سرقت انجازات قمة المبادرات العربية التي عقدت في الرياض هذا الاسبوع زمام المبادرة من أرباب المهاترات والمزايدات ووضعت اصحاب اللاءات في موقع دفاعي وهجومي في آن.نقلت قمة الرياض الواقعية العربية إلى مرتبة تضع المملكة العربية السعودية، بصفتها رئيس القمة للسنة المقبلة، أمام تحديات عسيرة وضرورية ذات فرص مصيرية لمنطقة الشرق الأوسط برمتها. أقحمت المسألة الفلسطينية على الأجندة الدولية بعدما كانت الذاكرة الدولية تقترب من محوها. في الوقت ذاته، ايقظت القيادتين والقاعدتين الشعبيتين في فلسطين وإسرائيل إلى عواقب استمرار عدم جهوزيتهما معاً وسوياً للسلام وللاتفاق على حل الدولتين.أبلغت الى الولايات المتحدة وأوروبا الاستعداد العربي الجماعي لنقلة نوعية في العلاقة مع إسرائيل إذا تمكنتا معاً من اقناعها بحل الدولتين بسلام. لمحت في الوقت ذاته إلى إمكان التخلي الجماعي في الساحتين العربية والإسلامية عن دعم حل الدولتين والخيار السلمي لترك المعركة تتحول إلى حرب بين الراديكالية الإسرائيلية والراديكالية العربية - الإسلامية من دون أن يكون الاعتدال العربي المنطقة الفاصلة بينهما.هذه القمة وضعت فلسطين في الصدارة، وحاولت حماية لبنان من الاحراج المهين من دون أن تتخلى قيد أنملة عن المبادئ الرئيسية التي تحمي مستقبله مثل قيام المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية فيه. وبين ما لفت الأنظار في قمة الرياض هو ذلك الجديد غير المعتاد نحو دارفور والذي تمثّل في الإقدام على طرح هذه المسألة بدلاً من تقليد اخفائها في كواليس وهوامش القمم العربية التي اعتادت دفن الرؤوس في الرمال.قمة الرياض عالجت القديم وأقدمت على جديد، وأطلقت آليات غير معتادة. أقرت أن عليها مسؤولية لعب دور في العراق ستسعى إلى تهذيبه. بعثت بمؤشرات أن دورها نحو إيران يأتي ضمن الاجماع الدولي المتنامي نحو طهران. وفي شأن المرأة، ليس صدفة أن تخاطب الشيخة هيا بنت راشد آل خليفة القمة العربية كأول سيدة تفعل ذلك، كما انها أول مرة تُوجه فيها دعوة إلى رئاسة الجمعية العامة للامم المتحدة للمشاركة في قمة عربية. وهذه رسالة أخرى مهمة أطلقتها قمة الرياض.هذه الانجازات تُعتبر حقاً انجازات فقط إذا كانت بدايات لا تُعامل وكأنها محطات وصول. ولذلك يقع العبء الأكبر على رئاسة القمة في مرحلة ما بعد القمة التي استحوذت على قدر كبير من الجهد تهيئة لانجاحها. الرئاسة ليست وحدها المسؤولة عن إدارة الملفات للسنة المقبلة التي تتولى فيها مهمات الرئاسة، لا سيما وأن أصحاب القضايا وأطراف النزاعات هم أول المطالبين بالجرأة على معالجتها. لكن رئاسة المملكة العربية السعودية في هذه السنة المعقدة ذات الفرص غير الاعتيادية، تتطلب من الرياض قيادة غير معتادة تكسر أسوار محرمات معيّنة وتشيد الأسس والهياكل الجديدة لاستقرار المنطقة.جيد ما أحرزته القمة العربية بجهود مشتركة لقيادات الاعتدال في ملف فلسطين. فتفعيل المبادرة العربية للسلام لم يأتِ بمجرد إعادة طرح مبادرة قديمة اعتمدتها قمة بيروت عام 2002. جاء التفعيل، أخيراً، برفقة آلية تنفيذ وانشاء لجنة مكلفة باجراء الاتصالات اللازمة في الأمم المتحدة ومع اللجنة الرباعية التي تضم الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا من أجل حشد التأييد للمبادرة وبدء مفاوضات جادة على أساس المرجعيات المتفق عليها.ما صدر عن قمة الرياض هو عبارة عن تكليف للمملكة العربية السعودية بلعب دور قيادي ينقل مبادرة السلام العربية إلى عتبة جديدة. الاجماع العربي على التمسك بالمبادرة وتفعيلها شمل موافقة حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية عليها، مما يجعل «حماس» الآن طرفاً في الاجماع العربي الرسمي على الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها مقابل استعدادها للانسحاب من الأراضي التي احتلتها عام 1967، أي الى حدود الهزيمة والانتصار في حرب 1967.هذه القمة استعادت المبادرة والزخم من الصفوف الراديكالية التي لا تقدم سوى الرفض والـ «لا» الدائمة. أعطت رئاسة القمة شبه ولاية لدور متجدد وجديد ومرن يحرّك الملف الفلسطيني - الإسرائيلي لإعادة طرح عملية السلام بحيث يكون الانجاز على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي هو المحفز لسلام عربي - إسلامي مع إسرائيل.الوزن السعودي المرفق بولاية عربية يأتي في فترة تشهد تحركاً جدياً للإدارة الأميركية واستعداداً واضحاً للانخراط الأميركي في دفع المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. فإدارة جورج دبليو بوش تعود تدريجاً إلى صواب الرؤية التي أطلقتها في مطلع ولاية الرئيس الأميركي في نيسان (ابريل) 2002 والتي احتوت على قيام دولة فلسطين مكان الاحتلال الإسرائيلي لعام 1967.وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس تعمل على احياء المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية متأبطة التزام الرئيس الأميركي بإحياء الجهود الأميركية بجدية. إنها تتعامل مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس كشريك للولايات المتحدة ولا تقاطع حكومة وحدة فلسطينية تضم « حماس». إنها تتحدث عن آفاق سياسية للمفاوضات وليس عن مجرد عملية تفاوض دائمة. وما تواجهه رايس من صعوبات مع الحكومة الإسرائيلية قد يؤدي بالرئيس الأميركي - المعروف بنزعة العناد في وجه من يضع العصا في دواليبه - إلى الإصرار على إسرائيل بمواقف غير معهودة.فليس صحيحاً أن فترة الـ20 شهراً المتبقية من ولاية بوش هي فترة «البطة العرجاء»، إذ أن مفاتيح صنع السياسة الخارجية ما زالت في حوزته، وهو راغب بإنجاز يختم به رئاسته. فالرئيس السابق بيل كلينتون استفاق الى عملية السلام في الشرق الأوسط في السنة السابعة من ولايته، فعقد محادثات كامب ديفيد وتقدم بـ «مبادئ كلينتون للحل» والمعروفة بـ « باراميترز» (parameters) التي عرضها للأخذ في حينه وليس لترثها الإدارة المقبلة. كذلك جورج بوش الأب، فإنه عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 في أواخر ولايته بعدما أمضى وزير الخارجية حينذاك جيمس بيكر 9 شهور من المفاوضات المكوكية بين الأطراف، وواجه صعوبات إسرائيلية كبيرة، شأنه شأن رايس الآن.رايس تواجه صعوبة أخرى تتمثل في معارضة أقطاب مهمين في الإدارة الأميركية لما تقوم به وبينهم نائب الرئيس ديك تشيني. ما سيحسم موقف جورج دبليو بوش من المعسكرين في إدارته هو المواقف العربية والإسرائيلية. ومن هنا تأتي أهمية الخطوات المقبلة في مسيرة تفعيل المبادرة العربية بتركيزها على القضية الفلسطينية وفي أطر زمنية تسرّع وتيرة التحرك نحو هدف المفاوضات الضرورية حول الوضع النهائي للأراضي الفلسطينية المحتلة ومعالجة قضايا الحدود والأمن والقدس واللاجئين.الآن، توجد على الطاولة مبادرة عربية مرفقة بآلية تنفيذ وتسويق. يوجد على الطاولة تصور دولي واضح لعناصر ومتطلبات صنع السلام في «خريطة الطريق» إلى قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل. توجد رؤية للرئيس الأميركي وعزم على احيائها واخراجها من قفص الصقور والمتطرفين داخل الإدارة الأميركية الذين نجحوا في الاقفال عليها بحجة الإرهاب. الآن، أُخرجت القضية الفلسطينية من قفص الإرهاب الذي زُجت فيه بقرار الصقور والمتطرفين الأميركيين والإسرائيليين وبمساهمة الصقور والمتطرفين الفلسطينيين. ويوجد اليوم توافق فلسطيني رسمي على القبول بالمبادرة العربية التي تنطوي على عنصر الاعتراف بإسرائيل وبحل الدولتين. ما ليس موجوداً ولا مطروحاً على الطاولة هو أي مبادرة إسرائيلية للسلام أو أي طروحات تثبت العزم الصادق على تنفيذ حل الدولتين.الاستراتيجية العربية الضرورية في هذا المنعطف تتطلب زج إسرائيل في زاوية الاختيار ليُسحب منها غطاء التظاهر برغبتها بالسلام وبحل الدولتين في الوقت الذي تثبت فيه هروبها الدائم من هذا السلام وحل الدولتين.تتطلب ابلاغ إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، أن الاعتدال العربي لن يلعب دور المنطقة الفاصلة بين التطرف الإسرائيلي والأميركي والتطرف العربي والإسلامي. تتطلب الايضاح العارم بأن سقوط حل الدولتين يعني سقوط خيار التفاوض على سلم ليحل محله خيار المقاومة لإزالة الاحتلال. تتطلب القول: فليكن. إنما ليس قبل اطلاق حملة استراتيجية تثبت الجدية العربية نحو السلام، وتحرك الرأي العام العالمي كشريك في الضغط على إسرائيل، وتنقل العلاقة الأميركية - الإسرائيلية إلى خانة مواجهة الرفض الإسرائيلي الدائم للسلام بأعذار مختلفة.هذه الاستراتيجية تتطلب من رئاسة القمة العربية الأفكار والاجراءات غير المعهودة مثل الجلوس مع اللجنة الرباعية الدولية في إطار الرباعية العربية - التي تضم السعودية ومصر والأردن والإمارات - لدفع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني نحو تنفيذ حل الدولتين في سلسلة لقاءات معهما سوية. الذين يقولون إن هذا تطبيع قبل أوانه يتناسون أن قمة مدريد للسلام عام 1991 جمعت المسؤولين السعوديين والسوريين مع المسؤولين الإسرائيليين. يتناسون أن المفاوضات على المسار السوري - الإسرائيلي جمعت وزير الخارجية الحالي وليد المعلم مرات عدة على طاولة واحدة مع المسؤولين الإسرائيليين.الجلوس مع الإسرائيليين لتنفيذ المبادرة العربية ضمن الآلية التي أقرتها القمة العربية هو أمر طبيعي ومنطقي وضروري للضغط على إسرائيل لتثبت جديتها في المفاوضات مقابل اثبات الجدية العربية في المفاوضات. هذا ليس اعترافاً مسبقاً ولا حاجة للتحدث عن اعتراف. المهم الآن لرئاسة القمة العربية أن تفعّل المبادرة العربية نحو الصلح مع إسرائيل بمفاوضات تشارك فيها ضمن الرباعية العربية وبشراكة مع الرباعية الدولية. الاعتراف يأتي لاحقاً، وليس الآن.فقمة الرياض ليست قمة اللاءات على نسق قمة الخرطوم التي أطلقت اللاءات الثلاث، لا اعتراف ولا مفاوضات ولا صلح، ولم تسفر لثلاثين سنة سوى عن المزيد من المآسي للشعوب العربية وفي مقدمها الشعب الفلسطيني. إنها قمة الجرأة على زخم جديد يزيد من عزلة الراديكاليين المتطرفين الذين تعلو ثرثرتهم وهم حقاً يتراكمون في زاوية التطويق. فلقد أخذت قمة الرياض زمام المبادرة من الراديكالية ورئاستها مسؤولة الآن عن انجاح الاعتدال وتحقيق انتصاره بهزيمة واضحة للراديكالية والتطرف الممتد من السودان إلى لبنان، مروراً بفلسطين والعراق باستثمار مباشر من إيران.إيران قُزَمت في مجلس الأمن الدولي الأسبوع الماضي بعقوبات وصفعة على الوجنتين بإجماع شمل روسيا والصين، وحتى جنوب افريقيا وقطر. البهورة الإيرانية التي رافقت أزمة الجنود البريطانيين ذكّرت بالرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي تبنى أسلوب التصعيد حتى آخر رمق قبل أن يتسلق هبوطاً بإرادته إنما مجبراً. فالجمهورية الإسلامية تثرثر بصوت مرتفع لأنها تدرك أنها فشلت في تصدير نموذجها، وأن تطويقها يتم بقرارات دولية، وأن مصيرها هو الزوال لتعود إيران إلى الساحة الدولية دولة طبيعية.وحسناً فعلت رئاسة القمة بطرحها قضية دارفور على الطاولة العربية أخيراً، بذلك قزّمت تقاليد الصمت على التجاوزات العربية بلا محاسبة.حسناً فعلت في إصرارها على المحاسبة على الاغتيالات السياسية في لبنان عبر المحكمة ذات الطابع الدولي، مؤكدة تقزيم أولئك الذين يريدون اجهاض المحكمة، وبعضهم حضر قمة الرياض. انزعاج رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود من خطاب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي - مون الذي دعا فيه إلى مساندة الحكومة اللبنانية المنتخبة شرعياً برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة بدا واضحاً في ملامح ذهول لحود. إنما ما ساهم في تقزيم لحود نفسه هو هرولته الى حليفه السوري طالباً المساعدة وخلوته مع الرئيس بشار الأسد لنصف ساعة ليقال له عملياً: كفى في هذه القمة فدمشق في موقع مقزّم تحاول هي بدورها الخروج منه بالكاد.ـــــــــــــ[c1]نقلا عن / صحيفة “ الحياة” اللندنية [/c]
|
فكر
قمة الجرأة العربية على حساب راديكاليات الثرثرة!
أخبار متعلقة