التناظر والطباق
عبدالله علوان(يا صبح) قصيدة من قصائد الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله البردوني، المودعة في ديوانه التاسع ( كائنات الشوق الآخر).والقصيدة ليست من قصائده المطولات، بل هي قصيدة صغيرة وأبياتها لا تزيد على ستة عشر بيتاً.[c1]1- موضوع القصيدة :[/c]وموضوع القصيدة هو (التناظر بين الإنسان والزمن والفكر)، ولكن عبر الصبح - الصبح كوحدة زمنية تلازم الإنسان بحركته المتعاقبة بين النهار والليل.فالصبح وحدة زمنية يبدأ بها الإنسان عمله ويبدأ به نشاطه العملي والعلمي، وغالباً ما يكون هذا المبتدأ محفوفاً بالبشرى وبالأمل وبالخير، خاصة عند المسلمين، بل أن (الصبح) هو من مفاهيم الزمن الجليلة كالفجر، وكالعصر.وعند مفهوم العصر، يقف مفهوم الصبح، في قصيدة البردوني (ياصبح)، ولكن بلغة مجازية، ويمعنى غير المعاني الجليلة في الإسلام وإن استخدم البردوني دلالة الجليل لبيان الفارق بين معنى الصبح المعتاد والمألوف ومعناه الطارئ على حياتنا المعاصرة، كما يقوله السياق - سياق القصيدة، وما ترتب عليه من تبدلات معاصرة ومستحدثة وتبدلات تخضع لمفهموم التطورات الرثة والمصطنعة في عصر الثورات العربية؟ أو لمفهوم التطور المعاصر الذي انسرد في أدبيات الثورة منذ بداية مجلة الحكمة، وجماعة حركة الأحرار، وحتى تاريخ قول القصيدة وهو عام 1984مويأتي في القصيدة أول ما ىأتي الإنسان موجهاً خطابه بالتناظر إلى الصبح معلناً استنكاره لحقيقة الصبح بدلالاته المعتادة ثقافياً وزراعياً، فلم يعد الصبح بداية ليوم جديد أوبداية ليوم عمل واعد بالخير أو بداية يوم يضيف إلى معرفة الناس معارف جديدة، فمثل هذا الصبح في عصر الشاعر أو عصر (سعيد) و (حذيف) ليس له أي نكهة، إنه مجرد صبح منكر وماله من قرار، ولا هو غيب يحمل في طياته أمر الله، ولا هو موسم يبشر بالأمطار والغلال، ولا هو حلم يرجى، ولا هو طيف يهدي إلى الحق ولا هو جديد ولا.. ولا، وهو مع ذلك دعي..؟ يدعي اللطف ولكنه في الحقيقة ليس باللطيف..؟ ولم يحقق أي كشف يذكر، لا بل أن الصبح هنا هو حالة تكرار للزيف، أو هو لا يضيف للحياة شيئاً:[c1]أتيت خريفاً كما جئت صيف***فلست مقيماً ولا أنت ضيفبحسب اعتيادك تمضي تجيء***وتدعى لطيفاً ولست اللطيففلا أنت غيب ولا موعد***ولا أنت حلم ولا أنت طيف..أتبدو جديداً وأنت القديم..؟***بهذا تضيف إلى الزيف زيفلماذا تولي لكي تنثني..؟***أحققت كشفاً فتدعى كشيف..؟على حالك اليوم تأتي غداً***كما جئت من ألف عصر ونيف.[/c]وهذاالمعنى مأخوذ من هلال أحمد شوقي في قوله من قصيدة (الهلال) :[c1]سنون تعاد ودهر يعيد***لعمرك ما في الليالي جديدأضاء لآدم هذا الهلال***فكيف تقول الهلال الوليد..؟على صفحتيه حديث القرى***وأيام عاد ودنيا ثمود.[/c]لكن صبح البردوني لا يختلف عن هلال أحمد شوقي، وحسب، بل يختلف أيضاً عن الصبح المألوف وعن صبح الناس المعتاد، فهو صبح لا يفيد سوى التكرار القاتل أو التكرار العبثي والممل من هنا يأتي زيفه، إنه صبح بلا علم وبلا عمل، وبلا بشرى وبلا أمل ولا يحقق أي معرفة جديدة تذكر..؟ أو هو تكرار عبثي لتكرار التكرار وتكرار التدمير.ومع الصبح يأتي ثانياً (العصر) عصرنا هذا بوقائعه الحقيقية، ولكن السلبية.فالصبح وفق منطق العصر الذي ينكره الشاعر - هو حقيقة متجددة في آن، ولكن الإنسان يجهل جمالها، لأن الناس قد اغتربوا عن الحقيقة الحياتية، وتحول الناس والحقول الزراعية إلى كائنات مغتربة تتعرض للتدمير المادي والروحي.وبمواجهة الشاعر، ينبري الصبح ليناظر الناس كل الناس وليثبت حقيقة الزيف ومظاهره، ويؤكد الظلم وأشكاله، وبلغة تدعي في الظاهر التطور والرقي، ولكنها تمارس التدمير والاستغلال البشع.[c1]وهل أنت شاهدتني يا (سعيد)***أشميتني يا (رشا) يا (حذيف).؟أمر بكم كل يوم، وما***تمرون بي ساعة أو نصيف،سآتي وقد بعتموا واديين،***وزدتم رصيفاً أمام الرصيفألم تعلنوا ثورة العدل يوماً***وطورتمو باسمها كل حيفسمنتم فيبستمو كل نام***كما تحتسي خضرة الزرع هيفدخائلكم وجر ضب على***جذ وعكمو قشرة من (جنيف)وكيف تطورتمو من ثمود..؟***أمازلتمو نسل (عاد) و (خيف)[/c]هذا المعنى مأخوذ من قول الشهيد محمد محمود الزبيري :[c1]يبهرون الدنيا بزورة موسكو***وعليهم غبار دنيا ثمود[/c]ثم يأتي ثالثاً مفهوم التطور، كمفهوم مزيف، يسخر منه الشاعر. كما في قوله :[c1]أطيارة اليوم كانت عقاباً..؟***وهل كان جد الصواريخ (سيف)..؟[/c]وفي هذا البيت نقض لقول أحمد شوقي من قصيدة (النسر المصري) :[c1]أعقاب في عنان الجو لاح..؟***أم سحاب فر من هوج الرياح..؟[/c]ولكن في بيت البردوني إشارة ساخرة إلى مشكلة القياس الدارويني الفاسد الذي يقيمه بين القرد الشبيه بالإنسان، الذي هو بنظره أصل الإنسان، وبين الإنسان الذي يتميز عن كل المخلوقات بما وهبه الله من عقل وبصيرة..؟ ثم التهكم من التشبيه الفاسد بين العقاب والطيارة في بيت أحمد شوقي في عدة قصائد (في الجزء الثاني من الشوقيات) أو التشبيه الساخر الذي يقيمه البردوني، تهكماً منه عليهم، بين السيف والصاروخ..؟ فالتطور باالأصل يجري في إطار النوع وليس خارجه، فكما إن القرد الشبيه بالإنسان غير الإنسان أصلاً وفصلاً، كذلك فإن الطيارة لاتمت بصلة إلى العقاب، ليس لاختلاف النوع، وحسب، بل ولاختلاف القوى المحركة لكليهما فالطيارة وسيلة نقل صنعها الإنسان من المعادن، أما العقاب فهو كائن من جنس الحيوان ومن نوع الطيور الجارحة، والاختلاف شاسع بينهما..؟ كذلك قل عن السيف الذي يتحرك بالكف الإنساني البسيط، هو غير الصاروخ الذي تحركه قوى فيزيائية مصطنعة تخترق الفضاء برعونة كالطيارة..؟أما الحقيقة فإنه لم يتطور في هذا الصبح سوى الأرصفة، التي أكلت البيئة الزراعية وإلا الظلم ( الحيف) وإلا التخمة (سمنتم ويبستموا كل نام..الخ) من جهة، واللهاث المدمر خلف النقود ولو على حساب الأرض والإنسان من جهة أخرى.بالإجمال تقوم القصيدة (يا صبح) على مبدأ التناظر بين الإنسان/ والزمن/ والفكر.فالشاعر وهو (الممثل الكلي للذات الإنسانية)، ينكر وينفي ما يقال عن الصبح، من أنه مثال للتجديد والكشف المعرفي، ويثبت له الزيف والعبثية (فلا جديد تحت الشمس) كما تقول ذلك قصة محمد عبد الولي (لا جديد) أو كقولهم (ليس بالامكان أحسن مما كان). هذا في الأبيات السبع الأولى، التي يخاطب الشاعر بها الصبح..!ثم يأتي الصبح من البيت الثامن، وحتى آخر القصيدة، ليدحض دعوى الشاعر، ولكن ليؤكد ليس التطور كما يدعي المعاصرون الحداثيون، وإنما يؤكد التخريب والتدمير، تدمير البيئة وتدمير الحقول الزراعية، في سبيل الإعمار العشوائي، فلا تخطيط عمراني سليم ولا أراضي زراعية سليمة.. الخ.. الخ.. الخ ولإثبات ذلك ينبري الصبح وكأنه شاهد عيان على هذا الدمار، أو أن الشاعر أراد من الصبح أن يكون الشاهد على نفسه، وعلى عصره، عبر إنكار الشاعر له.. وهذا من أبلغ الأساليب البيانية عند العرب..؟[c1]2- لغة القصيدة :[/c]أما لغة القصيدة فهي لغة مجازية، فليس الصبح هنا سوى رمز أو كناية لمعنى الثورة بمعناها الفلسفي أي التغيير، أما الغيب، في قوله (فلا أنت غيب..الخ) فكناية عن الجنة المنشودة لكل مؤمن مقابل أعماله الصالحة، أما الموعد فكناية عن المواسم الزراعية الواعدة بالغلال وبالخيرات، والحلم كناية عن الطموح الإنساني، والطيف كناية عن كل متخيل يتخيله الإنسان، وفي كل ذلك ليس للصبح، من هذه الحيوية، أي شيء يذكر، لا.. بل إن الصبح مفرغ منها تماماً..؟أما الاسم (سعيد) فهو الآخر، رمز أو كناية عن هذا الإنسان العلماني الحديث، أما (حذيف) فأصله حذيفة، رخّمه الشاعر لضرورة القافية، وهو هنا صنو العلماني، وكلاهما كناية عن التحالف الايديولوجي بين (الأخونجي والعلماني). ولكنهما الغافلان عن حركة الزمن، ناهيك عن ما يمارسان من تخريب وتدمير للحقول الزراعية باسم التطور وباسم.. وباسم.. الخ، ويقومان بالقمع المنظم للإنسان وللثقافة باسم القيم والتقاليدو..و..و.. الخ..؟أما الأسم (رشا) فهو اسم لطيف استعاره الشاعر قصداً من التراث الشعبي، ولكن لغرض التهكم من هذه الاسماء الحديثة، التي تدعي اللطافة والثقافة، ولكنها الأكثر قساوة وجهالة، بحقيقة الوجود، وأما (الواديين) فإشارة إلى الحقول الزراعية والسمنة في قوله (سمنتم.. الخ البيت) كناية عن التخمة والبدانة لأدعياء الصبح، أما (النام) فكناية عن كل كائن حي. أو هو كناية عن (الكائن والوسط) كما يقول علماء البيئة..؟أما (الهيف) فيعني الرياح اللافحة واللافعة التي تيبس الأرض والنبات، لكنه هنا كناية عن المضاربات بالأرض، أو قل كناية عن الربا المتخبط حول البنوك، وكناية عن اللهاث القاتل خلف الربح الحرام، وإذا كان (الحيف) كناية عن الجور والظلم الشديدين، فإن (الحيف) يعني ضرع الناقة، كما أنه يعني سفح الجبل،. لكنه هنا يعني الجفاف كما أنه (وبحكم تجاوزه مع عاد) كناية عن قوم ثمود الذين أهلكهم الله بسبب بغيهم وطغيانهم..؟ كذلك عبارة (وجر الضب) هي كناية عن الأوكار الحزبية، وسياستهم التناحرية البغيضة، وتآكل الخلايا الحزبية التي تشبه الضببة في أكلها لبنيها، كما أنه كناية عن الإنغلاق الحزبي والتآمرات على بعضهم بعض وعلى الشعب والدولة، أما (قشرة جنيف) فكناية عن التمظهر بمظاهر الحداثة التي تخفي الخسة والوضاعة، وتظهر النزاهة والوداعة، وكل هذا صورة أدبية صادقة عن التناقض بين المظهر والجوهر، أو بين الأدعاء وزيف الأدعاء، أو بين الحقيقة والزيف..؟وإضافة إلى مبدأ التناظر بين الإنسان والزمن والفكر تقوم القصيدة على أساليب الإنكار والنفي ثم على أسلوبي التناظراللغوي والطباق وعلى أسلوب الاستفهام الإنكاري، فمن التناظر والطباق قوله :[c1]أتيت خريفاً كما جئت صيف***فلست مقيماً ولا أنت ضيفبحسب اعتيادك تمضي تجيء***وتدعى لطيفاً ولست اللطيففلا أنت غيب ولا موعد***ولا أنت حلم ولا أنت طيفأتبدو جديداً وأنت القديم..؟***بهذا تضيف إلى الزيف زيف[/c]فالتناظر يقوم بين الخريف والصيف، وبين المقيم والضيف، وبين الغيب والموعد، وبين الحلم والطيف، أما الطباق فيقوم بين (المضيء والمجيء) وبين (الجديد والقديم) وبين (الدخائل والجذوع)، وبين (وجر الضب)، و (قشرة جنيف) ويلاحظ أسلوب الإنكار بأدوات النفي (ليس، ولا) وبأساليب الاستفهام الإنكاري عبر أدوات الاستفهام ( أ - وكيف - وهل) كما في قوله: (أتبدو جديداً وأنت القديم..الخ..الخ) وفي قوله :[c1]فكيف تطورتموا عن ثمود..؟***أمازلتمو نسل (عاد) و (خيف)..؟أطيارة اليوم كانت عقاباً..؟***وهل كان جد الصواريخ (سيف)..؟[/c]كما أن القصيدة تقوم على أساليب التشبيه كما في قوله :[c1]أتيت خريفاً كما جئت صيف***فلست مقيماً ولا أنت ضيفعلى حالك اليوم تأتي غداً***كما جئت من ألف عصر ونيف[/c]والتشبيه هنا يفيد التكرار العبثي، الذي يثبت تكرار الذهاب والإياب بدون أي فائدة تذكر فقدومه في الخريف مثل قدومه في الصيف، وهو في اليوم مثله في الغد، أما قوله :[c1]سمنتم ويبستمو كل نام***كما تحتسي خضرة الزرع هيف[/c]فهذا التشبيه، لا يفيد إلا شدة الاستغلال وجوره :- استغلال الناس واستغلال الأرض الزراعية إلى حد الإبادة والهلاك، فلقد هلكت الأراضي الزراعية بسبب سياسة الكمبرادور، وسياسة الاستثمار، وبسبب المضاربات العقارية، وبسبب التوسع العمراني المدمر للأرض الزراعية وللكائنات وبسبب الحروب الرأسمالية على العرب والمسلمين..؟[c1]3- موسقى القصيدة :[/c]تقوم القصيدة موسيقياً على بحر المتقارب مع ما يلازمه من زحافات، كالحذف، والبتر، والقبض، وهو حذف الخامس الساكن من (فعولن) فتصير إلى (فعول) هكذا :[c1]فعولن/ فعول/ فعولن/ فعول****فعول/ فعولن/ فعولن/ فعولتام/ قبض/ تام/ قبض****تام/ قبض/ تام/ قبضفيا صب/ ح غب س/ نة أو/ شهور****لنعر/ ف ماذا/ سيجري/ وكيف..؟ [/c]أما القافية فهي من القوافي المقيدة مثل (صيف، ضيف، زيف، حيف، هيف، كيف، خيف، سيف).ويلاحظ أن البحر بحركته العجلى وانتظام هذه الحركة العجلى يتلاءم مع معنى حركة الثورة وسرعة تحركها من الانقلاب على الإمامة إلى الكفاح المسلح، ثم من الكفاح المسلح إلى الاستقلال، ثم من الاستقلال إلى الوحدة.