قصة قصيرة
أحس بالجوع بعد يوم طويل كئيب غابت عنه الشمس وامتلأت سماؤه بالغيوم .. كان النهار قد انتصف أو كاد، وقصد المطعم الذي تعود أن يذهب إليه في مثل هذا الوقت كل يوم بعد أن ينتهي من دراسته في الجامعة .. وبحث عن المائدة التي تعود أن يجلس إليها، ولكنها كانت مشغولة فجلس إلى مائدة أخرى قريبة منها .. ورحب به صديقه الذي يقوم بخدمته ويقدم له طبقه المفضل كل يوم.ولكنه شعر بشيء غريب يشده إلى هذا الوجه الرقيق الذي تجلس صاحبته أمام مائدته وهي أول مرة يراها فيها هنا .. ولكن ما سر هذا الاهتمام المفاجئ بها؟لقد طوى الكتاب الذي أخرجه ليقرأه واسند رأسه إلى إحدى يديه، وراح يحدق في هذا الوجه، وفجأة رآها تخرج منديلاً صغيراً من حقيبة يدها، وترفع نظارتها من عينيها وتجفف دموعها .. لقد كانت تبكي لأنها لم تقرب الطعام الذي جاؤوا به إليها .. كانت تبكي تجلس شاردة وكأنها قد ذهبت في رحلة بعيدة مليئة بالذكريات .. كل شيء تحمله عيناها الدامعتان يقول إنها تتألم !لقد وجد الشاب نفسه يمشي ويتقدم بثبات عجيب، ويقطع المسافة بين المائدتين المتقاربتين وكأنه يمضي في أطول رحلة يقوم بها .. ثم يقف أمامها فجأة ويقول بصوت هادئ صادق:(أسعدت مساء يا آنستي !) .. وحدث ما لم يكن يتوقعه .. لقد كان يخشى أن تصدمها المفاجأة فيجيء رد الفعل منها على غير ما كان ينبغي .. ولكنها ردت تحيته في هدوء غريب، وراحت تتأمله وهو واقف في مكانه حاملاً حقيبته، ثم ما لبث أن أشرق وجهها بابتسامة باهتة قبل أن تعود إلى الحديث مرة أخرى. ولكن في تحفظ.ـ هل من خدمة أستطيع أن أقدمها لك؟- نعم أن تسمحي لي بأن أشاركك هذه المائدة- ولماذا هذه المائدة بالذات؟- لأني تعودت أن أتناول طعام الغداء في هذا المكان كل يوم .. إنها مائدتي كما ترين !.- هل تريد مني أن أتركها؟-ابداً ابداً، إنها تتسع لنا نحن الاثنين .. ثم إنها لن تزدحم بالأطباق فأنا لم أطلب سوى طبق واحد.وضحكت .. واسعده أن يراها تضحك وهي التي كانت تكفكف دموعها منذ دقائق قصيرة مضت.إذن أستطيع أن أجلس؟وجلس .. وكان لابد أن يتصل الحديث.قالت: الم تنس شيئاً؟ شاب غريب يأتي إلى مائدتي ويجلس أمامي دون سابق معرفة! الا ترى في هذا خروجاً على عاداتنا وتقاليدنا ومجتمعنا المحافظ؟معك كل الحق .. أنا شاب أعد للماجستير بعد أن حصلت على الليسانس في القانون .. أعيش وحدي امي .وابي انفصلا منذ سنوات بعيدة مضت وكنت ما أزال صبياً في السابعة من عمري .. وتزوج ابي وتزوجت أمي ورزق الإثنان بأبناء وذهبت لأقيم في بيت خالتي .. ولكن حياتي الجديدة لم تطل مع الأسرة التي أنتقلت لأعيش وسطها، فقد كان زوج خالتي رجلاُ قاسياً لم أحتمل أسلوبه في التعامل مع زوجته وأطفاله .. ولم أنج بطبيعة الحال من هذه القسوة .. وتركت البيت .. وبدأت بدأت رحلة أخرى شاقة اليمة .. مشيت في طريق امتلأ بالاشواك ولكنني أستطعت أن أصل .. كان من الصعب في البداية أن ارى نهاية رحلة العذاب التي عشتها وحدي مع أحزاني .. ولكنها جاءت او اقتربت من المجيء.وسكت .. وتطلع الى وجهها فرأى بريقاً غريباً قرأ فيه معاني كثيرة ربما كان أهمها ذلك الإهتمام الواضح في نظراتها إليه وقال وهو يبتسم : أعتذر عما يمكن أن اكون قد سببته لك من ضيق، فأنا لم أقدم لك نفسي كما ترين، ولكنني رويت لك قصة حياتي .. لا أدري لماذا فعلت ذلك، ولكن ربما يكون هذا الشعور بالإرتياح الذي احسست به عندما لقيتك وكأنني أعرفك منذ سنوات بعيدة!قالت : أرجوك أن تكمل حديثك .. كيف قضيت رحلتك وحدك بعد أن تركت بيت خالتك؟ولكنها قصة طويلة .. لقد كان هذا البيت الذي تركته هارباً هو آخر مكان يمكن أن الجأ إليه، فقد طردتني زوجة أبي، وصدمت عندما وجدت والدي يقف عاجزاً مستسلماً .. حقيقة كانت أمي أكثر رحمة بي فهي لم تتخل عني بسهولة، وحتى عندما طلبت الي أن أذهب لأعيش في بيت شقيقتها، لم تنس أن تضع في جيبي مبلغاً كبيراً من المال، أستولى عليه زوج خالتي .. وقد مضت أمي تدفع وتدفع في أول كل شهر مقابل أيوائي وإطعامي .. وحتى الرسوم المدرسية كانت تدفعها لي .. ثم توقف كل شيء بعد أن انقطعت صلتي بالبيت .. وأصحابه !كنت مازلت طفلاً، أهيم في كل شارع، وشعرت بخوف هائل يحتويني وأنا أبحث عن مكان أبيت فيه بعد يوم حافل بالعمل .. كنت أقوم بكل عمل وأي عمل يطلب مني طالما انه شريف ونظيف حتى استطيع أن أكسب قوت يومي الى أن ساق القدر في طريقي رجلا طيب القلب كان عجوزاً جاوز الستين، يملك متجراً صغيراً لبيع المواد الغذائية في احد الأحياء المتواضعة، وعرض علي العمل في متجره، مقابل ايوائي وإطعامي .. وقبلت العمل على الفور .. كان يعطف علي ، وكان يقول لي دائماً كلما لقيني : أنت أبني .. أنا لم أتزوج يابني كان لي أخوة كثيرون، لم يبق منهم أحد .. وقد شاء الله أن يسوقك إلي بعد أن بلغت هذه السن لتكون عكازاً لي في شيخوختي !وهكذا سوف أظل مدينا لهذا الرجل بما وصلت إليه، فهو الذي كان يدفع لي نفقات دراستي حتى أوصلني إلى مرحلة التعليم الجامعي، وبعدها مات المسكين، وترك لي متجره الصغير، وبيته القديم المتداعي وكل ما يملك، لم تكن ثروة كما كان يظن البعض .. ولكنها كانت كافية لأنفق منها على تعليمي.قالت وهي تبتسم: هل انتهيت من حديثك عن نفسك؟ قال: لا ! إن قصتي لم تنته بعد، فقد التقيت اليوم بفتاة رقيقة لا أعرف شيئاًَ عنها، ومع ذلك رويت لها قصة حياتي كاملة .. لقد جاء دورك أنت ستكملين القصةّ!وأشرق وجهها بإبتسامة حزينة ولكن بلا دموع قالت: (أنا إنسانة تعسة تواجه اقسى ما يمكن أن تتعرض له أي فتاة .. أنا ـ ايضاً عشت تجربة مريرة لا تختلف كثيراً عن تجربتك مع والديك بل ربما كانت تجربتي أنا أكثر مرارة .. لقد مات ابي عندما كنت طفلة في الرابعة، وتزوجت امي رجلاً ثرياً فقد كانت شابة جميلة، ومضت السنون، وكبرت الطفلة وأصبحت فتاة ناضجة، وهي لا تدري أن هذه السن الحلوة التي تمر بها كل فتاة قد جرت عليها ويلات لم تكن في حسابها .. كنت طالبة وقتها في كلية الآداب، عندما جاءت الي امي في غرفتي في إحدى الليالي، وقالت لي وهي تبكي:سأكون صريحة معك يا ابنتي، إن زوجي بدأ يهيم بك .. إنني أرى في عينيه نظرات غريبة كلما رآك تمرين أمامه .. إنني خائفة عليك منه.وهل كنت ترين ما تراه أمك؟ربما ولكنني لم أكن ابداً .. لأسال نفسي ، أو اهتم قليلاً أو كثيراً بما أرى .. ولكن عين الزوجة لا تخطئ ابداً ثم إنها سيدة مسكينة، وأم لثلاثة أطفال أنجبتهم منه .. إن بيتها وزوجها وأطفالها كل دنياها .. وأنا أحب أمي ومن اجل ذلك لملمت ملابسي في اليوم التالي، وذهبت إلى بيت جدي وجدتي لا عيش معهما، فقد كنت مازلت طالبة في السنة النهائية في كلية الآداب، والحمدلله أني كنت متفوقة في دراستي الجامعية.والآن .. أين وصلت وماذا تصنعين بنفسك؟لقد أعانني الله وغداً سأتخرج، وربما أكون معيدة في الكلية .. وعادت الى دموعها ومنديلها، وافترقا على أن يلتقيا في الغد .. في المكان نفسه على المائدة الصغيرة.وجاء الغد والتقيا وتناولا الغذاء معاً، وكانت شاردة حزينة.قالت: لابد أن اذهب الآن، فلم يبق على حفل التخرج سوى ساعتين.قال: أريد أن أقول لك شيئاً مهماً قبل أن نفترق مرة اخرى .. هل تقبلينني زوجاً لك؟ابتسمت وقالت: نعم .. أنا أتمنى أن أشاركك حياتك!ربما استطعنا معاً .. أن نجد السعادة التي حرمنا منها.قالها بسرعة، وهو لا يدري كيف خرجت الكلمات من شفتيه .ثم قالت: علينا اولاً ـ أن نبحث عن عمل نرتزق منه، لأنني لا أريد أن تتكرر مأساتنا مع أبنائنا، ومدت إليه يدها تصافحه مودعة.