يشهد العالم العربي ميولاً داخلية وضغوطاً خارجية للتحول نحو الديمقراطية وإعادة تأهيل أوضاعه الداخلية باتجاه التكيف مع متطلبات الاندماج في النظام الكوني الآخذ في التشكـُّـل على يد مخرجات ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات . . وبوسعنا القول ان تراكم عمليات التحول نحو الديمقراطية وبناء المجتمع المدني سيجعل العالم العربي مفتوحا ً على متغيرات نوعية قد تؤسس لنمط جديد من الثقافة السياسية والتفكير النظري .والحال ان الثقافة عموما ً والثقافة السياسية خصوصا شهدتا حالة ً من الجمود والتراجع تحت تأثير انكماش وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى ، الأمر الذي أدّى الى ان يفتقد المثقفون ــ الذين كان معظمهم جزءًا من هذه الطبقة ــ شروطا ً اجتماعية لازمة لتشكيل وعيهم وتكوين مواقفهم واستعداداتهم ، ثم وجدوا انفسهم في مواجهة ركود تاريخي ارتبط بتراجع مكانتهم في السلم الطبقي والتأثير السياسي والاجتماعي .. وترافق هذا التراجع مع تراجع مواز ٍ لتأثير الآيديولوجيات القومية والاشتراكية والدينية التي كان المثقفون يشكلون حاملها الاجتماعي بعد ان فشلت هذه الآيديولوجيات في اختبارات الحياة .من نافل القول ان ضمورا ً كبيرا ً أصاب الآيديولوجيا القومية والاشتراكية ، حيث تم تعويم حهازها المفاهيمي التقليدي القديم وحصره في مفاهيم عائمة وزئبقية مثل ((التضامن العربي ، العمل العربي المشترك ،العدالة الاجتماعية ، البعد الاجتماعي ، الخ )) ، مقابل فكرة الوحدة القومية العربية وفكرة الاشتراكية .. امّا الآيديولوجيا الدينية التي ارتبطت بالاسلام السياسي فقد شهدت صعودا ً أوصلها الى تبني صيغة بديلة عن كل ما هو موجود في العالم المعاصر ، واتسمت هذه الصيغة بنزوعها الى العنف والغاء الآخر والترويج لفكرة الاستحلال الحضاري ، ثم وصلت الى مأزق ٍ حاد ٍ أفضى الى التراجع عن صيغة البديل الحضاري الشامل ، والتخبط خلف صيغ كان الجهاز المفاهيمي القديم للآيديولوجيا الاسلامية يرفضها جملة ً وتفصيلا ً . في مقال سابق كتبت في هذه الصحيفة عن روّاد فكر النهضة الذين كانوا يبحثون عن أسباب تخلف المسلمين وسر تقدم اوروبا وغير المسلميـــن ، حيث طرحوا اسئلة جديدة بحثا ً عن أجوبة تـُمكـِّـن المسلمين من مغادرة نفق التخلف والانقطاع الحضاري .. ثم جاء (( الإخوان المسلمون )) بوجهة تفكير مختلفة ، فعوضا ً عن السؤال : لماذا تخلف المسلمون وتقدم الآخرون ؟ طرح المفكر الإخواني ابو الحسن الندوي في منتصف الخمسينات سؤالا ً هروبيا ً هو : ماذا خسر العالم بتوقف المسلمين عن المساهمة في صنع حضارتهم ؟ .. وقد وصف الندوي حضارة الغرب بالهشاشة والضعف والانحراف وتنبأ بسقوطها في نهاية القرن العشرين بسبب عدم مشاركة المسلمين في هذه الحضارة .. وفي منتصف الستينات أطلق مفكر إخواني آخر هو سيد قطب النار على الحضارة الحديثة ووصفها بالجاهلية والكفر داعيا ً المسلمين الى محاربتها وإسقاطها بالقوة ، وما من شك في أن هذه الأقكار الإخوانية أسست لحقبة العنف الجهادي التكفيري التي شهدها العالم العربي و الإسلامي خلال السبعينات والثمانينات والتسعينات والحقت به أضرارا ً جسيمة !![c1]أسئلة الأوهام[/c] كانت اسئلة رواد فكر التنوير في القرن التاسع عشر تدور حول اسباب تقدم الغرب وتخلف العالم العربي والاسلامي ، وتحاول البحث عن الأجوبة في واقع المسلمين المتخلف ، فيما تـُـلقي مسؤولية تخلف المسلمين على عاتقهم أنفسهم .. امـّا الأسئلة التي طرحها الفكر الإخواني فقد نزعت الى تبرئة المسلمين من أسباب وعوامل العجز ، وحاولت تقديم صورة مغلوطة عن واقع التخلف الذي يعيشونه مفادها ان العالم الاسلامي لا يعيش انحطاطا حضاريا ًً ، بل ان الحضارة الغربية هي المنحطة ، أمـّا أسباب انحطاطها وانحلالها فهو عدم مشاركة المسلمين في صنعها .. بمعنى ان هذه الأسئلة تحاول الإيهام بأن الانحطاط لا يوجد في العالم الاسلامي بل في الحضارة الحديثة التي أصبح الغرب معقلها الرئيسي منذ الثورة الصناعية ، وإن إنقاذ هذه الحضارة من انحطاطها مشروط بمساهمة المسلمين من النقطة التي توقف عندها ابداعهم الحضاري ، أي بالعودة الى الأجوبة التي كان قد طرحها الفقه السلفي على اسئلة الحياة في تلك الحقبة الغابرة من عصور التاريخ ! يقينا ً ان جماعة الإخوان المسلمين كانت تنظيما ً سياسيًا بامتياز .. وكذلك كان فكرها الإصلاحي السلفي سياسيا ً هو الآخر .. و لا ريب في أن فكر الإخوان المسلمين قام على مبدأ التأصيل ــ أي العودة الى الأصول ــ وهو ما أدّى الى ان يتجاوز الفكر السياسي الإخواني حقبة التنوير التي طرحت على يد رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد العطار وعلي مبارك وعلي عبدالرازق وخير الدين التونسي اسئلة ً جديدة ً بتأثير صدمة الحداثة مع الحضارة الغربية في القرن الثامن عشر (( حملة نابليون على مصر )) والقرن التاسع عشر (( الحملات الاستعمارية على العالم العربي والاسلامي )) ، ليقفزمباشرة ــ أي الفكر السياسي الإخواني ــ الى عصر الغزالي والذهبي وابن تيمية والشاطبي وغيرهم من مؤسسي فقه التشدد في العصور التي شهدت بداية غروب شمس الحضارة الاسلامية ، وأسفرت هذه النقلة عن نزعة إلغائية إنعزالية ترفض مخرجات الحضارة المعاصرة وقيم العالم الجديد ، وتسعى الى قراءة النصوص الدينية والفقهية بطريقة تدين الحضارة الحديثة والعالم المعاصر والمجتمعات الاسلاميــــــــــــة إدانة شاملة على أساس منهــــــــج التأصـــــــــيل !! تميز الفكر الإخواني ــ الذي مهــّد فيما بعد لظهور تيار الإسلام السياسي فكريا ًوتنظيميا ًــ بالانغلاق التأصيلي سواء في مسائل الفروع ــ الحرام والحلال ــ او في المسائل الكبرى المتعلقة بالعصر والعالم والحضارة المعاصرة والقيم الإنسانية المشتركة ، فكانت النتيجة تأويلا ً منغلقا ً ومتعصبا ًللنصوص وإدانة ً للعصر كله بما ينطوي عليه من منجزات حضارية وقيم إنسانية مشتركة وأفكار ونظم سياسية ، ووصلت مسيرة هذا الفكر ذروتها بإفراز ثقافة مأزومة تخاف العالم ، وتتجه بدوافع العجز وضيق الأفق الى مقاتلة المجتمعات الإسلامية بل العالم بأسره وثقافته من خلال ثقافة وسلاح العنف !! مع تحول الحضارة العالمية نحو العولمة وانتقال النظام العالمي الى النظام الكوني تهاوت كافة الآيديولوجيات التي تفترض إمكانية تقسيم العالم الى عوالم حضارية ومنظومات ايديولوجية متناحرة .. وكما سقطت الآيديولوجيا القومية والآيديولوجيا الاشتراكية في هذا التوقيت ، بدأت الآيديولوجيا الدينية التي صاغها الإسلام السياسي تدخل مرحلة الأفول والانهيار . وإذا كان القوميون والإشتراكيون حاولوا تعديل الجهاز المفاهيمي للآيديولوجيا القومية والإشتراكية ، واختزاله الى أدنى مستوى من الصيغ الضبابية التي لاتتجاوز التضامن العربي والعدالة الإجتماعية ، فإن الآيديولوجيا الدينية بدأت هي الأخرى في تعديل جهازها المفاهيمي من خلال التراجع عن إدانة العصر ومخرجات الحضارة الحديثة ، حيث اضطر بعض الإسلاميين الى التراجع بقبول الديمقراطية بدلا ً من تكفيرها، والتسليم بضرورة التعايش مع الآخر بدلا ً من رفضه ، و الإنفتاح على الغرب وحضارته بدلا ً من وصفهما بالجاهلية ، والاعتراف بأن إشكالية التمايز مع الغرب هي معرفية وليست دينية .. والأكثر من ذلك ارتفعت اصوات داخل الإسلاميين تطالب بإصلاح الجهاز المفاهيمي للفكر السياسي الاسلامي، وإعادة قراءة التاريخ بمنهج نقدي تحليلي ، والتحذير من مخاطر إضفاء القداسة على كل ما هو تأريخي ، والمطالبة بفتح باب الاجتهاد وإعادة الاعتبار لمفهوم مقاصد الشريعة وفقه المصالح . لعل التوجهات الأخيرة التي بدأت تظهر في أوساط الإسلاميين تعيدهم الى أسئلة حقبة فكر التنوير التي وجه الفكر الإخواني ضربة قوية لها ، وسعى الى تجاوزها من خلال العودة الى الخلف والتوجه الى فكر الغزالي والذهبي وابن تيمية والشاطبي وأضرابهم ، متجاهلا ً حقيقة ان أسئلة حقبة فكر التنوير ــ التي كان المفكرون الإصلاحيون يبحثون عن إجابات عليها ــ هي أسئلة العصر بامتياز وليست اسئلتهم الشخصية ، وهي فوق كل ذلك أسئلة غير مسبوقة ولم يطرحها أي عصر من العصور السابقة !!لا مبالغة في القول إن مشكلة الإسلام السياسي معقدة للغاية ، فإذا كان بوسع رموز هذا التيار سهولة التنكر لفكر سيد قطب التكفيري والبراء من كتاب (( معالم في الطريق )) ، بعد أن أصبح الكاتب والكتاب في ذمة التاريخ .. فليس بوسعهم التخلص من رموز إخوانية فكرية ارتبطت حياتها وما زالت مرتبطة بنشر الفكر التكفيري التصفوي ، والدعوة الى فقه التشدد وإدانة الأفكار الإصلاحية التي بشرت بها حقبة فكر التنوير .أمثال هؤلاء كثيرون في اليمن وغيرها من أقطار العالم العربي والإسلامي ، وما زالوا أحياء ويتسنـَّمون مواقع قيادية وروحية في حركة الإسلام السياسي ، الأمر الذي يجعل المراهنة على نجاح هذه الحركة في التجدد والخروج من مأزق الركود امرا ً صعبا ً للغاية ! لنأخذ على سبيل المثال أفكار الشيخ الإخواني د محمد سعيد رمضان البوطي الذي يدرس طلبة احدى الجامعات اليمنية أفكاره ــ وهي بالمناسبة أفكار محورية في المنهاج الفكــــــــــري للإسلام السياسي ــ حيث يهاجم الأفكار الإصلاحية لحركة التنوير في كتابه الشهير “ كبرى اليـقـيـنـيــــات الكونيــة ” ، ص 19 ـ 20 بقوله : (( كانت تلك التي زعموها مدرسة إصلاحية منشأ ً زمانيا ً لوقوع الفكر العربي الإسلامي في منطقة الجاذبية الغربية )) .. ثم يتهمها بالخيانة والعمالة بقوله : (( وفي يقيني ان ظهور تلك المدرسة التي كان يخطط لها اللورد كرومر واللورد لويد بكل خفاء ودقة كان إيذانا ً بانهيار الشخصية الاسلامية التي ظلت متماسكة حتى بعد زوال الخلافة الإسلامية الى أمد )) .. وبعد ذلك يصعـّد البوطي تلك الاتهامات ويصل بها الى مستوى التكفير والتخوين في آن واحد حين يتساءل قائلا ً : (( كيف يتسنى للمسلم الصادق في إسلامه ان يجاري محمد عبده في طي سائرالحقائق الغيبية والتكلــــــــــــف في تأويلها ، لمجرد تطويع الاسلام لبرنامج التحديث الغربي الذي كانت تخطط له بريطانيا صراحة ؟ ))لا يختلف إثنان في أن أفكار البوطي تعد جزءًا مهما ً من منظومة أفكار ما تسمى بحركة (( الصحوة)) الاسلامية التي ارتبطت بفكر الإخوان المسلمين .. والمتأمل لهذه الأفكار سيلاحظ أن ثمة رفضا ً مطلقا ًلأي عملية تجديد في الفكر الإسلامي ، ناهيك عن التشكيك بأي توجه نحو التحديث والتجديد من خلال الافراط في إتهام دعاتهما بالتغريب و محاربة الإسلام !!يقينا ً ان التخلف ليس قدرا ً مطلقا ً .. ولعل ما يميز الواقع العربي والإسلامي في عصر العولمة وما بعد الحداثة الذي تزامن مع ميلاد الألفية الثالثة من التاريخ الميلادي ، عن عصر الحداثة الذي دشنته الثورة الصناعية الأولى والثانية قبل ثلاثمئة عام ، هو استمرار تخلفه بوتائر متصاعدة ، مع وجود فرص موضوعية لتجاوز واقع التخلف .صحيح ان العالم العربي والإسلامي تخلف عن اللحاق بعصر الحداثة الأولى الذي دشنته الثورة الصناعية والتقنيات العلمية في القرن السابع عشر وبلغت ذروتها في القرون الثلاثة الأخيرة ، وكان من نتائجها تقسيم العالم الى مركز مهيمن وأطراف تابعة ومعزولة ، وما ترتب على ذلك من عالمية ذات طابع عمودي .لكن عصر الثورة الأليكترونية ، بما هو عصر العولمة وما بعد الحداثة يتسم بالنزوع الى تغيير خارطة العلاقة بين مفاعيل النظام الكوني .. فالمادة لم تعد عضوية وآلية بل اليكترونية ومعلوماتية .. وبالمقابل لم يعد الفكر يبحث عن الحقيقة من خلال المعطيات الموروثة والقائمة فعلا ً ، بل من خلال المعطيات التي يهتم العقل بالتفكير في إبداعها وإنتاجها عبر تقنيات المعلومات وشبكات الإتصال ، وما يترتب على ذلك من تغيير العلاقة بين الوعي المعرفي والواقع الملموس . مما له دلالة ــ في هذا السياق ــ ان الآلة بوصفها أبرز معطيات الحداثة الإنتاجية في حقبة الثورة الصناعية ، انتجت وقائع و حقائق جديدة ، ووحـّدت العالم في شبكة علاقات ذات طابع عمودي .. بيد أن دخول الرقم كعنصر حاسم في الإنتاج الأليكتروني جعل الواقع والحقيقة مفتوحين أمام تحولات بلا حدود .. بمعنى إمكانية إكساب العالم الواقعي بنية أفقية إندماجية لامتناهية ، بعكس عالم الثورة الصناعية العمودي والمجرد . !!كانت التناقضات في عالم الحداثة الصناعية قائمة ً بين بنى محوريــــــــة ذات حدود صارمـــة ، وبين فواعل ومفاعيل ترتبط فيما بينها بعلاقات عمودية .. امـّا عالم ما بعد الحداثة فهو يتسم بميله لأن يتحول الى بنية سوقية محورية و مندمجة ، تصبح التناقضات معها قائمة ً بين فاعـِلـَـيـْن متميـِّزَيـْن بطريقتي تفكير متناقضتين .. الأول يفكر بعقلية ديناميكية ويعمل على تطوير أنماط التفكير والعيش من خلال الإندماج ضمن سوق كونية تتوفر فيها فرص غير مسبوقة لتبادل المعطيات من أفكار وسلع وخدمات ومعلومات ، فيما يفكر الآخر بعقلية إنعزالية تقليدية ، ويصر على العمل وفق قوالب مدرسية نقلية ، وأفكار ماضوية جاهزة ، ما يؤدي الى إهدار الفرص المتاحة للتقدم ، والاستمرار في إعادة إنتاج العجز ، وتهميش الذات بالذات نفسها!! من المفارقات التي تميز عصر العولمة وما بعد الحداثة عما قبله ، انه ينطوي على حوافز وفرص تفتح إمكانات هائلة أمام كل من يرغب في الإندماج به للتأثير في مفاعيله الداخلية وتغيير قواعد حركتها .. بمعنى ان العولمة فضاء مفتوح للمشاركة والاشتغال على معطياتها ووقائعها من خلال قدرات معرفية وأنساق ذهنية ، لا قدرات مادية عضوية كما هو حال الحداثة الصناعية ، الأمر الذي يتطلب طريقة تفكير جريئة واقتحامية تجترح صيغا ً جديدة للانفتاح والعمل والنمو والتلاقح والتفاعل، بدلا ًمن لعن العولمة والبكاء على أطلال الهوية والخصوصية والسيادة .. وبهذا فقط يمكن للمهمشين المشاركة في جدل العصر ، وتجنب البقاء على الهامش . ------------------[c1] * نقلاً عن صحيفة (26سبتمبر)[/c]
|
فكر
ضمور الآيديولوجيا وتراجع المثقفين
أخبار متعلقة