الغوغائية في الدارج المصطلحي مفردة تعبر عن عقلية إمعية قطيعية تابعة، لا مكان فيها للاستقلالية، جمعية لا محل فيها للانفراد، ومن هنا جاء استخدامها اللغوي كتعبير عن الجراد أو بعض الحشرات القريبة من البعوض، وهي حشرات تتحرك في إمعية و قطيعية. في المشهد الحالي مشهد الطغيان الإسرائيلي على لبنان وفلسطين تكاد "الغوغائية" أن تكون سيدة الأحكام، فكثير من الناس والمثقفين والطائفيين ينخرطون في قطيعها بلا وعي ودون قدرة على التوقف ومساءلة الذات. حين نعود القهقرى لسنوات قليلة خلت، ونقف على المشهد العربي والإسلامي بعد "غزوة منهاتن" كما تسميها "القاعدة" و"القاعدون" من مؤيديها، نجد أن الغوغائية كانت سيدة الأحكام حينها، تاه العقل في دهاليز السخط والغضب على الإدارة الأميركية وغطرستها وظلمها وتجبرها، وظهرت على السطح كائنات فضائية وصحفية وإنترنتية تمجّد مقاتلي "القاعدة" وتتلمظ لذة نصرٍ تتخيله، وكرامة تحلم بها. كانت تلك اللحظة لحظة حاسمة لمن يملك قلماً يعبر به أو منبراً يتحدث من خلاله، ليقول كلمة حقٍ في وجه الغوغائية المتفشية كوباء حينها، وكان خيار كاتب هذه السطور منذ اللحظة الأولى هو الوقوف في وجه هذه الغوغائية ومحاربتها وتتبع جذورها في التراث العلمي والفكري وفي البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أنتجتها وسمحت بأن تثمر دماراً تاريخياً بصورة الإسلام والعرب والمسلمين. وكان الوعي حاضراً بأن مخالفة الغوغاء قد تكلّف الإنسان الكثير، وتجعله في مرمى همجية الغوغاء التي لا ترحم ولا تعقل ولا تفكر. إن الغوغائية الحالية لا تختلف كثيراً عن سابقتها إلا أنها هذه المرّة، ولمن يحبون قراءة المشاهد بالألوان الطائفية، قدر لها أن تكون غوغائية بلون شيعي الطائفة، فحل "حزب الله" محل "القاعدة" في الغوغائية السابقة، وأصبحت "آيات إيران" بديلاً لملالي "طالبان"، والغوغائيون في خلفية المشهد لا يلبسون اللباس الأفغاني بل يتزينون بالعمامة!. تنوّعت الغوغائية وتطوّرت في منبت الجهل والغضب والعاطفة، وأصبح التعقّل تهمة والموقف المستقل جريمة، ووضع النقاط على الحروف عيّا وفهاهة، وأصبحنا بعد الغوغائية الكتابية، نسمع غوغائية إذاعية، ونشاهد غوغائية فضائية، ونتابع غوغائية إنترنتية، وتكاثرت الغوغائيات علينا، بعضها يأخذ شكل انتصارات أحمد سعيد، وبعضها يأخذ "علوجية" الصحّاف، وجميعها تسوّق الوهم وتخبئ رؤوسها في رمال القضية والمبدأ وقدسية المقاومة وجلاء ووحشية التجبر الإسرائيلي، فكان المجال رحباً لصقل الحناجر وسلّ الخناجر، ومزادات الشتائم العلنية ارتفع سوقها ورخصت أسعارها. بعد المقالين اللذين كتبتهما حول "حزب الله" وارتباطاته الإقليمية وتحيّزه لأجندة غير لبنانية وغير وطنية، قدّمت فيها رؤية خاصّة، أحسب أنها تعبر عن موقفي الشخصي وقناعتي الذاتية دون أن ألتفت لمزايدات المزايدين وغوغائية الغوغائيين، انهالت عليّ بعدها الرسائل الإلكترونية بعضها يشتمّ وبعضها يتحدى وبعضها يهدّد بمهدي سيخرج ليقضي على أمثالي فضربت عنها صفحاً، لأنني أحسب أن كثيراً من الكتّاب تنهال عليهم مثل تلك الرسائل، ولو توقفوا عندها لما خطّوا سوداء في بيضاء قط، ولأعاقتهم بنيّات الطريق عن إكماله والوصول إلى نهايته. إلا أن ما أزعجني كان رابطاً إلكترونياً أرسله لي صديق لمقالة نشرت في موقع شبكة راصد الإخبارية، كتبتها الدكتورة صفاء الصالح، فقرأتها وشجعني على الردّ عليها ومحاورتها أسلوب كتابي راقٍ تمدّه ثقافة واسعة وقلم سيّال. من حقّ الدكتورة أن تختلف معي وبالتأكيد من حقي أن أختلف معها، أحسب أن هذه مُسّلمّة مبدئية بيننا، لكن ما أزعجني قبل الدخول في تفاصيل مقالتها أنها بنت مقالتها على مسلّمة لديها تصنفني فيها بأنني إنسان طائفي لا أؤمن بحقوق الآخرين ولا حريّتهم ولا حقهم في التعبير! الأزمات على طول التاريخ مرتع خصب لتعالي أصوات العاطفة وخفوت أحاديث العقل، وانسياق الدكتورة العاطفي بادٍ في حروف مقالتها كلها فقضبان مقالتها كانت عاطفية متحفزة لا عقلانية متسائلة، ولذلك جاءت عباراتها حادّة وغير منصفة، فحين أكتب حانياً ومشفقاً على "شيعة السعودية" ترى أنني رفعت "سيف التخوين" على رؤوسهم! وحين أكتب عن "حلف إيران الجديد" فاضحاً لمخطط سياسي، تحكمه المصالح ورغبات النفوذ تقرأ فيه أنني طائفي متطرف! وحين يكون كلامي في تأييد الموقف السعودي الرسمي من المغامرات غير المحسوبة تكتشف أنني مثقف سلطة!، وأنا أحدثها وأحدث من ورائها كل من يوافقها رأيها، بأنني مع حقوق الأقليات الطائفية في كل مكان، في السعودية والخليج كما في إيران والعراق، وأنني ضدّ حلف إيران الجديد ومع حقوق الدول العربية وعلى رأسها السعودية ودول الخليج في توازنات القوى في المنطقة، وأنني مع البيان السعودي الأول وأتحفظ على البيان السعودي الثاني بكل شفافية ووضوح، أقول كل هذا فقط لأضع النقاط على الحروف في كل ما أخطأت فهمه الدكتورة ومن يوافقها الرأي من كلامي. أحسب أن حوار الدكتورة صفاء الصالح معي لو دار بعيداً عن الأزمة الخانقة والعاطفة الجيّاشة، لكان له لونٌ آخر وأسلوب مغاير، لكن العاطفة حين تستحكم تزيّن للعقل مساربها وإن كانت مسارب التيه. في عماية الأزمة ولهاث المأساة تخيّلت الدكتورة أنني أرفض التعاطف مع الضحايا الأبرياء في لبنان وفلسطين، وأطمئن الدكتورة أنني دائماً مع الشعوب المظلومة والمضطهدة تحت آلة القتل المتجبرة الظالمة، سواء في أميركا أم في العراق أم في لبنان أم في فلسطين، كائنة ما كانت آلة القتل تلك، إسرائيلية أم أميركية أم إيرانية أم "سُنيّة"، إن كانت اللغة الطائفية تقرب الفهم للدكتورة الكريمة، إن هذا اللهيب الذي يشتعل في لبنان وفلسطين يكوي جوانحنا ويحرق أحشاءنا، وليس هذا موضع الخلاف ولا مجالاً للمزايدات. أعود لأؤكد أن حديثي كان عن مخطط سياسي يختلف مع المصالح الوطنية لبلدي، وكان عن منظمة عسكرية وحزب مسلّح كانت لوطني معه تجارب سيئة الذكر، وبعض من فجّروا في بلدي تدربوا في معسكراته وحادثة تفجير "الخبر" في منتصف التسعينيات ليست عنّا ببعيدة، ثمّ إن هذا الحزب منخرط في أجندة سياسية إقليمية تتناقض مع توازن القوى في منطقتنا ومع مصالح وطني، وهو حزب منحاز علناً للجانب الإيراني، الذي يحاول تغيير معادلة القوة في المنطقة، ليلغي الدول العربية من الموازنة، وهو جانب تمثل قوّته الاستراتيجية والعسكرية في المنطقة خطراً أشد علينا من صدام حسين طاغية العراق السابق، خصوصاً مع طموحات إيران النووية المعلنة، وعملياتها الاستخباراتية المنظمة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. وإنني أعود هنا لأؤكد ما قلته في مقال سابق بأن (الواجب الملحّ الآن هو بناء "مخطط استراتيجي" يواجه " المخطط الاستراتيجي الإيراني"، إن هذا المخطط الاستراتيجي العربي لم يعد حاجة فحسب بل هو ضرورة، ولم تعد ضرورته مسألة أرباح وخسائر لكنها أضحت مسألة وجودٍ أو عدم). [c1]* كاتب سعودي[/c]
|
فكر
ضد الغوغائية!
أخبار متعلقة