نبض القلم
الصوم عبادة قديمة، أقرتها الشرائع السماوية واهتدى إليها الناس قبل أن يجعلها الإسلام فريضة تعبدية للمسلمين في شهر رمضان من كل عام وليس الصوم إمساكا عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من الفجر إلى الغروب فحسب بل هو تطهير للجسم والروح والنفس، وبه يسمو الصائم إلى مرتبة الإيمان الكامل بما لله تعالى، ويعترف بنعم الخالق جل جلاله. ولم يعن الإسلام بفرض الصوم إلا لما له من حكم وأسرار وفوائد، منها تطهير المعدة وتهذيب النفس ، أما تطهير المعدة ففيها يقول الإمام الغزالي: (إن أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها خرج آدم وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتكار). فالغزالي رحمه الله يحمل على شهوة الطعام ، لأن هذه الشهوة فضلاً عما تؤدي إليه من إجهاد المعدة طوال العام، ما يترتب عليه ضعفها من عملية الهضم ، وعجز العصارات الهاضمة عن الاستمرار في نشاطها، فإن هذه الشهوة قد تفضي إلى كثير من إذلال النفس، استجابه لنداء المعدة الصارخ، لذلك كان الصوم بلاريب تطهيراً للمعدة مما تشتهيه ، ومما يؤدي بصاحبها إلى الانحلال صحياً وخلقياً. وفي ذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (ماملأً أبن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محاله فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه). لقد كانت المعدة ولاتزال مصدر البلوى للإنسان ، ومبعث الأمراض والسقام ، ولذلك فرض الصوم ليكون علاجاً لها من الأمراض المهلكة، قال النبي صلى الله عليه وسلم (صوموا تصحوا) وقال : (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لانشبع) . وقال تعالى: (وكلوا واشربوا ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين) . فالإسراف في الطعام والشراب يؤدي إلى التخمة، ويضر بالصحة، ويؤدي إلى الخمول والكسل، ومن الأقوال المأثورة: (إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة). ونفهم من ذلك أن الإسلام لم يفرض الصوم عبثاً، وإنما قصد به إفادة الصائم، وهو ما يؤكده الأطباء في أيامنا حين يعالجون بعض الأمراض بالصوم، وفي ذلك يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (لاتميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلب يموت كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء) فالرسول (ص) يبين لنا في الحديث أن الزرع إذا أصاب من الري فوق حاجته من الماء ذبلت أغصانه، وخرجت الحياة من سيقانه، وكذلك الإنسان إذا أكل أكثر من حاجته مات قلبه، وإذا مات القلب مات الإنسان ، ولهذا السبب نرى الأطباء ينصحون مرضى القلب بالإقلال من الطعام حرصاً على حياتهم، وهو ما يؤكد أن الصوم رياضة صحية بدنية، تجلب الصحة وتقوي البدن ، وتجعله نشيطاً. أما كون الصوم يهذب النفس فإنه يكبح جماح الشهوات ، ويكون ذلك بضبط اللسان ومنعه من الهذيان والفحش بالكلام البدي والغيبة والنميمة والكذب والمراء، وإبعاد السمع عن الإصغاء إلى كل ماهو قبيح وبذيء ، ذلك أن الصوم ما فرض إلا ليكون حائلا بين المرء وميوله المرذولة، ويكبح جماح النفس الأمارة بالسوء، ويربي في الإنسان أخلاق الصبر على الكفاح والثبات على المكاره، ويدربه على سلوك الأمانة في السرو العلانية. ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى حكمة الصوم في القرآن الكريم في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 183 فقوله تعالى ( لعلكم تتقون) بيان لحكمة الصوم وفائدته، فهو يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة، امتثالاً لأمره واحتساباً لأجره، فتتربى بذلك إرادة الصائم على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابه أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الصيام نصف الصبر) فالصيام أعظم مرب للإرادة ، وكابح لجماح الأهواء ، فأجدر بالصائم أن يكون حراً يعمل ما يعتقد أنه خير، لاعبداً للشهوات. ولقد عرف المسلمون الأولون هذه الحكم الجليلة للصوم ، فصاموا رمضان عن عقيدة راسخة، إيماناً منهم بحكمة الصوم وفوائده تقرباً إلى الله سبحانه وتعالى، فليتدبر المسلمون اليوم مقاصد الصوم ليكونوا كأسلافهم في قوة الإيمان والعقيدة.[c1] خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]