نبض القلم
التربية الذوقية هي تعويد النفس الاستمتاع بالجمال وتذوق كل ما هو جميل وحسن من الأشياء والأفعال وأساس على ذلك كله هو النظر الصحيح إلى ما في الكون والطبيعة من جمال فالطبيعة هي كتاب مفتوح أمام الأعين قد حوت من آيات الجمال وإحكام صنع الخالق عز وجل ما يبهر العقل ويستوقف الفكر للتأمل وفي ذلك يقول الله تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( البقرة)فإذا لم يرب الإنسان منذ الصغر على النظر إلى عجائب خلق الله تعالى من حيوان ونبات وجماد ولم يوجه فكره إلى التأمل في حسن ترتيبه وتنسيقه وبديع تقسيمه وتصنيفه ويجتهد في كشف أسراره وكنوزه فقد حرم لذة لا تعادلها لذة ضاعت منه متعة ومسرة التذوق للجمال والتي هو بحاجة إليها مثل حاجته إلى الطعام والشراب فإن السرور الذي يشعر به الإنسان حين يتذوق الجمال يعطيه قوة تحبب إليه العمل وتخفف عنه عبء الحياة فالفلاح أكثر ما يكون سعيداً حين يتذوق جمال الطبيعة التي تحيط به ببهائها وجلالها ولذلك كان الفلاحون يعودون أبناءهم منذ الصغر على التنزه في الخلوات والحقول والمتنزهات ويعودونهم على تذوق جمال الطبيعة حين يصطحبونهم إلى البراري لرعي الغنم وإلى الحقول للعناية بالأشجار والنباتات وإلى البساتين لتنسيق الأزهار والورود.ولقد أكد المربون أهمية التربية الذوقية في إعداد الناشئة منذ الصغر ومنهم ( هاربرت سبنسر) الذي قال من لم يعتد في صغره على التجوال في الخلاء وتنسيق مجموعات من النباتات والحشرات صعب عليه أن يفقه ما انطوت عليه المروج الخضراء والحقول الزهراء من رائق الشعر ورائع النظم) وقال بعضهم إن عدم تذوق الجمال منذ الصغر وإهمال تربية عاطفة حب الجمال لدى النشء يفقده السعادة ويخمد فيه شعلة الذكاء وفي ذلك ضرر بليغ بأخلاقه وسلوكه ويحول دون تكامل شخصيته.ونرى أن تكامل شخصية الناشئ يستوجب العناية بالتربية الذوقية جنباً إلى جنب العناية بالجوانب الأخرى فنحن بحاجة إلى تربية حب الجمال لدى الناشئة كحاجتنا إلى تربية حب الحق وحب الخير وحب الحياة وليس بخاف أن حب الحق يتولد عن التربية العقلية أو الذهنية وحب الخير يتولد عن التربية الخلقية أو الدينية وحب الحياة يتولد عن التربية البدنية أو الجسمية أما حب الجمال فهو نتيجة التربية الذوقية والتي من هنا ستنشأ أجيال تفتقد إلى الإحساس بالجمال وبالتالي غير قادرة على تذوق كل ما هو جميل وحسن في حياتنا وقد قال الشاعر:والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا وسبيلنا إلى التربية الذوقية هو العناية بالفنون الجميلة على اختلاف صنوفها وألوانها والتي بها يتعود النشء على الاستمتاع بكل ما هو جميل وحسن وليكن أول ما نبدأ به في هذا المجال هو تعويد الناشئة على النظر إلى الطبيعة والاستمتاع بما تحويه من جمال باهر وأهم من النظر إليها إشراكهم في التفاعل مع الطبيعة، فالإنسان لا يستطيع أن يدرك جمال الحقول الزراعية إلا إذا زرعها بنفسه وشارك شخصياً في وضع بذورها وسقيها ومراقبة نموها ولاشيء يشد العزائم ويقوي الهمم يهذب الطيع وينقي النفس كالنظر إلى الطبيعة الجميلة والتفاعل معها والتأمل في عجائب خلق الله من حيوان ونبات وجماد ولا شيء أسمى من أن يتربى الأبناء منذ الصغر على كشف اللثام عن أسرار الطبيعة وما تخبئه من كنوز بديعة فإذا ما واجه المرء فكره إلى التأمل في حسن تنسيق الطبيعة وبديع تقسيماتها وروعة تصنيفاتها فإنه ولاشك سيشعر بالغبطة والمسرة وهو ما يحبب إليه العمل ويخفف عنه أعباء الحياة ويتجلى ذلك بوضوح عند الفلاح الذي يبدو مغتبطاً باخضرار الأرض من حوله بعد المطر فتبدو عليه علامات الفرح والابتهاج لرؤية جمال الطبيعة التي تحيطه ببهائها وجلالها.ولذلك ندعو المربين في مدارسنا إلى تشجيع التلاميذ على زراعة الأشجار والحشائش في حدائق المدارس وساحاتها لتبدو خضراء ترتاح النفوس لرؤيتها بدلاً من بقائها عارية من الأشجار والنباتات كما ننصح المربين في بلادنا عموماً باصطحاب الأطفال للتنزه في الحدائق والبساتين وشواطئ البحر وتشجيعهم على النظر إلى الأزهار والطيور والحيوانات والجداول والشلالات ونحوها فمناظر الطبيعة هي خير ما ينمي في الإنسان عاطفة الجمال وتربية الذوق لديه فالنجوم الزاهرة والسحب الماطرة والسيول المتدفقة والأمواج المتكسرة كلها مناظر جميلة لا تمل العيون من رؤيتها.إنه من جراء إهمال التربية الذوقية في مدارسنا أن صارت المدارس لا تعنى بالرحلات المدرسية ولا تضعها في برامجها التعليمية ولا تخطط لها وبسبب هذا الإهمال تقلصت ساحات المدارس وخلت من الأشجار والحشائش الخضراء واختفت المناظر الجميلة من المدارس وصارت جدرانها مليئة بالكتابات العابثة وتفتقر إلى الصور والرسومات الجميلة التي من شأنها أن تقوي حاسة الذوق الفني وتنمي في التلاميذ حب الجمال لكي يستهجنوا المناظر القبيحة أينما وجدت ويتذوقوا كل ما هو حسن وجميل في الحياة.[c1]*خطيب جامع الهاشمي (الشيخ عثمان)[/c]