جبرا إبراهيم جبرا .. ودائرة التجريد الروائي
مازن توفيقبرع الروائي العربي الكبير جبرا إبراهيم جبرا في كتابة نص روائي تجريدي في نسقه، يقوم على مقدرة الصناعة الروائية عبر توسل عناصرها التقليدية أو بعضاً من التقنيات الحديثة «الشخوص، الأحداث، السرد بمستوياته: المونولوج، الفلاش باك، الحوار» بدأ بمحاولته الروائية الأولى «صراخ في ليل طويل» عام 1946م التي عبرت عن الاستيهام الرومانسي البهيج الذي ينتاب الكاتب الشاب، على قاعدة شكلانية الحرفة المستمدة من كتب السير الذاتية لكبار الكتاب الغربيين حيث الرواية هي «قلق إبداعي» و «قصة حب» و «خيانة زوجية» وأصدقاء «كتاب وفنانون أيضاً» ونقاشات عن الفن في مقاه مألوفة .. إلخ فيما لم تشكل التسميات العربية في هذه الرواية سوى أسماء الشخوص «الأمين، رشيد، سمية» أم العلاقات الديكورية المحلية، أي دلالة عضوية إلى ارتباط النص ببنية واقع محدد أو حتى الإحالة إلى علائق النص المنتهية إلى نسيج الواقع وهكذا جاء النص مغرباً.وعلى أسس مشابهة، تقوم راوية جبرا إبراهيم جبرا «الغرف الأخرى» مختارات فصول 1988م والتي جاءت مترافقة مع الرواية الأولى من حيث كونها نصاً مغترباًَ لا هوية محلية له، قام بناؤه على مفاصل مفاهيمية في ما يختص بنظرية المعرفة والسلطة، من حيث تعدد وتنوع وجهيهما والتباسهما المتواصل.لذا فإنه يمكن القول إن السياق الزمني لكتابة الرواية لدى جبرا، ثم على نحو دائري، حيث نقطة البدء تلتقي بنقطة الانتهاء «صراخ في ليل طويل» و «الغرف الأخرى» وفي تقديري في أي رواية لاحقة، أي فأن الكاتب لن يشذ عن هذا النسق في أي رواية لاحقة، أي نسق الكتابة التجريدية المغتربة التي تصلح لأي مكان،وما بين هاتين النقطتين كان عكوف جبرا على «الموضوعة الفلسطينية» من خلال التسمية وربط السياق الروائي باللحظة التاريخية بالغ الدلالة، التي تجلت في رواياته الثلاث «صيادون في شارع ضيق»و «السفينة» و «البحث عن وليد مسعود» ولا تفترق شخوص هذه الروايات، من حيث الوجود الوظيفي والكيفية، عن شخوص روايته الأولى «صراخ في ليل طويل» بل جاءت امتداداً لها، فهم مثقفون «نخبويون» كتاباً أو أكاديميين وما الهوية الملصقة بهم كفلسطينيين إلا مجرد تسمية فوقية في سياق اجتماعي مفارق لا يحمل خصوصية باستثناء خصوصية المكان ذاته وهي تالياً مشدودة إلى الخطة تاريخية تتلخص بالنزوح أو أنها تعيش هاجس أللانتماء إلى المكان الذي تعيش فيه، شخصيات تأتي دفعة واحدة، جاهزة ونمطية محدودة المقاسات والمواقع لا يضيف السرد المتلاحق أي جديد في تكوينها.هذه الإضافة - الموضوعة الفلسطينية - إلى النص الروائي لدى جبرا، لم تكن سوى إعادة ترتيب ظاهرة للمضمون الشكلاني، إذ أنها لم تؤد إلى خلخة بنيته الروائية السابقة أو إعادة تكوينها، انطلاقاً من تشابكات النص الواقعي، بل بقيت في حدودها المرسومة والمعطاة من قبل، والتي قد تعزى إلى «قلق» أو «هاجس ثقافي» أخذ متنفسه عبر منحى ضيق، منطلقاً من المقولة السياسية والتاريخية الجاهزة التي تربط الموضوعة الفلسطينية بمفصلي النزوح وهاجس العودة. من هنا، لا يمكن الحديث عن شخصية فلسطينية في روايات جبرا «الفلسطينية» محملة بملامحها الاجتماعية والثقافية الخاصة، التي تميزها عن أي شخصية أخرى ليست فلسطينية، بل جاءت شخصيات روائية تجريدية مغتربة ألصقت بها هذه الهوية «الفلسطينية» وربطت شكل أو بآخر إلى لحظة تاريخية حاسمة في سياق درامي أو شبه درامي (مثل موت ليلى تحت أنقاض البيت في القدس بفعل متفجرة صهيونية كما في رواية «صيادون في شارع ضيق». وبالتالي يلوح واضحاً أن الوعي السياسي المتعامي النزعة، هو الركيزة الأولية للنسق الروائي الذي تبلور، على نحو إضافي في آخر المطاف.