في المناقشات التي تجري حالياً حول الدولة الدينية ومناظرتها المدنية هناك فيما أرى نقطة لم يتم التطرق لها رغم أنها تشكل العنصر الأساسي لمدنية الدولة بشكل واضح لا لبس فيه كما لا خلاف عليه. وقبل الحديث عن هذا العنصر المحدد لمدنية الدولة والذي يعترف به ويتعامل معه الجميع سواء منهم المطالبون بمدنية الدولة أو أولئك المصرون على دينيتها .. أود أن أشير إلى أن مصطلح الدولة الدينية(الثيوقراطية) " كمفهوم سياسي" ظهر في الغرب فقط وتحديداً في القرون الوسطى والتي كان خلالها البابا ممسكاً بالإضافة إلى الرعاية الروحية للناس، بزمام إعطاء الشرعية للحاكم(إمبراطوراً كان أم ملكاً)، وتبعاً لذلك فقد كان مجرد إسقاط المشروعية الكنسية عن هذا الإمبراطور يعني سقوطه في أعين الناس نظرياً قبل سقوطه عملياً، وكنتيجة لهذا الدور المحوري الذي أُسبغ على راعي الكنيسة فقد كانت - أعني الكنيسة - ممسكة بزمام الإشراف على رعاية شؤون الناس كلها الدينية منها والدنيوية زعماً منها أن لها وحدها الحق في تحديد كيفية معراج الخلاص الأخروي لكل فرد منهم. هنا يمكن القول ترتيباً على (غربية) هذا المفهوم أن الحضارة الإسلامية لم تشهد مثل هذا التراتب الكهنوتي كما هو في الحضارة الغربية، وبالتالي فإن ما يترتب على هذا الاستنتاج ليس شيئاً آخر غير القول بعدم وجود دولة دينية على هذا النحو في الحضارة الإسلامية، إلا أن واقع الممارسة السياسية في الدولة الإسلامية يؤكد أن هذه الحضارة لم تخلُ من النموذج الديني للدولة الذي يترتب عليه إخضاع كافة المناشط الإنسانية للدين من إعطاء الشرعية للإمبراطور الإسلامي إلى تحديد ما يجب قراءته وما لا يجب لآحاد الناس، وهذا في تصوري هوجوهر الدولة الدينية. إلا أن مايجب أخذه بعين الاعتبار عند الحديث عن الدولة الدينية والمدنية أن أهم العناصر التي ارتكزت عليها الدولة الدينية في الماضي - سواء في الغرب أو في الإسلام - كان ما يخص هوية المنضوين تحت لوائها، ففي كلا الحالتين كان العنصر الأساسي الذي يتم الاحتكام إليه هو الدين فقط، ففي الغرب كان الفرد المعترف له بكافة الحقوق هو الفرد المسيحي (قبل الإصلاح الديني اللوثري بالذات) وأما غير المسيحي فهو أجنبي يخضع في مسألة معاملته إلى ضوابط محددة تحد من الحقوق الواجبة له كإنسان، ونفس الأمر نجده في النموذج التاريخي للدولة الإسلامية إذ أن الأخوَّة والحقوق الكاملة كانتا مقصورتين على الإنسان المسلم فقط ، أما الأقليات الأخرى فقد وضع لها الفقه السياسي الإسلامي ضوابط معينة تحدد كيفية التعامل معها في كافة البلاد المنضوية تحت حكم الخليفة أبرزها ما عرف فقهياً ب (أحكام أهل الذمة) التي تحدد حقوق وواجبات اليهود والنصارى وما ألحق بهما من أهل الديانات الأخرى مثل المجوس، أما الآخرون فكان لا يقبل منهم عادة إلا الإسلام أو السيف. ظل هذا الوضع سائداً في الغرب حتى منتصف القرن السابع عشر الميلادي عندما أنهت معاهدة وستفاليا عام 1648م آخر أشكال الدول الدينية وابتدعت مكانها الدول القومية القائمة على عنصر المواطنة القومية كعنصر أساسي بل ووحيد عند النظرة لمواطني الدولة، فنشأ مصطلح جديد قوامه الجنسية القومية، وأصبح الفرد المواطن يرمز له عند تحديد هويته ب(فرنسي - أمريكي - ايطالي - سعودي - مصري - بريطاني...الخ) هذا المصطلح تم تدشينه عالمياً على أنقاض الهوية الدينية التي تقسم مواطني الدولة إلى مؤمن وكافر، وأصبح المصطلح الجديد بمثابة دستور عالمي مفروض على كافة الدول لا يسمح لأي منها بالخروج عليه، ولعل محاولة دولة طالبان الشهيرة جديرة بالذكر هنا عندما حاولت بعث الهوية الدينية من جديد فتكفل التاريخ بالقضاء عليها سريعا. هنا يمكن القول ببساطة إن الدولة التي تعترف بنظام الجنسية (الهوية القومية) هي دولة مدنية بالأساس بغض النظر عن تدين شعبها وما تسنه من أنظمة دينية داخلية، يبقى أن نقول إنه رغم أن كافة الدول القومية المعاصرة مدنية، فإنها تتفاوت في مدنيتها داخل حدودها بالقرب أو البعد من الشكل المثالي للمجتمع المدني الخالص إلا أن المحدد الفاصل بين مدنية الدولة ودينيتها هو الهوية القومية وتلك مسألة أصبحت نظاماً عالمياً بحكم تاريخ تطور الفكر السياسي. * نقلاً عن صحيفة ( الرياض) السعودية
|
ثقافة
الدولة المعاصرة مدنية بحكم التاريخ
أخبار متعلقة