ليس من المُنصِف، ولست أنا المؤهل لاستدعاء تاريخ جامعة عدن ذات الأربعين ربيعاً, وعرض دوافع إنشائها ومكونات بداياتها وغيرها من الأحداث التي رافقت سنواتها الأولى.ولكن الأمر يبدو مُلحاً ومنطقياً أن يتناول ذلك منتسبو الجامعة ومحبوها في الذكرى الأربعين لتأسيسها التي تصادف هذا العام 2010م وما يعتمل فيها حالياً. والحقيقة أن ما استفزتني للكتابة حول هذا الموضوع كان مقابلة تلفزيونية ولكنها ليست أي مقابلة. فأنا لا أتذكر أنني قد “تصنمت” أربع ساعات كاملة, بما تخللتها تلك الساعات الأربع من “بريك إعلاني”, أمام أي قناة فضائية كانت أو أرضية. المقابلة كانت على قناة “دريم” الفضائية يوم الثلاثاء 2/ فبراير/2010م ,مع الدكتور أحمد زويل عالم الكيمياء المصري المولود في 26/ فبراير/ 1946م, والحائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999م، عن انجازاته العلمية الهائلة في دراسة وتصوير ذرات المواد المختلفة خلال تفاعلاتها الكيميائية والتي أدت إلى ميلاد ما يسمى بـ’Femtochemistry’ أو كيمياء الفيمتو. وهي أقل وحدة زمنية في الثانية الواحدة.ولست بصدد عرض ما ركزت عليه هذه المقابلة مع هذا العالم الكبير, شديد التواضع وعظيم الخلق. ولكن تلخيصه لأهم المتطلبات والشروط الواجب توافرها لمؤسسات التعليم العالي في الدول النامية حيث حددها بما يلي:1 - الرؤية الواضحة.2 - قوانين للحماية تضمن استقلالية صناعة واتخاذ القرارات الأكاديمية والإدارية والمالية للجامعات.3 - بنية تحتية وتمويل مستمر ( ما يسمى بالدعم المؤسسي).4 - الشفافية في الإنفاق والتي تبعث الثقة للجهات الممولة (الجهات غير الحكومية).5 - الرقابة الذاتية, (الوازع) لأساتذة الجامعات وعلمائها وباحثيها عند أدائهم لمهامهم.وهذه الشروط والمتطلبات لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلاّ بتوافرها مجتمعة. وإذا جاز لنا الربط بين ما أورده العالم الجليل أحمد زويل وما نحن بصدد الحديث عنه في سياق هذا المقال. فإنه لا حديث حول تعليم عال أو مخرجات للجامعات سواء دراسات أو أبحاث أو بشر إلاّ في حدود أهداف لن تتفق أو تتوافق مع ما هو متوقع من تلك الجامعات إلاّ مع ما يلبي حاجات مجتمع متخلف عن الآخرين وعاجز عن مواكبة تطورهم.وبنظرة فاحصة للمتطلبات آنفة الذكر، فإن التعليم العالي في الجمهورية اليمنية يواجه صعوبة حقيقية في الرنو إلى تحقيق أهداف تلبي احتياجات أي مجتمع غير المجتمع اليمني أو شبيه له. فعدا الرؤية الواضحة التي يمكن مجازاً أن تقبل بوجودها فإن بقية المتطلبات تتفاوت درجات توافرها من الصعب إلى المستحيل.إن المعضلة الأساسية لتطور التعليم العالي في اليمن والدول النامية لا تكمن في صعوبة بلوغ عالم المعلومات والمعرفة، وإن كان ذلك ليس هيناً. ولكن في التفكير الخلاّق, والتفكير النقدي ألابتكاري. وهو العامل الأكثر أهمية’ الذي إن افتقدته العملية التعليمية, أصبح الجهد المبذول لإنتاجها أقرب إلى الضياع. وتلك هي جوهر حكمة الفيلسوف الصيني العظيم كونفوشيوس التي تربُط بين التعليم والتفكير.إذاً, فالقضية المحورية للعملية التعليمية من الأساس وحتى التعليم العالي على وجه الخصوص هي التفكير.يقول الأديب والتربوي الروسي العظيم ليف تولستوي (1828 - 1910), وهو بالمناسبة أحد نبلاء روسيا القيصرية، في كتابات تربوية (1865 - ص194) “إن الوسيلة الرئيسية اللازمة لاكتساب المعلومات والمعارف هي العلاقة المباشرة بظواهر الحياة. والعلاقة المباشرة بظواهر الحياة تتطلب الحرية الكاملة”.فالحرية الكاملة إذا,ً هي الأساس الشرطي لإعمال التفكير الخلاّق والذي هو جوهر الحياة الأكاديمية والعملية التعليمية، وهي الشرط الحاسم أيضاً لاستنهاض العقل وتعزيز روح المبادرة وتوليد الأفكار وعدم تركها للمصادفات, أو الارتهان لكل ما هو سائد ومفترض، وبالتالي الانغلاق في مساحات ضيقة للتفكير تضعف ما لدى الإنسان من ملكات طبيعية وغريزية من الابتكار والحيوية.جامعة عدن، في الذكرى الأربعين لتأسيسها، ومن خلال رئاستها الحالية ممثلة بالأستاذ الدكتور عبدالعزيز صالح بن حبتور، يبدو لي أنها قد عقدت العزم وبإصرار ملحوظ على التركيز في ما لم يتم التركيز عليه في السابق، وهو ما يتعلق بالشرطين الثالث والرابع آنفي الذكر.فبرغم ضعف مصادر التمويل الحكومية وغير الحكومية للبنية التحتية لجامعة عدن إلاّ أن ما برع واجتهد في خلقه رئيسها، وبدعم سخي من مجلس أمناء الجامعة وفي مقدمتهم الشيخ المهندس عبدالله بقشان، وعقلانية توظيف ما يتاح من موارد، هو بالتأكيد مبعث للاعتزاز والفخر.والشواهد ماثلة أمام الجميع في كليات الطب البشري والأسنان والصيدلة، وكلية الهندسة، ودار جامعة عدن للطباعة والنشر، والمكتبة المركزية مثالاً لا حصراً.ما يبعث على الاحترام أيضاً، مصفوفة الأنشطة والفعاليات المركزية وعلى مستوى الكليات والمراكز العلمية للجامعة وعلى مد أثني عشر شهراً، والتي تضمنت أحدى عشر مؤتمراً وندوة وورشة علمية في مختلف مجالات وأفرع العلوم الإنسانية والتطبيقية ثلاثة منها ذات طابع دولي.ذلك عدا ما اُنيطت به جميع الكليات والمراكز العلمية للجامعة من مهام لتقييم برامجها الأكاديمية وفقاً لمعايير التقييم العالمية للإيفاء بمتطلبات الاعتماد الأكاديمي وضمان الجودة المعترف بها ووضعت لذلك دليلاً بالغ الدقة للاسترشاد به.ما يُدهش منتسبي الجامعة اليوم, هو ما ينتاب رئاسة الجامعة من قلق وحرص شديدين على إنجاح مشروع إعادة إحياء ذاكرة الجامعة. والتي يبدو أنها ولعدم إيلائها في السابق الاهتمام اللائق ضعفت إلى الحد الذي واجه فيه الجميع صعوبة الحصول على بعض من أهم وثائق تأسيسها.ليس منا نوستراداموس, ولا أحد منا بوسعه معرفة ما ستؤول إليه أوضاع الجامعة بعد عشرين عاماً. ولكن بالمقابل, لا أحد يستطيع الجزم أو أن يكون على يقين, من أنه كان بمقدوره منذ إنشاء الجامعة قبل أربعين عاماً, أن يتنبأ بما هو عليه الآن حال ذاكرة الجامعة سواء في ديوان رئاستها أو الكليات والمراكز والمعاهد التابعة لها.لم يأخذ أي من رؤساء الجامعة السابقين على عاتقه هذه المهمة. أو أن يضعها ضمن أولوياته ولكل أسبابه ومبرراته، والتي وإن تعددت, فإن العوامل الذاتية لدى بعض منهم لم تكن لتحمسهُ لخوض ما يمكن أن نسميه “المغامرة”، إلى جانب تعقيدات العوامل الموضوعية التي كان من المحتمل أن تصاحب هذا المشروع.وربما لأن الكاريزما التي يتمتع بها الأستاذ الدكتور عبدالعزيز صالح بن حبتور وهو فقيه رفيع المستوى, مشهودٌ له في علم الإدارة على المستويين المحلي والخارجي، مكنته من تقدير أهمية إحياء ذاكرة الجامعة ورفعها إلى مستوى المهام المُلِحة في أجندتهِ الواضحة لتطوير وتحسين أداء الجامعة وضمان جودة مخرجاتها.رئيس الجامعة لن يستطيع أن ينجح، إلاّ بتعاضد جهود الخيرين من قيادة الجامعة ومنتسبيها ومؤازرة المراكز له.ومنطق الأمور أن يختلف معه البعض ويتفق آخرون مع الطرائق أو الأدوات أو الأساليب التي يستخدمها لإدارة شؤون الجامعة وتوظيف مواردها المتاحة. ولكن ما لا يختلف حوله، هو وضوح رؤيته وأهدافه لمستقبلها والوقت والجهد الخرافي الذي يبذله لمتابعة دقائق وتفاصيل البرامج والمشاهدات والأحداث الهادفة رفع فاعلية وكفاءة أداء الجامعة. اليوم كليات الجامعة ومراكزها ومعاهدها إلى جانب مهامها الروتينية، تشهد ما لم تشهدهُ من قبل. نشاط دؤوب للجان تقويم البرامج الأكاديمية, التي يشارك فيها نخبة من الأساتذة والباحثين. اليوم كليات الجامعة ومراكزها ومعاهدها أصبحت تُلبى أهم احتياجاتها ومتطلباتها من معدات وأجهزة وتكنولوجيا وتقنيات في ظل شحة ما يُتاح.والذكرى السنوية الأربعون تشهد وستشهد كماً من الفعاليات والأنشطة العلمية, ما يدفع كل منصف وعقلاني إلى أن يرفع القُبعة احتراماً وعرفاناً بما يفعله وما يصبو إليه د. عبدالعزيز بن حبتور. ومؤازرته واجب أخلاقي لن يمتنع عنه إلا من يُنكِر إنه, وإلى وقت قريب جداً, لا زال يسدد فواتير المطاعم والفنادق الدائنة لجامعة عدن, والمتراكمة حتى يوم تعيينه رئيساً لها.
|
فكر
جامعة عدن – أربعون عاماً من التطور
أخبار متعلقة