يروي أحد الوجهاء المعروفين في العراق من غير المسلمين، أنه بعد محاورات ولقاءات مع بعض أصدقائه المسلمين العراقيين، اقتنع بالإسلام وقبل دعوتهم وأراد الدخول في دينهم. ولما وقف في حفل مشهود لإشهار إسلامه بحضور كل الطوائف طلب منه التلفظ بالشهادة، ولما عزم على ذلك، أوعز إليه أهل السنة بالتوقف عند ذكر محمد رسول الله، وألزمه الشيعة بإكمال الشهادة بأن عليا ولي الله!الحالة الطائفية في العراق أدخلت الأمة أحد المسارات الخطيرة التي تضرب وجودها بوصفها وحدة يتزعمها رسول واحد ويجمعها كتاب واحد وتحمل عنوانا واحدا تحت يافطة مشتركة واحدة .وكثر الضجيج والصياح بين الطرفين وأخذ كل طرف يؤكد صحة روايته ونقص رواية الآخر ونسي الجميع أخانا وكثرت المحاجات والمناظرة، فانسل صاحبنا من المجمع تاركا الناس وغوغاءهم وصخبهم والدين وشأنه وأهله!استُدعِيَ التاريخ فجاء بجحافله كلها وزواياه الرمادية والمظلمة، وحضر معه الوعي المنقوص والتدين المغشوش والنظرة السطحية والتمسك بالقشور، وغاب ترتيب الأولويات وفقه المرحلة وارتجت الأخلاق ومنظومة القيم وغابت المساحة وتقلصت الجغرافيا وحملت معها طوابير التعقل والتدبر والاستراتيجيا!هذه القصة -وأمثالها كثيرة- تعطي الخيط الحريري ومربط الفرس للأزمة الطائفية في العراق رغم تعقيداتها ودخول أطراف متعددة إقليمية ودولية ومحلية في أجنداتها وحساباتها الضيقة والموسعة، زيادة على وجود احتلال نال من العراق وحال دون استقراره وأمنه..أصبحت الطائفية تقود الحاضر العراقي ومعركة وجوده متجاوزة كل الخطوط الحمراء وسقط الإنسان ومعه حقوقه، وخرج علينا مارد من أعماق أعماق التاريخ، ظنناه ميتا وظنه البعض نائما فأيقظوه فكانت الفتنة وكان البوار!الحالة العراقية لم تعد محلية ولا حتى إقليمية ولا حتى دولية ولكنها دخلت المشاعر والعواطف وضربت موطنا في المخيال الإسلامي عموما والعربي خاصة.لم يكن الكلام عن طوائف المسلمين لدى عامة الناس محل حديث يومي أو أمسية شعرية أو لقاء أسري، لم يعرف العديد تقسيمات تاريخهم الصعب إلا من خلال دراسات مختصة أو دردشات متقدمة جمعتها جامعات وندوات ضيقة ولم تتعد أعتاب هذه الملتقيات، وانحسرت غالبا في مجموعة بحاثة وعلماء..لم ينتبه بعض العامة إلى أنهم ينتسبون إلى مذهب ديني يختلف عن الآخر إلا لما رأوا بعضا من المتطرفين يحملون في يد قرآنا كريما وفي اليد الأخرى سيفا أو مسدسا ويرفعون لافتة كتب عليها بخط عربي أصيل نحن سنة مسلمون وما سوانا باطل كافر، تقابلهم في المرآة نفس الوجوه ونفس الحالة ونفس الكتابة مع بعض التغيير البسيط.. نحن شيعة مسلمون وما سوانا باطل كافر..كانت الثورة الإسلامية في إيران ثورة كل المسلمين، وكانت المقاومة اللبنانية مقاومة كل المسلمين، وكانت النجاحات أو الانتصارات هنا وهناك انتصارات ونجاحات كل المسلمين، لم يخطر ببال العامة من الناس أن أمامهم دولة شيعية ومقاومة شيعية، لم ينظر أهل الديار إلى أن الإمام الخميني كان فقيها شيعيا وأن نصر الله زعيم شيعي..لم تهتم العامة ولا حتى الكثير من الخاصة وهي عالمة بذلك بهذه المرجعية، كل همها أن الجميع ينتسب إلى هذا الصرح العظيم الإسلام! وأن هؤلاء الشخصيات ليسوا زعماء إيران أو لبنان ولكن زعماء أمة تبحث عن الوقوف من جديد، تبحث عن كرامة مهزوزة وتريد استعادة مجد الأجيال.كان حلما جميلا لعله لم ينته تماما، ولكنه ارتج كله وسقطت بعض أطرافه في انتظار السقوط النهائي لا قدر الله، أو الترميم وإعادة البناء من جديد.كان المشهد جميلا تبرز على أطرافه أشجار باسقات تحمل ثمارا رطبة وطيبة تؤتي أكلها ولو بعد حين، غير أنه سرعان ما ظهرت كأوراق خريف صفراء تتسارع للسقوط لتظهر الصورة عارية بدون مساحيق أو رتوش.أفاضت الحالة العراقية سمومها وتأثيراتها على المخيال الفردي والمجتمعي خارج حدودها، ورجت اقتناعاته وأيقظت العديد من الكوابيس والشياطين النائمة في كتب صفراء فاقع لونها لا تسر الناظرين، يعلو أطرافها الغبار من كل ناحية ولا ترتاح النفس إلى لمسها أو تنحية ما علق بها من رماد..فبرزت علينا خنادق حسبناها من ورق خفيف.. قتل على الهوية، سيارات مفخخة داخل الأسواق والأماكن العامة، اغتيالات للعلماء وقتل للنساء والشيوخ والأطفال، تفجير لأماكن العبادة، إجهاز على المرضى والجرحى في المستشفيات، تهجير للأسر وإفراغ البيوت والأحياء من أهلها، تشريد خارج الوطن، تفنن في التعذيب حيث اكتشف العالم ثقوب الرأس بالآلات الحادة والمثاقيب، أقوال وأفعال وأهوال يندى لها الجبين وتجعل الولدان شيبا..ثم جاء مقتل الرئيس السابق في يوم عيد وعلى ترانيم طائفية مقززة ومرعبة استفزت المشاعر والوجدان لتزيد المشهد ظلمة والخندق اتساعا وتقتلع ما بقي من جسور.خرج المارد من قمقمه وعبر الحدود واستوطن العقول والمشاعر والعواطف وظهرت العداوة بين طرفي الأمة، واستدعِيَ التاريخ من دهاليزه المظلمة، واعتبر البعض أن بني أمية لا يزالون يسكنون الشام، وأن أحفادا لهم يحملون تبعاتهم، فالثأر الثأر للحسين رضي الله عنه ولو من حفيد الجيل المائة!وحمل الطرف المقابل معوله واعتلى صهوة جواد جند الشام وفيلق عمر وخرجت مقولات الروافض والتكفير والتجهيل.. البعض يرى مقتل الحسين رضي الله عنه يحمله أحفاد عمرو بن سعد من أهل العراق ومن خارج العراق، والآخر يجيبه استفزازا وجهلا قتل يزيد رضي الله عنه الحسين رضي الله عنه!دخلت الأمة ولا شك أحد المسارات الخطيرة التي تضرب وجودها بوصفها وحدة يتزعمها رسول واحد ويجمعها كتاب واحد وتحمل عنوانا واحدا تحت يافطة مشتركة واحدة..كان التشتت السياسي لهذه الأمة رغبة أعدائها، فكانت سايس بيكو وحصل المحظور، وانقسمت إلى كيانات وتجمعات وإمارات ودول، وهي لا تزال تسعى إلى مزيد من التشرذم والتقسيم في العراق والسودان، وكأنه هذا قدرها والعالم من حولها يتجمع ويتوحد..كان التشتت الاقتصادي عنوان تخلفها، فلم تستطع ولو ببسيط الأعمال أن تكون مجمعا اقتصاديا بين أطرافها ومقومات وحدتها أسهل وأيسر، من لغة وثقافة وتاريخ مشترك..لكن هذه الأصناف من التشتت والانقسام، على خطورتها، أبقت نافذة ولو صغيرة من الأمل المعلق على الوعي غير المغشوش والعزيمة الصادقة في الأجيال القادمة، وعلى تحركات الواقع الدولي وشطحاته ومصالحه.هذه الانقسامات وإن كانت ترعاها وتدفع لها مصالح خاصة من الداخل والخارج، تنحصر في الغالب في نخب حاكمة ومجموعات تسلط تلتقي مصالحها مع مصالح لوبيات ودول، وهي تتضارب كليا مع رغبة الشعوب وإراداتها واندفاعها نحو التحرر والتوحد والتجمع والالتقاء، وهو ما يخفف المأساة ويفتح أنوار الأمل ولو كان من كوة ضيقة!غير أن التشتت الحالي المبني على المواجهة الطائفية، لم يبق في إطار ضيق من النخبة والصفوة والحكومات والمسؤولين والقادة، ولكنه يكاد ينزل في الإطار العام ويملأ العقول ويستوطن العواطف والمشاعر ويتنزل في وسط العامة ويصبح يافطة تحملها الشوارع والأزقة والبيوت، ويغدو عنوان وجود! وهنا المأساة وهنا مكمن الخطر المحدق ومربط الحالقة التي لا تبقي ولا تذر.لقد استند التشتت الحالي إلى المرجعيات الدينية في استدعاء التاريخ، واعتمد على الثوابت العقدية عند كل طرف، وعلى مبادئ مقدسة عند البعض ومعصومة عند الطرف الآخر، واختلطت الموازين والتجأ الجميع إلى مسانيده ورواياته واستدعى كتبه الصفراء واستنفر أمواته وأحياءه.وظهر الزيغ عند البعض تقربا عند الآخر، والتزكية عند طرف لؤما واعوجاجا عند آخرين، والخير شرا والشر خيرا، وولج البعض مناطق التحريم والتحليل والإيمان والكفر ودخل الجميع في أنفاق من سواد وظلمة عارمة.. وغابت النسبية وغلب الإطلاق وسقط الضحايا! ما العمل؟ لم يعد من المجدي والفعال اليوم وغدا الحديث عن مصالحة بين طرفي الأمة تستند إلى ندوات تقارب، ودعاوى أخلاقية للقبول بالآخر تعتمد على مجموعة من القيم العامة والتعويل على تفهم البعض للبعض في تميزه وخصوصياته.لم يعد كافياً اليوم الدعوة إلى اجتماعات عامة بين الأطراف والخروج من القاعات بالتقبيل والتهليل والاستبشار المغشوش المبني خصوصا على المجاملات.ولن يكون حلا ما يطرحه اليوم بعض الفقهاء والكتاب من لغة المصارحة التي لن تزيد النار إلا توهجا، والتي ستزيد في الإيذاء وتعميق الخنادق وقلع الجسور، وهذا ما شهدته أخيرا بعض الندوات وما وقع فيها من عدم تفهم وأذيات متبادلة.ولقد أخطأت بعض المحطات الفضائية ومواقع الإنترنت في فتح منابرها لما ادعته بوعي أو بغير وعي من المناظرة والمصارحة وتناطح الأفكار وضرب الرأي بالرأي بين الشيعة والسنة.ولعلي لن أكون مشطا لو زعمت أن هذه اللقاءات والحوارات كانت منبتا للحساسيات وتعميقا للفجوات وإشعالا لنيران كانت خامدة، وكم تحولت بعض الحصص التلفزية الحوارية وبعض المقالات المتقابلة إلى تشنجات وهمز ولمز وشتم مقنع.ولقد ظن البعض بكل بساطة ومثالية خاطئة أن فتح هذا الباب للتناظر يمكن أن يحل مشكلا يتشابك فيه التاريخ والسياسة والدين والعادة والتقاليد منذ أكثر من أربعة عشر قرنا مليئة بالضغائن والدماء والدموع والجور والعداوة.إن أي حوار بين الجانبين خارج الأطر الضيقة الأكاديمية الناضجة -مع أننا لا نرى له أيضا موجبا ولا نراه أولوية- حوار فاشل لأنه حوار بين تاريخين وروايتين وثابتين ومقدسين حسب كل طرف ولا يمكن أن يؤول إلا إلى غليان وانفلات وإحياء الكوابيس وتحريك المواجع وتجريم البعض للبعض تاريخا وحاضرا ومستقبلا!لقد استندت كل هذه اللقاءات والندوات إلى منهجية واضحة، تتأسس على استدعاء التاريخ وتعبيد الطريق لدخوله تحت الأضواء الكاشفة أحيانا، أو تهيئته مكنونا في الصدور أحيانا أخرى، وتقديمه ولو بلطف أو بمجاملة، ولو على طبق فضي يتلألأ بالنوايا الطيبة ومعسول الكلام..فمجرد ملامسة هذا التاريخ هو دعوة الماضي الحزين وملامسة قنابل موقوتة وفتح البعبع الحامل للمارد النائم على أصوات الكوابيس.هذه هي المنهجية الخطأ التي أثبتت عقمها وخطورتها والتي ندعو إلى تنحيتها، نريد اليوم مغادرة هذا التاريخ بسرعة، نريد الصمت، نريد أن يلتزم كل طرف بإطاره وقراءاته ورواياته وحتى شطحاته، وإذا التقينا فعلى وليمة أو مأدبة غداء.إن هذا التاريخ هو مصيبتنا إذا استعملنا قراءته ضد بعضنا البعض، وهو جزء من خلاصنا إذا أحسن كل طرف منا قراءته في إطاره وفي حدود ما يستدعيه واقعه الذاتي ومصيره، بعيدا عن لغة الاستفزاز والإثارة والبناء على ردات الفعل أو على إنهاء الآخر وعدمه.إن التعايش سلوك صامت لا ينبش في القبور ولا يدخل المقابر، سلوك يعيش اللحظة بمنطلقاتها وواقعيتها وإنسانيتها، وينظر إلى الشخص الإنسان بما تحمله لحظة وجوده من حاجة أو فضل، دون الغوص في ما وراء الصورة أو ظلها من انعكاسات وتضاريس وكهوف!إن قرآننا لم يكن قرآن شيعة أو سنة ولكنه قرآن المسلمين، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم سنيا أو شيعيا ولكنه حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين.[c1]----------------* كاتب تونسي[/c]
|
دراسات
سنتنا وشيعتنا ووجوب الابتعاد عن التاريخ
أخبار متعلقة