من يملك الشرق يملك العالمصادف هذا العام مرور 70 سنة على رحيل ضابط المخابرات البريطاني توماس ادوارد لورانس الذي عرف على مستوى العالم وفي الوثائق السياسية باسم لورانس العرب والذي كان تاريخ رحيله في 11 مايو 1935م وقد ذكر ملحق صحيفة الشرق الاوسط الصادر بتاريخ 23/11/2005م ان المتحف الحربي البريطاني قد نظم معرضاً شاملاً عنه عنوانه " لورانس العرب .. الحياة والاسطورة " ومن ضمن ما قدمه هذا المعرض وثيقة للورانس مكتشفة حديثاً وكانت قد قدمت عام 1918م وضع فيها عدة مقترحات لاعادة تشكيل الشرق الاوسط كما ابدى اعتراضه على تأسيس العراق الحديث والذي اسس عام 1921م وهو تحت سلطة الانتداب البريطاني وكان من رأي لورانس تشكيل حكومة منفصلة في المناطق التي يسيطر عليها العرب وحكومة اخرى في منطقة الاكراد ونحن هنا نقف امام بعض الاحداث والافكار في حياة هذا الرجل الذي ما زالت اعماله وتصوراته حول العالم العربي تلقى في الغرب الكثير من الادراك والوعي وبالذات في هذه المرحلة التي يشهد فيها العالم العربي تنفيذ مشروع الشرق الاوسط والتقسيم حسب المصالح .نجمي عبدالمجيديقول الكاتب عبدالرحمن منيف في كتابه الديمقراطية اولاً الديمقراطية دائماً وفي الفصل الذي عنوانه من لورانس إلى شوار زكوف : »ان روح لورانس رغم الكثير من الملابسات والغموض او ربما بسبب ذلك لا تزال هي الموحية والمسيطرة على الكثير من الغربيين خاصة القادة العسكريين والسياسيين وهذه الروح هي مزيج من تصفية العلاقات مع التاريخ خاصة تاريخ العصر الوسيط وتأكيد لتفوق الغرب ليس فقط من الناحية التكنولوجية وانما من البنية العقلية وايضاً لتأكيد التميز بين الشمال والجنوب بين الشرق والغرب وبالتالي حق الغرب في اعادة صياغة العالم ضمن نسق يلائمه ويحقق مصالحه «. من المنطلق الموضوعي لسياسة بريطانيا تجاه العالم العربي ومشروع تقسيم المنطقة حسب مناطق المصالح والنفوذ واهميتها في دائرة الصراعات الدولية اطلق لورانس عبارته الشهيرة " من يملك الشرق .. يملك العالم . فكانت بداية الرحلة من مركز صناعة القرار بريطانيا الى ساحة التنفيذ جزيرة العرب واولى خطواته على شاطئ جدة بتاريخ 19 اكتوبر عام 1916 فكان الوصول وكانت اوليات الاهداف نحو تقسيم المنطقة من ضرب الوجود الاسلامي كدولة متمثل بالخلافة العثمانية وبيع الاوهام للعرب من خلال الوعود بالحرية والاستقلال والتقدم . بتاريج 10-6-1916م انتهت المراسلات بين شريف مكه الحسين بن علي وما كما هون المعتمد البريطاني في مصر وكان الشريف حسين قد حدد موقفه الى جانب الحلفاء ضد المانيا وفي 7 شعبان 1334هـ قام الامير فيصل واخوه عبدالله وهما ابنا الشريف حسين بمهاجمة الجنود الاتراك في اطراف المدينة المنورة، عين الامير فيصل قائداً للقوات العربية التي زحفت من مكة شمالاً نحو العقبة وكان يرافقه في هذا التحرك العسكري ضابط المخابرات البريطاني لورانس وقد تمكنت قوات الامير فيصل من الوصول الى العقبة واحتلالها وجعلها قاعدة عسكرية له وفي الوقت ذاته تمكنت قوات الحلفاء بقيادة الضابط البريطاني إلنبي وبمساعدة بعض القبائل العربية من احتلال جنوبي فلسطين وبعد ذلك قام الانجليز بمتابعة خطتهم والتي تهدف الى : 1 - ان يتابع جيش إلنبي زحفة الى فلسطين بهدف احتلالها ودخول القدس. 2- ان يستمر جيش الامير فيصل في تقدمه الى شرقي الاردن ومنها الى دمشق . كل ذلك كان يهدف الى ابعاد جيش الامير عن فلسطين ودخول القوات الغربية تمهيداً لاقامة وطن لليهود فيها وتنفيذاً للمخطط الذي رسمته الحركة الصهيونية العالمية وعملت على دعمه كل من بريطانيا وفرنسا وقد تمكن جيش إلنبي من احتلال غزة والخليل وبيت لحم ويافا ثم القدس في شهر صفر عام 1336هـ الموافق كانون الاول 1917م وكما تقدمت قوات الامير فيصل في شرقي الاردن واتجهت شمالاً فاحتلت مدينة درعا وتابعت تقديمها باتجاه دمشق وهنا اصر الانجليز على ان تدخل قواتهم المدينة جنباً مع قوات الامير فيصل . يذكر السفير البريطاني في ايران من 1939حتى 1946م السر ريد بولارد كيف لعبت الدوائر الغربية بمصير العرب واقامة دولة لليهود على ارضهم " لم تعد زيارة فيصل لمؤتمر السلام المنعقد بباريس في اوائل عام 1919م بالفائدة المرجوة على العرب فقد كان البريطانيون منشغلين بمشاكلهم كما كان الفرنسيون يناوئون مطالب فيصل فشجع هذا الوضع اليهود لان يغتنموا الفرصة محاولين الحصول على اعتراف من فيصل بمطالبهم في فلسطين وقد ادت محاولتهم تلك الى توقيع اتفاق في الثالث من كانون الثاني من قبل فيصل نيابة عن مملكة الحجاز العربية والدكتور وايزمان نيابة عن المنظمة الصهيونية ومما جاء في تلك الاتفاقية اقامة علاقات دبلوماسية بين دولة العرب وفلسطين والسماح بالهجرة الى فلسطين وفي هذه المناسبة نود ان ننوه بان تلك الاتفاقية نصت ايضاً على ان أي خلاف ينشأ بين الطرفين المتعاقدين يجب ان يعرض على الحكومة البريطانية للفصل فيه . ومما يجب الا يغفل عنه ان الاتفاقية ذيلت بتوقيع فيصل مع الملاحظة التالية : انه يوافق على الاتفاق في حالة واحدة فقط وهي اذا ما حصل العرب على استقلالهم كما هو معروف في المذكرة المقدمة الى وزارة الخارجية في الرابع من كانون الثاني و لابد ان تكون الرابع من الثاني سهوا يعني به الاول من كانون الثاني وهو التاريخ الذي قدم فيه فيصل مطالبيه الى مؤتمر السلام والتي تضمنت ان الدول يجب الا تتخذ أي قرار يحول دون تحقيق الاتحاد بين سوريا والعراق وفلسطين بادارة حكومة ملكية واحدة ذلك الاتحاد الذي يجب ان يضمن للعرب ازالة الحدود بين هذه الاقطار وتوحيد طرق المواصلات واسبابها واتباع نظام تعليمي موحد وكما لا يخفى ان هذه المطاليب لم تتحقق الامر الذي يجعل اتفاق فيصل وايزمان كأن لم يكن . في مجريات تلك الاحداث اين كان موقع لورانس هذا التساؤل يجيب عليه الكاتب زهدي الفاتح صاحب كتاب لورانس على خطى هيرتزل والذي يقول فيه ان لورانس كان صهيونياً وقد خدم اليهود والمشروع الصهيوني في العالم العربي وانه كان اشد عداء للاسلام والمسلمين وكل هذا يعرف من خلال الاوضاع التي دخلت بها منطقة الشرق الاوسط بعد الحرب العالمية الاولى 1914-1918م . كما يذكر الكاتب محمد نمر المدني في كتابه لورانس وعبور الصحراء حقيقة لورانس العرب ودور المخابرات البريطانية في الثورة العربية الاهمية التي تلعبها مؤسسة الاستخبارات البريطانية في السلم والحرب ومهمتها تكون في جمع المعلومات في المجالات العسكرية والسياسية والجغرافية والاقتصادية وغيرها من المعارف وقد عرف عنها بأنها اوسع مؤسسة تجسس في العالم ولما قامت الحرب العالمية الاولى في تشرين اول عام 1914م وحان الوقت للاستفادة من لهم خدمات وخبرات ممن هيئوا الخدمة المجهود الحربي تم استدعاء لورانس حيث كان الوقت مناسباً لاستخدامه في سوريا وهي القطر الذي كان من المفروض العمل به . وعند قيام الحرب العالمية الاولى استدعي لورانس للعمل في القاهرة ضمن دائرة الاستخبارات العسكرية بأمرة الجنرال كليتن وبالعودة الى كتاب لورانس اعمدة الحكمة السبعة والذي بدأ كتابته في اوائل عام 1919م نتعرف على وجهة نظر لورانس نحو العرب والمسألة الشرقية من خلال رؤيته للوضع الجغرافي لهذا المكان ومن منطلق هذا التعرف القائم على الصلة بين المصلحة الغربية والهدف الشرقي نستشفه من هذه الكلمات المعبرة عن طرق العمل السياسي الانجليزي مع الواقع العربي حيث يقول : اذا لبست اللباس الشرقي كن شرقياً بكل معنى الكلمة اترك على الساحل كل ما هو انجليزي وتبن العادات الشرقية بكاملها . نتعرف من خلال هذه الكلمات على نوعية العمل السياسي عند لورانس تجاه الشرق فالغربي القادم الى هذا المكان عليه التجرد من كل صفات الهوية الغربية والاندماج التام مع هوية الشخصية العربية وذلك ما وجد فيه لورانس المفتاح الاهم للدخول الى المركز الحساس في العقل العربي وعن هذا الفعل يقول في كتابه اعمدة الحكمة السبعة . " لقد انتدبت للعيش مع هؤلاء العرب كغريب عاجز عن مجاراتهم في التفكير والمعتقد مجبراً على تدريبهم وتوجيههم في الاتجاه الذي يتفق مع مصالح بريطانيا المتحاربة مع عدوهم واذا كنت قدعجزت عن تفحص شخصيتهم فقد نجحت على الاقل في اخفاء شخصيتي عنهم واستطعت ان اندمج كلياً في حياتهم دون احتجاج والا انتقاد وبما انني كنت رفيقهم فلن احاول اليوم وقد عدت الى ارتداء الزي البريطاني الثناء عليهم او الدفاع عنهم بل سأحرص على ان اصور الاحداث كما عشتها بالفعل . من ضمن الاساليب التي عتمدتها بريطانيا في سياستها تجاه الشرق الاوسط ما بين حلفائها العرب اصحاب البلاد وبين اصدقائها اليهود بان تقنعهما بانها الدولة الافضل لحكم فلسطين فقد كانت تخيف العرب من الخطر اليهودي وتخفيف اليهود من الاغلبية العربية وتخيف الطرفين بوجود فرنسا المرابطة بقربهم والتي كانت لديها عدة مشاريع توسعية نحو فلسطين وفي شهر شباط من عام 1918م بعت كلايتون برسالة الى لورانس يطلب فيها بتحدث مع الامير فيصل بخصوص تفاهمه مع اليهود والتعاون معهم لمصلحة الطرفين وكذلك رسالة مارك سايكس الى فيصل والتي يقدم فيها النصح له وللقادة العرب بان يتبوا سياسة التفاهم والتعاون مع اليهود وفي عام 1918 م مر وايزمن من مصر وهو ذاهب الى فلسطين حيث اجتمع بعدد من زعماء سوريا بهدف تهدئتهم وعندما وصل الى القدس عمل مع كلٍمن ستورس وكلايتون للجمع بينه وبين زعماء من فلسطين وفي شهر شباط عام 1918م عندما كانت اللجنة الصهيونية في فلسطين ووايزمن ينزل ضيفاً على القائد البريطاني اللنبي في مقر قيادته طلب اللنبي من لورانس ان يطرح مقترحاً على الامير فيصل للاجتماع به في القدس للحديث بشأن الحركات العسكرية المقبلة ويذكر لورانس بان السبب الثاني لهذا الطلب هو تأمين الاتصال بين فيصل واليهود . يقول القائد العسكري صبحي العمري في كتابه لورانس الحقيقة والاكذوبة :" ان العمل الذي كلف به لورانس خلال الحرب وبعدها هو واحد .. خديعة العرب اثناء الحرب وتسهيل وقع هذه الخديعة عليهم بعد الحرب فقام بشطرها الاول في ميادين الثورة بصفة ضابط وقام بأداء مهمته في شطرها الثاني في اوروبا بصفة مترجم . وفي تلك الظروف تابعت بريطانيا سياستها القائمة على تحقيق مصالحها في المنطقة العربية وكتبت في مذكرة وجهتها الى بعض الزعماء والقادة العرب الذين كانوا يقيمون بتاريخ 16-6-1918م تعترف بما يلي . بالاستقلال التام والسيادة التامة اولاً للعرب الذين يقطنون الاراضي التي كانت حرة ومستقلة وللعرب الذين يعيشون في الاراضي المحررة من الحكم التركي بعمل العرب انفسهم في تلك الحرب . الاراضي التي كانت في السابق تحت السيطرة التركية وبعد ذلك تم احتلالها من قبل جيوش الحلفاء في الحرب فقد كانت رغبة حكومة بريطانيا ان تقوم الحكومة المقبلة بهذه الاقاليم على مبدأ موافقة المحكومين وان هذه السياسة كانت السياسة التي تتبعها حكومة بريطانيا كذلك وضع اتفاقية سايكس بيكو ووعد بالفور محل التنفيذ العملي من قبل بريطانيا وجاء كل هذا على حساب الاحلام التي عاشها شريف مكة وانصاره واصرار بريطانيا على ان تكون الموصل تابعة لها ليكون العراق كله تحت سيطرتها الداخل في اطار نفوذها السياسي وكذلك فلسطين وموافقة فرنسا على ذلك مقابل ان تأخذ حصتها من نفط الموصل وان تكون دمشق وحلب والاسكندرونة وبيروت ضمن حكم الانتداب الفرنسي ويأتي كلام لويد جورج خير دليل على مشروع التقسيم للمنطقة " عندما قدم كليمنصو الفرنسي الى لندن بعد الحرب ذهبت معه بالسيارة الى السفارة الفرنسية وعندما وصلنا سألني كليمنصو عما تريده بريطانيا على وجه التحديد من فرنسا فأجبته فوراً : انني اريد ان اضم الموصل الى العراق وفلسطين من دان الى بئر السبع تحت سيطرة بريطانيا ودون أي تردد وافق كليمنصو على طلبي . اما كليمنصو فيقول :انه قبل النزول عند مطالب لويد جورج على شروط ثلاثة : 1- ان تمنح فرنسا نصيباً من نفط الموصل وذلك بتعديل اتفاقية شهر ايار 1916م . 2- ان تناصر بريطانيا فرنسا مناصرة تامة ازاء اعتراض الولايات المتحدة . 3- اذا تم الاتفاق على نظام الانتداب فان دمشق وحلب والاسكندرونه وبيروت يجب ان تقع ضمن انتداب واحد الانتداب الفرنسي . كذلك نصحت بريطانيا الامير فيصل عندما جاء الى لندن قاصداً باريس لحضور مؤتمر الصلح بان عليه ان يقبل بسيطرة فرنسا على سوريا كما اقدمت بريطانيا على تعيين هر برت صموئيل وهو بريطاني من اصل يهودي اول مندوب سام لها على فلسطين وفتح ابواب الهجرة اليها من دول العالم المختلفة لقيام وطن لليهود . بالرغم من مرور كل هذه السنوات على رحيل هذه الشخصية السياسية العالمية الا ان التاريخ والقادة والاحداث في العالم الغربي وكذلك العربي تحاول الاقتراب والكشف عن اعماله واهدافها في هذه المنطقة ودلت المعلومات الجديدة التي اشرنا لها في بداية الموضوع بان الفكر السياسي للورانس لم يقف عند حدود المرحلة التاريخية التي عاش بها بقدر ما متلك القدرة على الامتداد نحو عام اليوم وما يشهده الشرق الاوسط من صراعات وعودة للهيمنة الغربية من منطلق اعادة صياغة جغرافية العالم العربي وما زالت شخصية لورانس الاسطورية تقود مطامح الغرب نحو الشرق ومازال كتابه اعمدة الحكمة السبعة يشد عقول اهل السياسة الغربية الى المغامرة في بلاد العرب ومن جملة ما قيل عنه هذه الكلمات في مجلة العلوم السياسية " انه مستند من الطراز الاول وذو اهمية كبرى عن هذا العالم العربي الذي قد يؤدي غليانه الى رد انعكاسات عميقة على كل ما سيأتي به عالم ما بعد الحرب .