله عليه وسلم). انك لن تجد إلا أشياء سيئة وغير إنسانية مثل الدفاع عن الدين بحد السيف. ثم استعرض الامبراطور الحجج التي تثبت بطلان استعمال القوة لنشر الدين مستخلصاً ان الله لا يرضى ان تسل الدماء وأن العنف مخالف للعقل ولطبيعة الألوهية وأن من أراد ان يدعو الآخرين لدينه فعليه ان يستميلهم بالحجة والبرهان. ثم يمضي البابا يعلّق على هذا الجزء من المناظرة مستقطعاً بعض كلام الناشر الأستاذ خوري الذي استشهد بدوره بالمستشرق الفرنسي روجيه ارنالدز، فيشير الى التعارض بين المسيحية والإسلام في مجال العلاقة بالعقل، اذ المسيحية قد امتزجت بالفلسفة الإغريقية بينما عارض الإسلام هذا الامتزاج. وذكر تخصيصاً موقف ابن حزم الذي يعتبر الله منزّهاً عن الضرورات جميعاً ومنها ضرورة ايقاع وعده ووعيده او إرسال الرسالات الى البشر. كما ذكر ان الآية «لا إكراه في الدين» (البقرة، 256) تعكس موقف الإسلام عندما كان المسلمون في حالة ضعف، وقد تغيّر موقف الإسلام عندما اصبح نبيّه وأتباعه في موقف قوة. ونسجل بالمناسبة ان خوري وأرنلدز هما باحثان متميزان معروف عنهما العمل الدؤوب لتخليص صورة الإسلام من المسلمات العالقة به في الغرب، وأغلب الظن انهما لن يوافقا البابا في استنتاجاته.ثم بدأ الجزء الأساسي من المحاضرة بعد هذه المقدمة، ومحوره كما ذكرنا الاستدلال على التوافق بين العقل والإيمان المسيحي، بين الفلسفة اليونانية والكتاب المقدس. فما ورد عن الإسلام لم يكن إلا امراً عرضياً. لكننا في عهد السطوة الإعلامية، وقد نسي البابا ان بين الستينات من القرن المنصرم عندما كان استاذاً جامعياً وبين اليوم فارقين عظيمين: أولهما انتشار الإنترنت والأطباق اللاقطة في كل بيت، وثانيهما ان كلام البابا لا يحمل كلام الأستاذ الجامعي. انطلق الإعلاميون يتعمقون في الحادثة التي ذكرها البابا تعمّق اللاهوتيين في النصوص المقدسة، فإذا هي تذكّر بعهود المواجهة من دون عهود السلام، وإطارها سيطرة العثمانيين على شؤون الإسلام (وهي ذكرى يعدها المسلمون في الغالب بداية انحطاطهم) ومحاصرة القسطنطينية التي سقطت بعد حوالى نصف القرن من عهد مانويل الثاني (وهي ذكرى أليمة للمسيحيين). وقد ألقيت المحاضرة في الذكرى الخامسة لتفجيرات 11/09/2001، وبعد فترة وجيزة من وصف بوش الإسلاموية بأنها كليانية مثل الفاشية والشيوعية، وكان من سوء التوافق في المجادلة المعروضة ان يكون المخاطب مسلماً فارسياً في فترة تشهد صداماً بين ايران والغرب، وأن يكون الامبراطور البيزنطي محاصراً في القسطنطينية والكثير من الغربيين يشعرون اليوم بأنهم محاصرون بالإرهاب الإسلامي. الخ. وإذا ما تجاوزنا هذه الأبعاد الى اخرى اكثر واقعية وجدنا ان محاضرة البابا جاءت بعد مجموعة من الإشارات التي أوّلت سلبياً من الجانب الإسلامي، كان اولها غياب كلمة إسلام في اول خطاب ألقاه البابا عند تقلّده هذه الخطة، وكان آخرها تحويل الحوار المسيحي الإسلامي من عنوان الحوار بين الأديان الى عنوان الحوار بين الحضارات، وقد يعني ذلك إضعافاً لدلالة قرار مجمع فاتيكان الثاني بالاعتراف بالدين الإسلامي. إلا ان للمسيحيين لوماً على المسلمين لا يقل عن ذلك شأناً، منه التضييق على الأقليات المسيحية واضطهاد الرهبان واعتماد العنف بديلاً للحوار.وإذا كان للإعلام دور كبير في اضطراب الفهم بل تضليله فإن مضمون القول نفسه كان يهيئ لذلك. فقد جمع البابا في فقرة قصيرة وعرضيّة مجموعة كبيرة من المسلمات السائدة حول الإسلام، ليست مختلقة من عدم، لكنها تذكّر بالموقف القديم للمسيحية من الإسلام قبل مجمع فاتيكان الثاني وهي الى ذلك معروضة بخلط كبير.إن مذهب الغالبية من المسلمين، مذهب «أهل السنة والجماعة» كما يقال، لا ينكر الحق في الدفاع عن العقيدة بالسيف، بل يجعل ذلك واجباً على المسلم، عكس المثل الأعلى المسيحي عندما فضّل السيد المسيح ان يصلب، وعكس المثل الاعلى الفلسفي عندما فضل سقراط ان يتجرع السم. لكن السنّة يميزون بين الدفاع عن العقيدة باستعمال القوة وإجبار الآخرين على اعتناقها بالقوة. وقرأ في كتب الكلام الاشعري ان الخالق مريد لجميع الكائنات، وألزمهم خصومهم أي يكون مريداً للشر والمعصية والكفر، لكن الاشاعرة يميزن بين إثبات الارادة لإفراد الالوهية بالفعل وبين الرضا والقبول بتلك الأعمال المذمومة. ولا ينكر المذهب السنّي ان الله منزه عن كل الضرورات، فلا يلزمه شيء ولا يلزمه ان يوقع وعده ووعيده او يبعث الرسل، لكنه يميز بين ان يقع الوعد والوعيد وبعثة الرسل لأنها واجبة على الله وان تقع وجوباً لأن الله اخبر بها. والمسألتان الأخيرتان مختلف فيهما مع المعتزلة الذين يقولون بحرية الفعل الإنساني ويخضعون الألوهية للوجوب والاستحالة العقليين. ولم يكن البابا اول من اشار الى ان آية «لا إكراه في الدين» آية منسوخة بطل حكمها عندما بلغ المسلمون القوة، فقد قال بذلك العديد من المفسرين من أهل السنة، لكن البابا لا يذكر ان التفسير الاصلاحي المعاصر (محمد عبده، محمد رشيد رضا، طاهر بن عاشور، الخ) تخلى عن هذه الفكرة واعتبر آية «لا إكراه في الدين» تقريراً لأصل ديني عام. فهل يرجع المسلم الى قرارات الكنيسة في عهد البابا أوربان الثاني ليعرف موقفها من الاسلام ام انه يعتمد قراراتها الحديثة وخصوصاً قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني؟هذه جميعاً دقائق كنا نتمنى لو راجعها قداسة البابا قبل ان يذكرها امام جمهوره وتنقلها عنه وسائل الاعلام. وهي معروضة في دراسات مشهورة منها دراسة أرنلدز عن ابن حزم التي يشير اليها (وعنوانها »النحو واللاهوت عند ابن حزم القرطبي، صدرت سنة 1956). ولا شك أن الكثير من علماء المسلمين يتحدثون ايضاً عن المسيحية من وجهة نظر اسلامية لا يعتبرها المسيحيون صحيحة ودقيقة. وثمة اشياء تتجاوز سوء الفهم الى التعارض المطلق بين التصورات الدينية، فلا يوجد مثلاً مسيحي يقبل ان يقال عنه إنه مشرك لأنه يقول بالتثليث، لكن من الصعب على المسلم ان يقبل فكرة ان التثليث صورة من التوحيد. فهذه الاختلافات لا حل لها سوى ان يسلك رجال الدين سلوك التسامح والاحترام المتبادل او ان يقبلوا بمناقشة هذه الامور في حلقات المختصين المغلقة بسبب طابعها الشائك والحساس. وهذا ما كانت قررته الكنيسة في مجمع الفاتيكان الثاني بعد تاريخ من معاداة الاسلام استمر قروناً. ان الجدل بين المسيحية والإسلام قديم والمجادلة التي أشار إليها البابا واحدة من مئات المجادلات. إلا ان انتشار العلمانية في العصر الحديث هو الذي جعل المجادلات العنيفة تتراجع ويحل محلها الحوار الديني والتسامح بين الأديان المختلفة، وتحت ضغط انتشار العلمانية عقدت الكنيسة مجمع الفاتيكان الثاني الذي صالحها مع الحداثة وكان من جملة قراراته اعترافها بالإسلام وبأديان اخرى. ولو ذكر البابا ان المجتمعات الإسلامية اكثر استعصاء على قبول هذا الحل لأنها اقل انفتاحاً على الحداثة والعلمانية لوافقناه الرأي، اما ان يرجع الامور الى طبيعة الأديان ذاتها فإن تاريخ المسيحية والإسلام يقوم شاهداً على خلافه. لكن البابا كان قد تهجم على العلمانية قبل يومين من تهجمه على الإسلام، فكأنه أراد ان يراجع موقفين، موقف الكنيسة من العلمنة وموقفها من الاسلام. وبين الأمرين ترابط بسبب تزايد أعداد المسلمين في المجتمعات ذات الاصول المسيحية وانهيار الشيوعية لتتحول الاسلاموية عدواً مركزياً للغرب.من هنا جاء استغرابنا لما ذكره البابا في علاقة المسيحية بالفلسفة والعقل والعنف والعلمانية اكثر من استغرابنا لما ذكره من مسائل حول الاسلام قد تكون وردت بصفة عرضية وقد يكون للمحاضر فيها بعض العذر لأنه ليس عالم اسلاميات. مع ان البابا وهو يحاضر سنة 2006 هو غير الأستاذ الذي كان يحاضر سنة 1959، الاول يقدم وجهة نظر الكنيسة والثاني يقدم وجهة نظر شخصية.نحن لا نطالب البابا بالاعتذار لأن الاعتذار عما لم يقله لا معنى له والاعتذار عما قاله وهو مقتنع به لا معنى له ايضاً. ونحن نساند دعوة سماحته الى حوار قائم على مبدأ التكافؤ، وندعو الى تطبيق هذا المبدأ في قضايا الذاكرة ايضاً، وهذا ما سيكون محور نقاشنا.ليس من العدل تنزيل مواقف في سياقها التاريخي وفصل اخرى عن تاريخيتها. كيف يمكن الحديث عن الجهاد في الاسلام الذي تطورت احكامه بتطور اوضاع المسلمين وإغفال تاريخية المناظرة بين مانويل الثاني والرسول العثماني؟ هل دافع مانويل الثاني عن السلام لأنه مسيحي فحسب؟ الجواب بالنفي كما يبرز من مراجعة سياق المناظرة، اذ كان مانويل الثاني محاصراً في القسطنطينية مهدداً من القوة العثمانية الناشئة، لكن مانويل الثاني هو وريث الامبراطورية الرومانية ثم البيزنطية التي لم تتردد بدورها في استعمال القوة عندما كانت لها وسائل القوة، أي قبل ظهور الاسلام وتوسعه في مناطقها. والكاثوليك قد شاركوا في إضعاف بيزنطية ومهدوا للعثمانيين اسقاطها عندما حولوا اليها الحملة الصليبية الرابعة. وكان مانويل الثاني قد حاول جاهداً ان يحصل على مساندة بابا الغرب ليواجه المسلمين فلم يأته المدد. وكانت الكاثوليكية تنظر الى المسيحيين الشرقيين نظرة سلبية لا تقل سوءاً عن نظرتها الى المسلمين. وعندما كان الامبراطور يسجل وقائع هذه المناظرة كان الجزء الشرقي من العالم الاسلامي يقع بدوره ضحية العنف نتيجة حملة تيمورلنك ولم يصدر عن الكنيسة آنذاك ما يدين عنف ذلك المغامر السفاك، فقد كان العنف مشهداً عادياً في تلك العصور. ولم يكن مرجع الكنيسة الغربية آنذاك مقررات مجمع الفاتيكان الثاني بل اعلان الحرب المقدسة ضد الاسلام الذي اتخذه البابا اوربان الثاني سنة 1095 وجدده البابا اينوقنتيوس الثالث سنة 1202.وقد شهد التاريخ المسيحي مثل التاريخ الاسلامي حوادث عنف لا تحصى اصطبغت بالدين وتسربلت به، من الحروب الصليبية الى اضطهاد الكاتار والبروتستانت الى كارثة سانت برتليمي الى محاكم التفتيش الى اضطهاد السكان الاصليين في أميركا الجنوبية الى استعمار مناطق عديدة في الكون منها مناطق اسلامية.فكل ما ورد على سبيل الاشارة والتلميح في شأن التاريخ الإسلامي يمكن سحبه ايضاً على المسيحية، ولم تكن فلسفة الانوار كلها إلا استعراضاً للتاريخ المسيحي للعنف. وموقف الأديان يتغير وهذا أمر إيجابي والمهم ان لا نقع في المغالطات التاريخية فينفي كل طرف جزءاً من تاريخه ويثقل تاريخ غيره، فكل الديانات تحمل تاريخاً يمتزج فيه السلم والحرب والعقل والانغلاق والتسامح والعنف. ونحن نقر ان تاريخ الاسلام هو مزيج بين ذلك جميعاً، ومؤرخو المجتمعات المسيحية لا يقلون تأكيداً على الأمر نفسه. فيتعين على رجال الدين من الطرفين ان يتقيدوا بنتائج التاريخ ولا يتخذوا الماضي حججاً في المجادلات العقائدية.وكما لم يكن التاريخ المسيحي مسالماً دائماً فلم يكن الفكر المسيحي متوافقاً مع العقل في كل فتراته. فمن المعلوم ان الفلسفة الإغريقية قد انهارت بالتوازي مع تقدم المسيحية. ولئن شهد العصر الاول للمسيحية اختلاطاً بين المناقشات اللاهوتية والمناقشات الفلسفية فإن هَمَّ الكنيسة, وخصوصاً الغربية، قد اتجه نحو التخلص نهائياً من الفلسفة والاقتصار على النواحي القانونية والطقوسية. استحكم هذا المسار مع البابا غريغوريوس الكبير (ت 604) الذي توفي قبل ظهور الاسلام بقليل. وقد اعتبرت الفلسفة في احسن الحالات وسيلة لتدعيم الإيمان وللدفاع عن العقائد. وبلغ من هوانها ان كتب بوثيوس (او بويس) الذي مات مسجوناً سنة 525 رسالة عنوانها »عزاء الفلسفة«، وكان هذا الرجل قد بدأ بنقل نصوص أفلاطون وأرسطو الى اللاتينية وبقيت ترجماته مهملة ولم يستبعد المسيحيون ترجمة الفلسفة الا في عصر النهضة. ومعلوم ان الامبراطور المسيحي الشرقي جوستينيان هو الذي اغلق سنة 529 آخر مدارس الفلسفة في أثينا، فلاذ الفلاسفة بالامبراطورية الفارسية الساسانية فراراً من الاضطهاد، وتكونت حلقات صغيرة واصلت شرح النصوص الفلسفية على اراض اصبحت بعد سنوات تحت سيطرة المسلمين. وكان قيام الدولة العباسية فرصة غير متوقعة لاستعادة النشاط الفلسفي، في الوقت الذي كانت الكنيسة المسيحية الغربية أبعد ما يكون عن الاشتغال بذلك. فقد سعى الخلفاء العباسيون الكبار الى تشجيع تعاطي الفلسفة وترجمة نصوصها وأهم هؤلاء المأمون (813-833) الذي اسس «بيت الحكمة». فاستردت الفلسفة نشاطها بعد ان كانت مهددة بالانقراض. وكان للمسيحيين دور مهم في احتضان الفلسفة، لكنهم ليسوا مسيحيي البابا بل هم العرب رعايا الدولة الاسلامية الذين عملوا تحت حماية الخلفاء العباسيين وبتشجيعهم. وامتزجت الفلسفة باللاهوت الاسلامي (علم الكلام) امتزاجاً شديداً واستعمل كل اللاهوتيين المقولات الفلسفية الاغريقية والقياسات الارسطية. ولئن قام المتوكل (847-861) بالانقلاب المعروف ضد اللاهوت العقلاني، وقد مثله المعتزلة، فإن اثر ذلك لم يدم طويلاً، اذ سرعان ما سيطرت الاسر ذات الاصل الفارسي على مقاليد الدولة العباسيبة وفسحت مجدداً مجال النشاط الفلسفي، وتعربت الفلسفة وبلغت وجهاً مشرقاً مع ابن سينا (980-1037) وجيله.اما اوروبا المسيحية فقد فقدت كل نشاط فلسفي في تلك الفترة الى ان استعادت مصادرها الاغريقية بفضل العرب واليهود. وكانت كتب ابن سينا الفلسفية والطبية تدرّس في الجامعات الغربية. ثم كان الحدث الاهم انتشار فلسفة ابن رشد، وقد فهمت في الغرب فهماً مختلفاً عن اصلها العربي، فأصبحت عنوان التحرر الفكري في بداية النهضة الأوروبية. وقدمت الرشدية لأوروبا فائدتين، اولهما الاطلاع بأقرب ما يكون الى الدقة على فلسفة ارسطو وثانيهما التفكير بعمق في قضية العلاقة بين الدين والعقل (أي الفلسفة). ولم تكن الكنيسة راضية على مزاحمة الفلسفة للاهوت، وفي سنة 1277 اتخذ اسقف باريس اتيان تمبييه، بإشارة من البابا يوحنا بولس الحادي والعشرين، قراراً بإدانة الفلسفة الارسطية والرشدية ومنع تدريسها في جامعة باريس التي كانت اهم قبلة للاهوتيي اوروبا. وهذا التاريخ قريب كما نرى من تاريخ المجادلة التي استشهد بها البابا. وقد أدين عدة لاهوتيين لاشتغالهم بالفلسفة التي كانت ممتزجة بالعرب والإسلام.وكان من حسن حظ المسيحية أن جاء توما الاكويني فأقحم الكثير من الفكر الفلسفي الارسطي في اللاهوت المسيحي تحت غطاء الرد على الفلاسفة وعلى ابن رشد (وقد سبقه اللاهوتيون المسلمون الى ذلك المسلك). ومنح هذا اللاهوتي العملاق المسيحية الغربية افضل منظومة تمتزج فيها الفلسفة بالدين، وهي المنظومة التي ظلت الكنيسة الكاثوليكية ومحتفظة بها الى الآن. وغنيّ عن القول ان المسيحيين الشرقيين لا يترفون بها، ولا البروتستانت الذين يعدونها من ضلالات الكاثوليك. وقد عاش الإكويني بين سنتي 1225-1274، فكان اللاحق في محاولة التوفيق بين الدين والفلسفة بالمقارنة بالمسلم ابن رشد (1129-1198) واليهودي ابن ميمون (1135-1204). وكان ابن رشد نفسه آخر حلقة في سلسلة محاولات قام بها قبله الكندي (ت873) والفارابي (ت950) وابن سينا (ت1037). وابن طفيل (ت1185). ونعرف ان الفلسفة لم تختف من العالم الإسلامي بعد ابن رشد لكنها تحولت باتجاه المشرق واختارت مذهب الإشراق، وقد اثبتت ذلك بصفة قاطعة دراسات هنري كربان المتميزة.ونعلم ايضاً ان توما الإكويني لم يلق منذ البداية تأييد أعلى هرم الكنيسة وموافقة كل زملائه من اللاهوتيين وواجه معارضات مختلفة. وتوما الإكويني هو الذي اتخذه المسيحيون البروتستانت بعد ذلك وحملوه مسؤولية ضياع الرسالة المسيحية الأصلية بين ركام المقولات الفلسفية، وكتب كالفن أثره العظيم «الأسس المسيحية» ليكون بديلاً عن «الخلاصة اللاهوتية». وتوما الإكويني هو الذي اتخذه الكاثوليكي الليبرالي هدفاً للنقد مع بداية القرن العشرين وكان هذا النقد مدخلاً لدفع الكنيسة لمراجعة مواقفها من مسائل عديدة وبلغ هذا المسار أوجه في مجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965).تثبت كل هذه المعطيات خطأ الرؤية الجوهرانية التي تربط القضايا بجوهر دين أو ثقافة ما. لكننا نقرّ أن النتيجة التي وصل اليها البابا ليست خاطئة كلها. إذ يبدو أنه أراد أن يشير الى أن الكنيسة قد قبلت ربط الدين بالعقل ورفض المسلمون ذلك. وفي هذا بعض الصحة لأن الكنيسة اتخذت بولس الرسول وبعض أباء الكنيسة المتشبعين بالثقافة الاغريقية وتوما الإكويني مراجع بينما تخلى المسلمون عن تراث المعتزلة وابن رشد وفضلوا الاحتكام الى الفقهاء الذين احتكروا شيئاً فشيئاً كل مجالات الفكر في الحضارة الإسلامية. ولا ينفع المسلمين أن يردوا على ذلك بان كلمة «عقل» كثيرة الورود في القرآن. لكن يؤسفنا التذكير بأن الكنيسة الكاثوليكية قد قوي تمسكها بالفلسفة الاغريقية عندما وجدت نفسها مهددة من الفكر الفلسفي الحديث الذي بدأ مع ديكارت ومالبرنش واسبينوزا والذي كان نقيضاً لتلك الفلسفة ونقيضاً للتوفيقية على الطريقة التومية. أما الثقافة الاسلامية (السنية على الأقل) فقد ظلت خارج النشاط الفلسفي منذ قرون عدة فلم تشعر بحاجة للفلاسفة القدامى منهم والمحدثين. ولئن استرجعت ابن رشد في القرن العشرين فلم يكن ذلك إلا من باب التفاخر بالتراث لا غير. وقامت محاولات للاستفادة من ابن رشد لتوجيه الفكر الاسلامي نحو العقلانية لكنها محاولات ظلت محدودة واثرها في الفكر الديني شبه معدوم. والفكر الديني السائد في الإسلام منذ قرون لم يستوعب شيئاً من الفلسفة القديمة ولا من الفلسفة الحديثة لأنه قائم على الفقه دون الفلسفة (مع استثناءات في القضاء الشيعي). لكن لا يصح القول إن الفكر الإسلامي كان يرفض الفلسفة دائماً والفكر المسيحي قد قبلها دائماً.ثمة رغبة لدى الكنيسة الكاثوليكية في منح قيمة نموذجية لإحداث محددة ومنتقاة بعناية من بين ركام أحداث كثيرة متباينة الدلالة. ولا يغيب عنّا أن ذلك يفيدها في اكثر من ناحية. فهي تثأر لنفسها من اللاهوت البروتستانتي الذي حاول أن يتابع الفلسفة الحديثة وتورط أخيراً في مآزقها وأزماتها، حتى أوشكت البروتستانتية اليوم أن تصبح، مثل الإسلام، بدون لاهوت معتمد وبدون مرجعية فلسفية رئيسة. وهي تثأر لنفسها من هذه الفلسفة فتحملها مسؤولية إبعاد الناس عن الدين وتحويلهم عن الحقيقة الالهية، كما ورد في الكتاب الأخير للبابا السابق «الذاكرة والهوية» (2005). لكننا نطالب قداسته بأن يختار لحظة نموذجية أكثر رحابة من تلك التي اختارها، كي تجمع اليهودية والمسيحية والإسلام معاً، وتعيد الاعتبار للتضامن اليهودي المسيحي الإسلامي في البحث عن توافق بين العقل والدين. واللحظة التي نراها أكثر صلاحية للتعبير عن ذلك هي تلك التي مثلها اللاهوتيون الثلاثة الكبار ابن رشد وابن ميمون وتوما الاكويني (حسب الترتيب التاريخي). ولا نطلب ذلك من موقع خشيتنا أن يغمط دور الحضارة الاسلامية في البحث عن حل توفيقي بين الدين والعقل، لأننا نعلم أن الباحثين في تاريخ الفلسفة لن يعتمدوا الرسائل البابوية لكنهم سيعتمدون دراسات المختصين الذين لا يختلفون في هذه القضية، ومنهم من كان مقرّباً من الكنيسة مثل المؤرخ المشهور إتيان جيلسن (ومنهم أيضاً خوري وارلندز اللذين استشهد بهما البابا). لكن ما يدفعنا الى توجيه هذا النداء الى سماحة البابا هو خشيتنا من إحياء الفتنة بين رجال الدين المسيحيين والمسلمين، فينمي ذلك شحنات العنف التي كان قصد البابا تحديداً الدعوة الى احتوائها.كنا نتمنى لو واجه البابا المسلمين مباشرة ينصحهم أن يستفيدوا من التجربة المسيحية الكاثوليكية في ميدان التوفيق بين الدين والحداثة ويحثهم على إدانة تبرير العنف بالدين. أما الايحاء بأن المسيحية وحدها هي ديانة العقل والتسامح، واتخاذ الإسلام نموذجاً نقيضاً لهذا الاتجاه، واختيار حادثة محملة بأقصى شحنات السلبية، والحديث عن الحاضر بنبش الذاكرة القديمة التي يتساوى فيها استعمال العنف واضطهاد العقل بين المسيحيين والمسلمين على حد سواء، فإن ذلك كله يجعل رسالة البابا غير مفهومة بل تؤدي الى عكس المقصود. واذا ما قيل ان استعمال العنف واضطهاد العقل في تاريخ المسيحية كان انحرافاً عن التعاليم الحقيقية للسيّد المسيح فإنه يتعيّن حينئذ على البابا أن يدين كلّ أسلافه من الباباوات الذين سمحوا بذلك، ولا نعتقد ذلك ممكناً. ونعلم أن الفكر الديني يراجع ماضيه بالتأويل دون القطيعة، لماذا يفتح مجال التأويل أمام الذاكرة المسيحية ولا يفتح أمام الذاكرة الإسلامية؟فالمطلوب من الكنيسة أن تشجّع المسلمين على تأويل ماضيهم بما يناسب مقتضيات العصر الحاضر، وتلك كانت بعض فوائد الحوار المسيحي الإسلامي الى حدّ الآن. ولئن كان من حق الكنيسة ان تحاول استرجاع حضورها ونفوذها في المجتمعات الغربيّة فإن من الخطير أن يكون ثمن رجوع الأتباع اليها الخوف من الإسلام، فذلك يعود بنا جميعاً الى مناخ الحروب الدينية ويهيء الى فتنة طائفية عالمية. ونحن نتفهم خوف الغربيين، المتدينين والعلمانيين، من تفاقم العنف الذي يمارس باسم الإسلام، لكننا نذكّر المتدينين منهم بالحروب الدينية في أوروبا ومذبحة سانت برتلمي، ونذكّر العلمانيين بعنف الثورات العلمانية ونتائج الصدامات القومية، ونذكرهم معاً بالعنف الذي سلّط على المسلمين باسم المسيحية والحداثة في آن واحد في فترة الاستعمار الحديث.والإرهاب لئن مارسه اليوم مسلمون فإنّ أغلب ضحاياه هم أيضاً من المسلمين. والكثير من البلدان الغربيّة قد أرسلت أساطيلها لتحارب ما تدعوه بالإرهاب الإسلامي ولم تكترث لنصيحة مانويل الثاني الذي كان يريد أن يحل قضايا السياسة الدولية بالنقاش ولا برفض البابا السابق الحرب على العراق، واذا كان الله لا يحب أن تسيل الدماء فلا شك أنه غاضب اليوم وآلاف الأبرياء يموتون في العراق وأفغانستان ولا ذنب لهم سوى أنهم أصبحوا رهينة في تلك المواجهة. واذا كانت الكنيسة لا تتحمّل وزر القرارات التي يتخذها الساسة الغربيّون فلماذا يحمّل الإسلام وزر العمليات التي تقوم بها حركات الإسلام السياسي؟ لقد أدانت المؤسسات الإسلامية الرسمية الإرهاب كما أدانت الكنيسة الكاثوليكية قتل الأبرياء في العراق، لكن صوت الحكمة لا يسمع دائماً، والعنف عنصر قارّ في السلوك البشري سواء تستّر بالدين أو بغيره.كما نتفهم رغبة الكنيسة الكاثوليكية في اعتماد مبدأ التكافؤ في حوارها مع الإسلام، وقد نبهنا القراء المسلمين منذ سنوات الى خطر سياسة الكيل بالمكيالين التي واصلتها الثقافة السائدة غير عابئة بنتائجها على المدى البعيد. فكانت تطالب بقبول المهاجرين واللاجئين المسلمين في البلدان الغربية في الوقت الذي تضيق فيه الخناق على الأقليات المسيحية وتدفعها الى الهجرة. وتنشر مراكز الدعوة الإسلامية على الأراضي المسيحية ثم تقيم الدنيا وتقعدها اذا سمعت بمبشر يعمل في الأراضي الإسلامية؟ وتبني المساجد في كل مكان من أوروبا وأميركا لكنها ترفض بناء الكنائس أو مجرد توسيعها، بل حوّلت الكثير من الكنائس التاريخية الى متاحف أو مباني ادارية. كانت سياسة الكيل بالمكيالين راسخة في الثقافة السائدة الى درجة أن كل هذه الأمور بدت عادية وطبيعية ولم تثر أي تفكير حول نتائجها على المدى البعيد«. إلا أننا نذكّر بأن الإخلال الجزئي بقاعدة التكافؤ في السنوات الخمسين السابقة كان الدافع اليه رغبة الكنيسة الكاثوليكية في التكفير عن بعض انحرافات الفترة الاستعمارية، ولا ننسى أن تجمّع فاتيكان الثاني نفسه قد عقد في مناخ تحرّر شعوب العالم الثالث من الاستعمار. ولا ننسى أيضاً أن الكنيسة الكاثوليكية قد ساندت الحركات الاستقلالية في تلك الفترة، كما ساندت القضية الفلسطينية بعد ذلك، الا انها ساندت قبل ذلك الوجود الاستعماري في البلدان الإسلامية وساندت أحياناً محاولات التنصير القسرية. والأفضل تجاوز ما يمكن تجاوزه من هذه الذكريات ومعالجة ما يمكن معالجته من القضايا الخلافيّة في إطار دورات جديدة من الحوار المسيحي الإسلامي بدل توظيف ذاكرة أحداث تدفع الى غموض المقصد واضطراب الفهم. وثمة لا شك حلول توفيقية يمكن الوصول إليها بالحوار تفادياً لانتشار فكرة صدام الأديان بعد أن انتشرت فكرة صدام الحضارات وتجنباً أن يتخذ الإسلام ذريعة لقضايا تخصّ المجتمعات الغربيّة أساساً، مثل مراجعة العلاقات فيها بين المجتمع والدولة.وأخيراً، نحن نقبل دعوة البابا الى حوار صريح بدل دورات الحوار المجامل الذي تردّى فيه الحوار المسيحي الإسلامي في السنوات الأخيرة، ومن هذا المنطلق كتبنا هذه الكلمات، فلذلك قلنا اننا لا نطلب من سماحته الاعتذار وإنما الحوار على هذا الأساس.ــــــــــــــــــــــــ[c1]* باحث في التاريخ الاسلامي والأديان المقارنة[/c]
|
فكر
لا نطلب من البابا الاعتذار وإنما استعادة الحوار الإسلامي - المسيحي وتعميقه
أخبار متعلقة