يقولُ العَلاَّمةُ ابنُ خلدون في مؤلَّفهِِ « ديوانُ المبتدأِ والخبرِ في تاريخِ العَربِ والبَرْبَرِ وَمَنْ عاصرَهم مِنْ ذَوي الشأنِ الأكبرِ» والمشهور بمقَدِّمةِ ابنِ خَلدون : « إنَّ فنَّ التاريخِ مِنَ الفُنونِ التي تتداوله الأممُ والأجيالُ ... وتَتساوَى في فَهمِهِ العلماءُ والجُهَّالُ، إذْ هوَ في ظاهِرِهِ لا يزيدُ علَى إخبارٍ عنِ الأيامِ والدّولِ، والسوابقِ مِن القرونِ الأوَّلِ، تَنمو فيها الأقوالُ ... وتؤدّي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبَّت بها الأحوالُ ... وفي باطنِهِ نظرٌ وتحقيق، وتعليلٌ للكائناتِ ومَباديها دقيقٌ وعلمٌ بكَيفيّات الوقائعِ وأسبابها عميق ... وإنَّ فحول المؤرِّخين في الإسلامِ قَدِ استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطَّروها في صفحاتِ الدفاتر وأوْدعوها ... وجاء مِن بعدِهِم مَنْ عَدَلَ عن الإطلاق إلى التقييد، وَوَقَفَ في العموم والإحاطة، فقيَّد شواردَ عَصْرهِ ... واقتصر على أحاديث دولتهِ ومِصره ... ثُمَّ لمْ يأتِ من بعدِ هؤلاء إلَّا مقَلِّدٌ وبليدُ الطَّبعِ والعقلِ أو متبلِّدٌ ينسُجُ على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمنال ... وخَلَطها المتطَفِّلون وهمُّوا فيها وابتدعوها، وأدُّوها إلينا كما سمِعوها، ولمْ يُلاحِظوا أسبابَ الوقائعِ والأحوال ولم يُراعوها، ولا رفضوا تُرَّهات الأحاديث ولا دفعوها، فالتحقيق قليل، وطرف التنقيح في الغالب كليل، والغلط والوهم نسيبٌ للأخبار وخليل، والتقليدُ عريقٌ في الآدميّين وسَليل ... فيُجلِبون صُوَراً قدْ تجرَّدت عن موادِّها، ومعارفَ تُستنكر لِلجهلِ بطارِفِها وتِلادِها، إنَّما لم تُعلَم أُصولُها، وأنواعٌ لم تُعتبر أجناسُها ولا تحقَّقَت فُصولُها، يكرِّرون في موضوعاتِهِم الأخبارَ المتداولة بأعيانِها، اتِّباعاً لِمَن عُنيَ مِن المتقدِّمين بشأنِها، ويُغفِلون أمرَ الأجيالِ الناشِئة في ديوانِها، بما أعوَز عليهم من تُرجمانِها، فتُستَعجم صُحُفهم عن بَيانِها...». إنَّ تِلكَ المقتطفاتُ إنَّما هي للإشارةِ إلَى أنَّ ليْسَ كلَّ ما يُؤتَى به أوْ ما يُؤلَّفُ من علومٍ يكون صحيحاً حتَّى وإنْ ساندَها أشخاصٌ مِن ذوي الاختصاصات؛ فمعظمُها من صنعِ الإنسانِ. ومِن صفاتِ الإنسانِ البحثُ والتفكيرُ والاسْتِنتاج؛ وهَذا ما تَميَّزَ بِه عن الحيوان. فَكَم منْ نَّظَرياتٍ قد ظهرت وأُيِّدَت منْذُ القِدَمِ حتَّى يوْمِنا هذا وَسارَ عَليها مُعظمُ البشر. وفي وقتٍ ما وعصرٍ من العصور تُدْحَضُ وتَندَثِرُ فتُلقَى وتُلغَى أو تُهمَلُ. وقد تستجدُّ بدلاً عنها نظرياتٌ أخرَى أكثر نضجاً وتطوراً، فتُُؤخَذُ بها العلومُ وتسير عليها الأُممُ. وهناك العديدُ من العلوم التي تحمِلُ في أحشائِها نظرياتٍ جمةٍ ومنها تلك المبنية على التصورِ العقليِّ والبُرهانِ الفكري من خلال التعمُّق في الدراسات التاريخية وفلسفة الشعوب وعلاقاتها الاجتماعية وكذا دراسة سلوكيات أفرادها باختلاف دِياناتهِم وحضاراتِهِم وتقاليدِهم وعاداتِهم وألوانِهم وأصولِهم...الخ. ولكن في عصرِنا الحديثِ وخاصةً بعد القرن الثامنِ عشرَ الميلادي أصبحَت النظرياتُ والعلومُ تأتينا مِن فقهاءٍ وعلماءٍ غيْر مِلَّتِنا بِغَضِّ النظرِ عن صِحتِها أو خطَئِها. فالنَّاسُ علَى دينِ مُلوكِهم كما قال الأوَّلون. فَدُرِّسَت في المؤسَّسات العلميَّة والتعليميَّة بمختَلَفِ مُستوياتِها. مع أنَّ هذه العلوم في الأصْلِ علومُ العَرَبِ والمُسلِمينَ ولكن نَّحنُ مَنْ تَنَكَّرَ لَها وابتَعد عَنها ولا نَذكُرُها إلَّا فيما نَدَر. “وأهلُ المُلكِ والسُّلْطانِ إذا استَوْلوا على الدَّولةِ والأمرِ فلا بُدَّ أنْ يَلْجأُوا إلى عوائدِ مَنْ قَبْلهم”. وبعدَ احتلالِ الدُّولِ العربيَّة والإسلاميَّة مِنَ المستعمِرينَ الأجانب لمئاتِ السِّنين تأثَّرت، وفُرِضَتْ، وتوالَت عليهِم علومُ الأجنبيِّ؛ “لِأَنَّه الأقوَى. فالمغلوب دائماً مولَّعٌ بالِاقتداءِ بالغالب في سائرِ أحوالِه وعوائده والسَّببُ في ذلك أنَّ النَّفسَ أبداً تعتقدُ الكمالَ فيمن غلَبَها وانقادَت إليْه؛ إمَّا لنظَرِه بالكمال بما وَقَرَ عندَها من تعظيمِه؛ أو لِمَا تَغالَطَ ِبه من أنَّ انقيادَها ليس لغَلَبٍ طبيعيٍّ إنَّما هو لِكمالِ الغالب. ولذلك تَرى المغلوبَ يتَشبَّهُ أبداً بالغالب”. لقد نِمْنَا زمناً طويلاً رَكدَ فيه الفقهُ الإسلاميُّ وجَمُد على حالةٍ واحدة، فلا بُدَّ مِن زمنٍ نُفيقُ فيه من هذا النَّوم الذي طال أمَدُه ... بعد أن أخذْنا القوانين الفرنسيَّة قوانين لَنا وسمَّيْناها أهليَّة. صِرْنا لا نَعني إلَّا بفقهٍ أجنبيٍّ دَخيلٍ، أو فقهٍ يحتَلَّه الأجنبيُّ إذا أرَدْنا التخفيفَ من الواقعِ قليلاً. لقَدِ اجتهدَ علماءُ الغَربِ في تفسير سلوكيَّات الإنسانِ وخاصةً الإجراميَّة مِنها، والأسباب التي تدفَعُه إلى السُّلوك الإجراميِّ. فتعدَّدَتِ الآراءُ واختلفتِ النظَريَّات حَوْلَ تفسيرِ هَذه الظَّاهرة الاجتماعية، والكثير مِنهُم قد نَسيَ أو تناسَى قُدرةَ اللهِ على الخلق. فقدِ اختَصَّ أُولَئِك العلماء بالماديَّات والتقنيات الحديثة لتفسير هذه الظاهرة ولم يأخذوا من الدِّينِ إلَّا اللَّمَم. وما كان من فقهائِنا، لاسِيَّما المتقدِّمينَ منهُم، إلَّا تَلَقِّي تلك العلوم والنظريات كما هيَ ولم يُدرِكوا بلْ لم يتدارَكوا أنها ليست جديدةٌ بحدِّ ذاتِها بل هيَ امْتدادٌ لِما وَضَعَهُ الأوَّلونَ من العرب والمسلمين .. فعند قراءتِنا لمعظم كتبهِم ومؤلفاتهِم لا نجد ما يُشير إلى ذلك. وكأنَّ تلك العلوم لم تكُنْ مَّوْجودة قبلاً كعلوم النَّفسِ، والاجتماع، والاقتصاد، والطبِّ، والكيمياء، والفَلَك، والرِّياضيَّات، وغيرِها العديد والعديد. فإذا ما أخذنا مثالاً حيَّاً على ذلك سنجدُ تأييداً لِما ذُكِر قبلُ. ومثالُنا سيكون هنا عن ارتكاب الجريمة، ودور الوراثة في السُّلوك الإنساني ومنه السُّلوك الإجرامي. إنَّ العديدَ من الأساتذة اليمنيين قد ألَّفُوا كتباً لا حصْر لها في الجريمة والعِِقاب. إلَّا إنَّ بعضَهم نهجَ واتَّبعَ علماءَ الغرب في تحليلِ السُّلوك الإجراميِّ، وسَاروا على وتيرةِ أفكارهِم دونَ الالتفاتِ إلى العلوم والفلسفة الإسلاميَّة. وتناقضوا مع أنفُسهِم فيما يختصُّ بالجانب العقابي آخذينَ بالشَّريعة الإسلاميَّة؛ بحيثُ أصبحَ شتَّان ما بيْن دراسة علمِ الإجرام كنظريةٍ وعلم العقاب كتطبيقٍ عمليٍّ. والكثير منهم رَغَىَ كثيراً عمَّا قدَّمَه فلاسفةُ وفقهاءُ العصورِ القديمةِ والوسطىَ مِثلُ أفلاطونَ، وسُقراطَ، وأرِسْطو، والمتقدِّمينَ منهُم في القرن السابع عشرَ إلى القرن التاسع عشرَ أمثال سيزار لامبروزو، ودي توليو، وهوتون، وتشالرز جورينج، وآخرون مِن شاكلتهم، بِما فسَّروه عن الأخلاق وسلوك الإنسان في المجتمع. ففي كتابهِ “ النَّظريَّةُ العامَّة للجريمة “ يقول د. علي حسين الشرفي (كلية الشريعة والقانون- جامعة صنعاء) عن علم الإجرام بأنَّه:” علمٌ يبحث في الجريمة من حيث كونِها واقعةٌ اجتماعيةٌ لا من حيث كونِها مخالفةٌ قانونية، فمن المعروف أنَّ الجريمةَ هي حدثٌ اجتماعيٌّ يحتاج إلى تفسيرٍ، وذلك لا يتمُّ إلَّا بدراسة أحوالِ المجرمينَ وظروفِ الحياة التي يعيشونها، وطريقة عيشهم فيها، وكل ما يتعلق بحياتهم، بل وما يتصل بسُلالاتِهِم التي انحَدروا منها، ومن مجموع هذه الدراسات يتكوَّن علم الإجرام، فهو علم إنساني يبحث في أسباب السُّلوك الإنساني من حيث كونه حدثاً اجتماعيَّاً ...». إنَّ تلك النظرة إلى السُّلالات قد جاءت في غيرِ محلِّها؛ لأنَّها تأخذ طابعاً عُنصُرياً وعِرقيَّاً لتُميِّز البشرَ في سلوكياتهم وتصرفاتهم للحُكم عليها فيما إذا كانت بإرادتهم أو بغير إرادتهم. قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم : « تعلَّموا من أنْسابِكم ما تَصِلُون به أرحامَـكُم «؛ بمعنى « أنَّ النَّسَبَ إنَّما فائدتُه هذا الالتِحامُ الذي يُوجِب صِلَةَ الأرحام حتَّى تقع المُناصَرة والنُّعْرَةُ وما فوق ذلك مستغنىً عنْه، إذِ النسبُ أمرٌ وَهْميٌّ لا حقيقة له؛ ونَفعُه إنَّما هو في هذه الوصْلَة والالتحام. فإذا كان ظاهراً واضحاً حَمَلَ النُّفوسَ على طبيعتها من النُّعْرَة. وإذا كان إنِّما يُستفاد من الخَبَر البعيد ضَعُفَ فيه الوهْم وذهبت فائدتُه وصار الشغلُ فيه مجوناً، ومن أعمال اللَّهْوِ المَنهيِّ عنْه». ومن هذا الاعتبار معنَى قولهِم: « النَّسَبُ عِلْمٌ لا ينفعُ وجَهالةٌ لا تَضُرُّ «. إنَّ الجريمةَ في عُرفِ الشريعة الإسلامية هي « محظوراتٌ شرعيةٌ زَجَرَ اللهُ عنها بحدٍّ أو تَعزير . والمَحْظوراتُ : إمَّا إتْيانُ فِعلٍ مُنهىً عنه، أو تَرْكُ فعلٍ مأمورٌ به «. والشريعة تتَّفِق مع القوانين الوضعية القائلة:أنَّ الجريمةَ عملٌ يُجَرِّمُه القانون، أو امتناعٌ عن عملٍ يَقضي به القانون. ولا يُعتبرُ الفعلُ أو التَّركُ جريمةً في نظر تلك القوانين إلا إذا كان معاقَباً عليه. ومنه نَفهم أنَّ الفعلَ ليْس صفةٌ يحملُها الإنسان؛ وإنَّما هو إرادةٌ ذاتية وقتية أو متكررةٌ تُسمَّى سلوكاً يقومُ به الإنسان ذاتياً وفقاً أو بمقتضَى تفكيرِه ونفسيَّتِه. فأفعالُه وسلوكياته هي إراديَّة وقد تؤثِّر عليه عواملٌ نفسيةٌ معينة أو عواملٌ خارجية مثل بيئتِه.. بينما صفاته فهو لا يستطيع التحكم فيها. فَاللهَ سُبحانه ركَّب في طبائع البشر الخيرَ والشَّرَ، قال تعالى:}وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ{ البلد10وقال }فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{ الشمس8. والشَّرُ أقْرَبُ الخِلال إليْه إذا أُهملَ في مَرْعى عوائده ولم يُهذِّبه الاقتداءُ بالدِّينِ. وعلى ذلك الجمِّ الغفيرِ إلَّا مَن وفَّقَه الله. ومِن أخلاق البشر فيهِمُ الظلمُ والعُدوانُ بعضٌ على بعضٍ. إنَّ قاعدةَ « لا جريمة ولا عقوبة إلا بنَصٍّ « قد وُجدت في الشريعة الإسلامية منذ ثلاثة عشر قَرْناً في نُصوصِ القُرآن الكريم. فالله سبحانه وتعالى لم يذكر عقاباً، سواء دنيوياً أم أخروياً، إلا وذكر قبله الفعل الإجرامي الذي يرتكبه الإنسان. ولكنَّا نائمون عنها وغافلون. ولم يظهَر ذلك المصطلح القانوني كقاعدة قانونية إلا في أعقاب القَرن الثامنِ عشرَ عندما أُقِرَّت لأوَّلِ مَرةٍ في إعلانِ حقوق الإنسان عام1789م إثْرَ الثَّورة الفرنسية. ثم انتقلت هذه القاعدة من التشريع الفرنسيّ إلى غيرهِ من التشريعات الوضعيَّة الأخرى . ومن الملاحظ أنَّه في كافة( الأفعال الإجرامية) في القرآن الكريم لم يُدلِّلْ فيها اللهُ سبحانه وتعالى على أنَّ لِلوراثَةِ دَوْرٌ في ارتكابها، أو بسبب أنَّ الآباء أو الأجداد قد كانوا يوماً ما مجرمين أو حتى مخطئين . بل رَدَّها إلى فعلِ مرتَكِبِها، وهو ذات الإنسان نفسه مرتكب الفعل، بإرادتِه الذاتيَّة وبإصْرارِه. يقول سبحانه وتعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }الروم41 . وكذلك: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران 135. إنَّ الإنسانَ بِذاتِه وبِما يُحيط به من عواملٍ يُعتبرُ مسئولاً عن تصرفاته وسلوكياته أمام المجتمع، وليس بما كَسَبَه من آبائِه وأجدادِه كما يعتقد البعض الآن. قال تعالى: }تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ{ البقرة134. وقال: }وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً{ النساء(111-112 ..هذا ما يؤكِّد أنَّ الإنسانَ وحدَهُ مسئولٌ عن تصرفاته ولا أحدٌ غيره . يُفيد د.نجيب علي سيف الجُمَيِّل (كلية الحقوق- جامعة عدن ) في كتابه « علمُ الإجرامِ وعلمُ العقابِ « قائلاً: «فشخصية المجرِم وما تتميَّز بها من صفاتٍ متعددةٍ أكانت عضوية أو نفسية أو اجتماعية تمتلك أهمية علمية بالنسبة لتصنيف مرتكبي الجرائم، حيث أن تعدد جوانب شخصية المجرم يُعدُّ سبباً لاختلاف وتنوع المجرمين، فهذه التصنيفات تتعدَّد وفقاً لوجهة النظر التي يجري التقسيم على أساسها..». لقد كان محقاً في هذا الاستنتاج؛ إلا أنَّه قد ركَّز على شخصية المجرم كثيراً، ثم شَذَّ وانحَرفَ بإضافة ما لم يكُنْ ضرورياً وذلك بقوله : « نلاحظ أنَّ جَوْهَرَ الوراثة هو انتقال الخصائص أو الصِّفات التكوينية ( العضوية أو العقلية ) بالوراثة من الآباء إلى الأبناء أو إلى الأحفاد، وأثر ذلك في تكوين الشخصية الإنسانية وفي ضمنها الشخصية الإجرامية...» . إنَّ فكرةَ الكاتبِ عن جوهر الوراثة قد بَرَزَت لِتُسايرَ نِتاجَ أُولَئِك العلماء وأطباء النفس المتقدمين، غير ملَّتِنا، أمثال لامبروزر، و دي توليو، المذكورون سلفاً. فلا غرابة إذن أنْ نقرأَ عن الشخصية الإجرامية كمصطلحٍ متداولٍ لديه. وإذا ما سَلَّمْنا بوجود مثلِ هذا المصطلح، فهل هذا يعني أنَّ تلك الشخصية الإجرامية قد تختلف من مجتمعٍ لآخَر؟. إنَّ الإجابة، في نظري ، هي نَعم. رغم أنِّي لا أُؤمن بوجود ذلك المصطلح كتحديدٍ لنوع الجريمة أو مصدرها؛ وإنما بوجود السلوك والتصرف الإجرامي الذي هو مرتبِطٌ أساساً بالشخصية الإنسانية. هذا السلوك يتم تحديده في أي مجتمعٍ وفقاً لمقتضياته، وديانته، وثقافته، وتاريخه، وعواملٍ كثيرةٍ أُخرى. والسببُ في ذلك أنَّ هناك أفعالاًٌ في مجتمعِنا الإسلامي تُعتبر إجرامية مثل الزِّنا، وشُربِ الخَمرِ، واللِّواط،...الخ. وهي ليست كذلك في المجتمعات الأخرى وخاصة الغربية منها. والعكس صحيح،فعندهم، من غير مِلَّتنا، أفعالٌ تُعتبر إجرامية كتعدُّد الزَوجات، والطلاق من غير حكم، وغيرها وهي ليست كذلك عندنا. وهناك أفعالٌ إجرامية تُعتبر مشتركة كالسرقة، والقتل وغيرها؛ مع أنَّ بعضاً منها فيها نظرٌ، خاصة فيما يتعلق بعقوباتها وهي ليست موضوعنا الآن. يقول د. محمد يوسف موسى :” كذلك فكرةُ أنَّ الإنسانَ وُلِد وجاء إلى هذه الحياة مثقلاً بالخطيئة الأصلية التي لا يستطيع منها فكاكاً، وتقول بها المسيحية ... وهم يعنون بها أن الإنسان يُولد وعليه وزرُ خطيئة آدم عليه السلام جدِّه الأعلى حين خالف أمرَ ربِّه، وأكَلَ من الشجرة التي حرَّم الله عليه قربها.. على حين يقول القرآن عن سيدنا آدم عليه السلام: }فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى{ طه 122-121. كما يُقرِّر أنَّ الإنسان يُولدُ بريئاً من كلِّ ذَنبٍ أو خطيئةٍ؛ } فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ .وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ { الزلزلة8-7 “. وعليه فالإنسان بحدِّ ذاته هو مَن يُكَوِّن شخصيتَه كيفما أراد وبإرادته من خلال تفكيره، وممارساته، وأفعاله.ولا شأن لصفاته بذلك. فالإنسان لا يرث من أبائه وأجداده إلا الصفات والخصائص وليس الأفعال. فهل لصفة البخل شخصية؟، أو للحبِّ والكراهية شخصية؟، أو للأبيض والأسود شخصية؟، وهَلُمَّ جَرَّا.. إنَّ القرآن يدعو إلى الأخذ بالأسباب مع التوكلِّ على الله في إحداث الانقلابات الإصلاحية التي ترفع الجماعات إلى حياةٍ أفضل. قال سبحانه: .. }إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ { الرعد 11. هذا ما ذكره القرآن وهو صريحٌ على أنَّ إرادة الإنسان وعمَله هما مصدرا مثوبته وعقابه. في إحدى الصحف الغربية صرَّح أحدُ علماءِ الطبيعة، حاصلٌ على جائزة نوبل للعلوم،» إنَّ الإنسان بطبعه في سلوكه العام مسيَّرٌ وليس مخيَّرٌاً، وقد يأتي الوقت الذي لن يكون فيه مسئولاً عن أفعاله «. وعالِمٌ آخَرٌ منهم يصرِّح « أنَّ لديه دليلٌ أكيدٌ يُثبِتُ فيه أنَّ الإنسان أصلُه بكتيريا..». وهو بذلك يكرِّر، ولكن بشكلٍ آخر، نظرية “داروين” (الفاسدة) في “أصل الأنواع” والتي قد دُحضت مع نهاية القرن الماضي؛ القائلة أن الإنسان أصله قردٌ. وهكذا سنجد العديد من الأقاويل والأوهام غير المبرَّرة بأساس. لذا فإنَّ تركَ كلام الله وسنة رسوله محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وعدم الأخذ بهما في تحليل ما يأتينا من علوم، نكون بذلك قد تمادينا وخرجنا عن مِلَّتِنا، مع أنَّ دينَنا يشجعنا على العلم والتعلُّم. ولكن في حدودٍ لا تتجاوز الشريعة السَّمْحاء. كما يَلزُمُنا الإدراك الواجب في التوقف أحياناً عن مجاراة العلماء من غير مِلَّتِنا. “لأنهم يُسنِدون الموجودات كلَّها إلى العقلِ الأوَّلِ واكتفاؤهم به في التَرَقِّي إلى الواجب وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل والغَفلة عمَّا وراءه بمثابة الطبيعيين، المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرِضين عن النقل والعقل، المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء... وأما الروحانيون فإنهم يُصرِّحون أنَّ ما لا مادة له لا يمكن البُرهان عليه. وقال أفلاطون إنَّ الإلهيات لا يُوصَل فيها إلى يقينٍ، وإنَّما يُقال فيها بالأحقِّ و الأوْلَى، يعني الظَّن... هذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم... فأيُّ فائدةٍ لهذه العلوم والاشتغال بها، ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحسِّ من الموجودات.. فهذا العلم غير وافٍ بمقاصدهم التي حوَّموا عليها، مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها. وليس له فيما عَلِمنا إلا ثمرةً واحدة وهي شَحذُ الذِّهنِ في ترتيب الأدلَّة، والحجج لتحصيل ملَكة الجودة والصواب في البراهين... مع الاطِّلاع على مذاهب أهل العلم وأدائهم ومضارِّها ما عَلِمْنا.. فليكن الناظر فيها متحَرِّزاً جَهدَه من معاطبها، وليكن نظرُ مَن ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطِّلاع على التفسير والفقه ولا يُكِبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خِلوٌ من علوم المِلَّة فقَلَّ أنْ يسلَم لذلك من معاطِبِها.”.. ‘‘‘ والله ولي التوفيق ‘‘‘[c1]المراجع : [/c] -1مقدمة العلامة ابن خلدون المسمى « ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. تأليف العلامة ابن خلدون. تحقيق خليل شحادة، إصدار دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت 2004م. -2الإسلام وحاجة الإنسان إليه. تأليف الدكتور محمد يوسف موسى. إصدار الشركة العربية للطباعة والنشر.القاهرة، الطبعة الثانية 1961 م.-3 روح الدين الإسلامي. تأليف عفيف عبد الفتاح طبّارة. إصدار دار العلم للملايين. بيروت، الطبعة الرابعة والعشرون مايو1984 م. -4 النظرية العامة للجريمة. تأليف الدكتور علي حسن الشرفي. إصدار أوان للخدمات الإعلامية. صنعاء، الطبعة الرابعة 2004 م.-5علم الإجرام وعلم العقاب. تأليف الدكتور نجيب علي سيف الجميّل. الإصدار «بدون». عدن 2005م.
|
دراسات
الوراثة في السلوك الإجرامي بين العلم والعقيدة
أخبار متعلقة