منذ ثلاثة قرون - تقريبا - والتنوير خطاب محوري في الإصلاح، والنهضة، والإنسان. ومع أن البداية كانت من أوروبا، إلا أن شمولية الخطاب التنويري، جعلت منه خطاباً عابرا للزمان والمكان. قيم التنوير، ومفرداته الأساسية، هي قيم ومفردات الإنسان. ومن ثم، فليس غريبا أن يصبح التنوير هو الخطاب القديم المتجدد، في كل محاولات النهوض، على امتداد العالم، سواء حضر الخطاب بصورته الأساس، أو بعد التحوير، الذي قد يطال بعض مفردات الخطاب. وإذا كانت بعض محاولات النهوض لم تستلهم الخطاب التنويري، فإنها وإن أحرزت شيئا من التقدم المادي التقني، على امتداد زماني ومكاني متقطع، إلا أنها لم تستطع الاستمرار، بل تراجعت إلى درجة السقوط شبه التام، فضلا عن كون تقدمها المزعوم - في أوج وهجه - كان (تقدما !) ضد الإنسان، أو - على الأقل - تقدما يتجاهل الإنسان. في النصف الأول من القرن التاسع عشر، عاد رفاعة الطهطاوي من باريس إلى عالمه العربي، حيث الظلام المخيم. وكان الطهطاوي هو القناة الأولى التي تسرب منها شيئا من نور التنوير إلى عالم محلولك الظلمة. والأهم في كل ما فعله الطهطاوي - رحمه الله - أنه كان يمارس التنوير عن وعي تام بالدور الذي يقوم به، أو يجب عليه أن يقوم به. لقد كانت رحلته من الأزهر (الشريف)، قلعة التقليد العتيقة، إلى مدينة النور، ليست مجرد تحوّل في المكان، وإنما تحول في الوعي، والأهم - وأكرر هنا - أنه كان واعيا بهذا التحول. مسألة الوعي بالدور، أو بالمهمة، التي يفرضها السياق التاريخي على الفاعل التنويري، ليست مسألة ثانوية، بحيث يمكن تجاهلها. فليس مجرد الاشتباك مع خطاب التنوير، أو حتى الانهماك فيه، كافيا لصنع فاعل تنويري مؤثر، يضع بصمته التاريخية الخالدة، بما يصنعه من مراحل التحوّل. لا بد من الوعي بطبيعة الممارسة التنويرية ذاتها ؛ لأن هذا الوعي هو الذي يحقق هذا التحول، وهو الذي يعصم هذا الفاعل من أن تغتاله - انتكاسا - البيئة التقليدية، التي ربما تكون في زخم تخلفها أكثر من قدرته الفردية على الاحتمال. معظم المنتكسين قديما وحديثا، ليسوا أكثر من عشاق عابرين لمفردات التنوير في العدل والمساواة، وربما الحرية ؛ دونما وعي - والوعي ليس مجرد المعرفة - بالكليات الفلسفية التي تموضع التنوير في علاقات الما قبل والما بعد، وبالسياق العام لقصة الحضارة الإنسانية. بل إن كثيرا منهم لم يكونوا صادقين حتى في هذا العشق العابر أو الساذج، وإنما كانوا مجرد (تجار موضة)، أو في أحسن الأحوال - وربما في أسوئها - كانوا باحثين عن دور مفقود، أي دور. ذلك أن الثقافة لم تكن في وعيهم أكثر من (مكانة) اجتماعية يتطلعون إليها. ومن المفارقة أنها مكانة في التراتبية الاجتماعية التقليدية التي يسعون لإجراء تحولات جذرية فيها. وبهذا، فهم يدعمونها ويرسخون قيمها بهذا التطلع من جهة، ويسعون - كما في ظاهر الخطاب - لإجراء تحولات جذرية عليها، من جهة أخرى . وقد لا يكون الانتكاس راجعا إلى أسباب ذاتية، وإنما إلى تغيرات جذرية تطال الواقع، وتجعل من هذا التردد، أو النكوص، ممارسة تتوسل بالواقعي، أكثر مما تتوسل بالفكري. لكن، حتى هذا الانشداد إلى الواقع، والتضحية - بنسب متفاوتة - بالفكرة، لم يكن ليحدث ؛ لو لم تكن البنية المعرفية والنفسية للذات المنتكسة، مهزوزة، أو مهزومة. صحيح أنه لا يمكن تفسير كل ظاهرة انتكاس أو ردة عن التنوير إلا بالإحالة إلى الظروف الخاصة لكل حالة. لكن، هناك الكثير من المشترك، الذي يقارب أن يكون : نموذجا تفسيريا، بلغة عبدالوهاب المسيري. ونحن نهتم بهذا المشترك الذي يعيننا على تفسير مثل هذه الظواهر ؛ لأن الأفراد لا يشغلوننا، بقدرما تشغلنا الظاهرة، التي تؤثر - بمجملها - على مستقبل خطاب التنوير . المنتكسون أو المرتدون عن التنوير، ومنذ أن بدأت حركة الانتكاس في أواخر النصف الثاني من القرن العشرين، يتسمون بالضحالة المعرفية، خاصة فيما يخص الإرث التنويري، بل هذه الضحالة، هي أشد منها لدى كثير من أعداء التنوير التقليديين الذين يستغلون نفيه من الفكر والواقع، بتوسل التضليل والتكفير. كما أنهم - بشواهد ما قبل مرحلتهم التنويرية يتسمون بالتعصب النفسي قبل التعصب الفكري، وبالنرجسية الذاتية والقومية، إضافة إلى مستوى عال من الانتهازية، وضمور شديد في الإرادة، بحيث يصبح التنوير مشروعا للمكاسب الشخصية، فإن حققها، وفي القريب العاجل، بسرعة صناعة نجم سينمائي، وإلا فالتنكر للتنوير، يصنع شيئا من النجومية المأمولة، مع ضمان ضد الإساءات المادية والمعنوية. وحب السلامة داء النضال في كل زمان ومكان . لسان حال المنتكسين يقول : ما لا يدرك - من المطامع الذاتية ! - عبر الاشتباك مع خطاب التنوير، يمكن أن يدرك أضعافه مع الانحياز إلى الخطاب التقليدي الجماهيري المضاد لخطاب التنوير. عندما تخذلهم قدراتهم العقلية والمعرفية والنفسية، في مضمار التنوير، فطريق الانتكاس لا يحتاج إلا إلى أدنى المستويات من هذه القدرات. إنه لا يحتاج أكثر من إعلان (توبة) من التنوير، مع قدر من الإساءة الإعلامية (الإساءة الثقافية عاجزون عنها) إلى الخطاب التنويري . التنويريون الواعون بالتنوير، لا يمكن أن ينتكسوا، لا لأنهم معصومون - قدراً - من الانتكاس، وإنما لأن التنوير وعي، والوعي لا يتراجع عند الفرد ؛ إلا بخلل فسيولوجي، يطال الآليات المادية لعمل العقل. ومن ثم، فالمنتكسون الذين اشتبكوا مع خطاب التنوير، أو مع بعض مفرداته، لم يكن لديهم وعي - من أي نوع - بالتنوير. ولهذا، كانوا يعرفون هذه المفردات التنويرية، ولكنهم لا (يعونها)، مما جعل من تنكرهم لها، أمرا ميسورا، بل هو أمر طبيعي في ظل بيئة تقليدية خانقة، تعادي التنوير، وترتاب برواده . إننا عندما نطرح خطاب التنوير، وننادي باستنبات المشاريع الثقافية العقلانية، لا نجهل أن العقلانية بدأت مساءلتها منذ أمد في الغرب، وأن القيم التنويرية أصبحت تحت تشريح خطاب ما بعد الحداثة. لكن، نحن نقدم التنوير ؛ لأننا - كعرب/ مسلمين في سياق ثقافي وتاريخي، يشبه إلى حد كبير حال أوربا قبل ثلاثة قرون، كما ندرك أننا في تواشج ثقافي مع أحدث الخطابات في قرننا الواحد والعشرين. قدرنا أننا لا بد أن نطرح التنوير، وخطاب مساءلة التنوير في آن، خطاب الحداثة، وخطاب ما بعد الحداثة ؛ لأننا لسنا في السياق الراهن - الثقافي والتاريخ - الذي يحكم أوروبا وأمريكا ؛ فنأخذ بخطاب ما بعد الحداثة، كما أننا لسنا في سياق القرن الثامن عشر تماما ؛ حتى نأخذ بخطاب التنوير، دونما توقف عند (المرحلة) التي يعيشها الغرب ثقافيا . لا بد من هذا التوضيح، لا لأن المنتكسين يحتكمون - في انتكاسهم - إلى خطاب ما بعد الحداثة، فهم لم ولن يمارسوا هذا الاحتكام، الذي يتجاوز قدراتهم المعرفية والنفسية، وإنما نفعل ذلك، من أجل أن يدرك من يعارضنا - ثقافيا - في تقديم الخطاب التنويري، أننا لا نطرح التنوير على نحو تبشيري، يتجاوز المساءلة النقدية التي لا تنقض التنوير، بقدر ما تهتم بتطويره، وإنما نطرحه مشتبكا مع إحداثيات العصر التي تسائل مفردات التنوير بالضرورة. ليس شرطا أن يكون الانتكاس عودة إلى الحالة التقليدية، أو الما قبل تنويرية، وإنما قد يتأتى في صورة التحول إلى خطاب نقيض، خطاب يتنكر للبعد الإنساني الذي يشكل الهيكل العام لخطاب التنوير. وقد يجمع المنتكس بين هذا الخطاب اللاإنساني، وبين الحالة التقليدية ؛ لأن الخطاب التقليدي الرائج في العالم الإسلامي اليوم، هو خطاب مضاد للإنسان . هكذا وجدنا سيد قطب، يعود إلى التراث، بل إلى التقليدي منه، بعد أن اشتبك مع الخطاب الليبرالي، من زاوية النقد الأدبي. وسيد قطب يمكن أن يكون مثالا، لأنه المثقف الطموح الذي لم تسعفه قدراته ليكون - كما كان يأمل - مضارعا لطه حسين أو للعقاد، أو لزكي نجيب محمود، أو لأحمد أمين ... إلخ، فلم يستطع استدراك المجد الأدبي الذي لا تمكنه منه قدراته المتواضعة نسبيا، إلا ينتقل إلى مربع التقليد. وحينئذ، لاشك أنه سيكون (المفكر) الأول، في وسط تقليدي، يتصور المعرفة مجرد اجترار لمقولات التراث. والكل يعلم الألم الذي سببه له العقاد، عندما رفض التقديم له، وهو الذي أمضى سنوات من عمره مترهبا في محراب العقاد. انتكاسة (ردة) توبة محمد حسين هيكل، من الليبرالية، وازدرائه لمرحلة : إعجابه بالغرب، واعترافه أنه كان تغريبيا، وأنه الآن يتوب من التغريب، كل ذلك، مشفوعا بكتاب : حياة محمد، وفي منزل الوحي، أعطى هيكل مكانة ثقافية، لم يستطع تحقيقها من قبل. ولا شك أن انتقال المركز العام للإخوان المسلمين من الإسماعيلية إلى القاهرة عام 1933م قد أحدث تحولا واضحا وسريعا في الوجدان الجماهيري، نحو مقولات الأسلمة. وهذا ما أغرى كثيرين - ومنهم هيكل - بركوب الموجة، بل لم ينج حتى طه حسين من ذلك، لكنه - ولأسباب كثيرة - سرعان ما أدرك أين يجب أن يكون النضال الثقافي . قد تكون الحالة التي تتسبب في الانتكاس، أو في ممارسة دور يقارب دور المنتكس، حالة نفسية أكثر منها حالة معرفية، كما هو الحال مع حسن حنفي. فعلى الرغم من رمزيته الثقافية التي لا يشكك فيها أحد، إلا أنه، ومنذ البداية، مارس دور المنتكس وإن لم يكن كذلك. منذ البداية، تتضح عنده عقدة من الغرب، ومن كون الغرب فاعلا ثقافيا في الشرق. ولهذا، جاء بنظرية القرون السبعة، أملا أن قرون تفوق الغرب قد أذنت بالأفول، لتبدأ سبعة قرون للأنا، تكون فيها هي المتفوقة ثقافيا وحضاريا. وما علم الاستغراب إلا مقدمة لهذا التصور المتنرجس، المتمحور حول الذات، على نحو طفولي . الإشكال في مثل حنفي، أنه أصبح متكأ معرفيا للمنتكسين لدينا، والذين ليس لديهم الطاقة لأكثر من الاستعانة الآلية بمشروع حنفي، وبرمزية حنفي أيضا. وإذا كان التقليديون يكفرونه أو يضللونه، فإنهم - وبسبب عجزهم المعرفي عن اجتراح مشروع خاص، مضارع لمشروع حنفي في اتساعه واتساقه - يضطرون لتوظيفه براجماتيا، أو لوضع مقولاته موضع : شهادات الأعداء. استشهادنا بسيد قطب وهيكل وحنفي، لا يعني أنهم يشابهون المنتكسين في واقعنا المحلي. فالقيمة المعرفية للمنتكسين لدينا تقارب الصفر ؛ مقارنة بهؤلاء الذين اشتغلوا على المعرفة طويلا. معظم المنتكسين لدينا، هم تقليديون قدامى، شغبوا - بلطف - على تيارهم، وعشقوا بعض مفردات التنوير ؛ نتيجة ظرف خاص. لكنهم سرعان ما أعلنوا التوبة، أو صرحوا بما يشبه هذا الإعلان . هؤلاء، رغم أنهم حاولوا التماس مع خطاب التنوير، ومارسوا شيئا من النقد للخطاب التقليدي، إلا أنهم تقليديون حتى في تعاطيهم مع خطاب التنوير. فنقدهم للتقليد لم يكن نقدا تشريحيا، بحيث يطال طبيعة الوعي التقليدي، متمظهرا في صور واقعية، وإنما كان (نقدهم) مجرد (ملاحظات) على مفردات تقليدية من هنا أو هناك، أو على سلوكيات فردية وشبه فردية، تصدر - في ظرف ما - عن الخطاب التقليدي . قد يكون لدى بعضهم رؤية في التغيير. لكن، رسوخ التقليدية في وعيهم، جعلهم لا يرون التغيير إلا من خلال نموذج تقليدي. بعضهم لا يرى التغيير إلا من خلال ابن تيمية أو من خلال الشاطبي. وشرعية التغيير عندهم لا تأتي إلا من خلال هؤلاء. فلا بد في كل خطوة من إحالة إلى الماضي، مهما كان هذا الماضي مختلفا ومغايرا للحاضر. إنهم تقليديون حتى في ثوريتهم، فابن تيمية حاضر في نمطهم الثوري ؛ لأنه النموذج الأوحد القابع في الوعي، والملائم لثورية مأمونة ومقبولة من الوسط التقليدي، ولا يدركون أن ثوريته كانت من التقليد وللتقليد بواسطة التقليد. عن نمط هؤلاء الذين لا يرون الخروج إلى المستقبل إلا على عربات الماضي، يقول المفكر اللبناني المبدع : علي حرب، في كتابه العالم ومأزقه ص 117”كما يفعل الكثير من الدعاة والإصلاحيين تحت وطأة هواماتهم الأصولية ونرجسيتهم الثقافية، الأمر الذي يحملهم على الاعتقاد بأننا نجد لدى الماضين التشخيص الأصح لواقعنا أو الحل الأنجع لمشكلاتنا الحضارية”. وهذا ما يفعله التقليديون الذي تشبعوا بابن تيمية أو بغيره من رموز التقليدية، إلى درجة استلهامه من جديد ؛ بغية الخروج من دوامة الانحطاط. والتفكير البياني، بواسطة : وداوني بالتي كانت هي الداء، لا ينفع في مثل هذه الحال . هذا إذا قدمنا حسن الظن. أما إذا قرأنا ما يحدث بشواهده مجردة من هذا الاعتبار، فإن ملامح الخداع الذي يقارب : } آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره .. { ليس ببعيد. وهذا يقودنا إلى ضرورة التنبه لمثل هذه المواقف المترددة التي تتغيا غرس الارتباك، وزعزعة التصميم في الخطاب التنويري، لصالح خطاب التقليد . ربما يتخفى بعض المنتكسين وراء مفردة : الاعتدال، أو الوسطية، أو محاولة الموضوعية، في نزاع خطاب التنوير مع خطاب التقليد. وهذا التذاكي التقليدي ممعن في الغباء ؛ لأن المنطوق الكلي لمقولاتهم يعزز - في النهاية - موقف التيار التقليدي، خاصة إذا اتضح - بشواهد معرفية واجتماعية - أن ولاءهم الحقيقي للتقليدية، وأن المقولات الرئيسة للخطاب التقليدي ليست محل فحص وتساؤل من قبلهم. بل إن (نمط) التفكير التقليدي لا زال هو المهيمن على ممارساتهم كافة . وأخيرا، يجب - مع كل هذا - أن نتذكر أن هؤلاء الذين يمثلون مظاهر نكوص وردة عن مفردات التنوير التي تقاطعوا معها في يوم من الأيام، ليسوا من رواد التنوير أو من رموزه، حتى يكون لمثل هذا النكوص أهمية معرفية أو إعلامية، وإنما هم - في أحسن الأحوال - من جماهير التنوير، أو من المعجبين العابرين ببعض مفرداته. وتنقل المعجب بين هذا وذاك، جزء من طبيعة الإعجاب العاطفي، أيا كان موضوعه. ولا يمس هذا التنقل العاطفي موضوعه - وهو هنا : التنوير - بشيء ؛ لأنه مرتبط بسيكولوجية المعجب خاصة، ولا يؤثر - إيجابا ولا سلبا - على موضوع الإعجاب : الخطاب التنويري.[c1]كاتب سعودي[/c]
|
فكر
ظاهرة الانتكاس في الخطاب التنويري
أخبار متعلقة