من المعلوم أن العقل والاعتزال وجهان لعملة واحدة ، راجت وتم تداولها أيام ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في العصر العباسي الأول ، والربع الأول من العصر العباسي الثاني ، ومن المسلم به كذلك أن ازدهار الاعتزال قد مثل ازدهاراً للحضارة العربية الإسلامية - والعكس صحيح ايضاً - ذلك انه بذل جهد مضاعف لجعل العقل هو الأساس الذي يحتكم إليه الجميع ، المسلم والمسيحي واليهودي والصابئ والملحد أيضاً، فالعقل هو الذي وحد المختلفين ديناً وجنساً وثقافة تحت لوائه ، فكان إن ازدهرت الحضارة العربية الإسلامية وأيقظت أوربا من سباتها العميق فيما بعد. وبعد أن تم القضاء على الاعتزال ( العقل) نامت الحضارة العربية الإسلامية حتى الآن. وظهر الإرهاب عندما برزت إلى السطح مقولات تهاجم العقل وتسخر من قدراته ، وترى فيه عدواً يجب القضاء عليه وعلى أنصاره ، منها الفلسفة أسس السفه كما قالوا وراجت الأشعار التي تهاجم الاعتزال والفلسفة على السواء منها البيت المنسوب إلى أبي سعيد بن دوست (431هـ) القائل: ياطالب الدين اجتنب سبل الهوى [c1] *** [/c] كي لا يغول الدين منك غوائلالرفض هلك واعتزالك بدعة [c1] *** [/c] والشرك كفر والتفلسف باطل وقد أورد الطبري عندما أرخ لسنه 279هـ أن الوراقين حلفوا ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة واشتهرت عبارة ابن الصلاح القائلة :” من تمنطق فقد تزندق” وهي تعني في الواقع أن الإنسان إذا حاول استخدام عقله وفكر تفكيراً منطقياً متماسكاً ، أوصله ذلك إلى الزندقة وبالتالي فالعبارات السابقة كلمات باطل يراد بها الإرهاب والحجر على العقول ومساواة الإنسان بالحيوان وسيادة فكر ديني أعمى ومتعصب لا يستطيع العيش في كنف نور المعرفة العقلية لان الضوء - النور - يؤذيه وقد تعود العيش في الظلام ، وكان من نتيجة إهمالهم للعقل والمنطق أنهم لا يفرقون بين العرض والجوهر ، فأخذوا من الدين الأعراض - الشكل الخارجي - واعتبروه أساس الدين وجوهره ، وتركوا جوهر الدين الحقيقي ، الذي به يصبح التدين حقيقة وفصلوا الدين على مقاساتهم فقط ، ابتداءً باللحية وانتهاءً بالسروال ، فهم يشبهون ( بروقرسطس) اليوناني ، الذي يحاول أن يجعل الناس على مقاس واحد كما تحكي عنه الأسطورة فقد جعل سرير فندقه مقاساً للمسافرين ، فان كان طول المسافر يزيد على طول السرير قص له رجليه حتى يتساوى الطولان ، وان كان طول المسافر قصيراً يعمل على مطة وتطويله حتى يتساوى الطولان ، كان يحاول أن يحقق ما يراه صواباً وهو أن يخرج الناس من عنده بقامات متساوية ، حتى وان تعرضوا للموت . وهذا ما يفعله الفكر الإرهابي، هو أن يجعل الناس متساويين في الجهل وعدم الفهم عن طريق استئصال عقولهم وإلا فان الموت وهو مصيرهم المحتوم. ومعروف أن الإرهاب يبدأ من الفكر، فعندما يغيب العقل ينمو الإرهاب ويتكاثر والعكس صحيح والإرهاب يشبه النمل الأبيض ( الأرضة) وأوجه التشابه بينهما إنهما يعيشان ويتكاثران في الظلام، وكذلك أن وجودهما مرتبط بالخراب والتدمير، وأنهما لا يقبلان الأخر. الإرهاب سرطان ينهش في جسد الإنسان ويقضي عليه وهو داء خطير ينتج عن تضخم ( الأنا) وينتشر بسرعة الريح ليقضي على الآخر ، وسببه اولاً واخيراً قلة المعرفة ونقصد بقلة المعرفة ما نقصده بقولنا قليل الأدب ، فنحن نعني بقولنا قليل الأدب ، أي ليس له أدب على الإطلاق . وقليل المعرفة جاهل بامتياز لكنه لا يعرف ذلك ، بل يعتقد انه يعرف كل شيء فالإنسان الأعمى الذي يبصر للمرة الأولى يعتقد أن ما أبصره يمثل حقيقة العالم بالنسبة له ، تماماً مثل الأعمى الذي تمنى أن يرى العالم ولو لدقيقة فكان إن تحققت أمنيته وعاد إليه البصر فنظر، أول ما نظر إلى مؤخرة ( العنزة) وعاد أعمى كما كان فكان إذا سمع عن شيء استفسر أين يقع من مؤخرة العنزة ، وكذلك قليل المعرفة الذي يقرأ لأول مرة ويظن أن الآراء والأقوال التي قرأها هي الحقيقة وما سواها باطل يجب القضاء عليها ، من هنا يبدأ الإرهاب ، فعندما تتحول الآراء إلى حقائق يبدأ الإرهاب فكل إنسان يحق له أن يمتلك رأياً وان يعبر عنه، لكن لا يحق له أن يمتلك حقيقة وان يحاول أن يفرضها على الآخر، فالفرق بين الرأي والحقيقة كالفرق بين الحلم والواقع. وعلاج الإرهاب يبدأ من معرفة الإنسان لنفسه معرفة حقيقية تضعها في مكانها الصحيح ، بحيث يرى الإنسان نفسه من خلال الآخر وبه ايضاً لا من خلال نفسه ،ولا يتم ذلك إلا بدراسة الفلسفة على اعتبار أن الفلسفة محاولة للفهم والمعرفة بواسطة العقل وأول درس يستفيده الإنسان من دراسته للفلسفة هو التواضع، ذلك لأنها تكشف لنا أن الكثير من معارفنا ومعتقداتنا ، قد تكون غير صحيحة وكما قال ( برتراندرسل) إن الإنسان لا ينبغي أن يكون على يقين من شيء ،فإذا كنت على يقين من شيء فأنت يقيناً على خطأ فما من شيء يحتمل اليقين ، وعلى الإنسان باستمرار أن يضع معتقداته موضع الشك . فإذا عرف الإنسان أن حدود معرفته معروفه مسبقاً بطلت حقائقه التي يظن انه يمتلكها ، وتحولت إلى آراء تحتمل الصواب والخطأ ، وإذا كان الإنسان يعرف انه يعرف أشياء كثيرة ، يعرف كذلك انه يجهل الكثير مما يعرف لكن الإرهابي يعتقد انه يعرف كل شيء فهو الاول والأخير ، تبدأ الحقيقة به واليه تنتهي ،وهو كما قال عنه المسيح عليه السلام / (يرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه) ، وهذا تفكير لا يمت للعقل بصلة ، والإرهاب لا يعيش في وجود الفلسفة أو حتى بجوارها لأنها تعمل على تعريته وفضيحته .فسقراط يعرف انه لا يعرف شيئاً وذلك سر عظمته ، علم سقراط بجهله جعله فيلسوفاً ، أما الإرهابي فهو أعمى ، لان من يعيش من دون فلسفة يعيش مغمض العينين كما قال ديكارت من اجل ذلك فالإرهاب يعرف كل شيء عن كل شيء ، الحق ما يراه ، وما يراه الحق ، وبالتالي لا يقبل الآخر المخالف له ديناً ومذهباً وجنسياً ولوناً ووطناً ، مصاب بعمى الألوان ، لا يميز إلا نفسه فقط أو من هم على شاكلته ، نسخ مكررة من التوائم السيامية التي تموت غالباً . والآخرون من وجهة نظره ليسوا هم الجحيم ،كما يرى ( سارتر) بل يجب أن يذهبوا إلى الجحيم في الدنيا وفي الآخرة. الفلسفة تعلم الإنسان أن الإنسانية بحد ذاتها - هي الديانة الوحيدة المعترف بها لدى البشر وتسقط كل الاعتبارات الأخرى ، أنت إنسان ، هذا يكفي لا تهتم بالشكليات الأخرى ، اللون والجنس والثقافة والعرف ، الإنسانية دين ووطن ولون ، وهي لغة عالمية يجب أن يتفاهم بها ومن خلالها جميع بني البشر ويعلموها لأبنائهم عندها سوف يختفي الإرهاب. واخيراً : كم نحن بحاجة إلى الفلسفة والى تشجيع دراستها وتعميمها للناس جميعاً ويجب على الدولة أن تعمل على إنشاء أقسام جديدة للفلسفة في مختلف الجامعات وان ترفع معدلات القبول في أقسام الفلسفة -إن وجدت - كي تعيد للعقل اعتباره واحترامه ، لان الفلسفة هي أم العلوم جميعاً وهي روح العلم ، فالحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة عبارة عن كيان جسده العلم وروحه الفلسفة ، وكل المجتمعات المتحضرة تهتم بالفلسفة ، وتحرص على تدريسها لأنها وسيلة تنوير وتحرير وتقدم . وبالتالي يرتبط التقدم بازدهار العقل بما هو، فلسفة روح من جانب، وبما هو علم جسد من جانب آخر. وليس صحيحاً أن الفلسفة لم تعد غير ذات موضوع بعدما حققه العلم من انجازات . وربما تصبح الفلسفة مهمة أكثر من ذي قبل ، فإذا كان العلم قد حول الإنسان إلى ترس ضمن آلة وسلب منه إنسانيته، فان مهمة الفلسفة هي إعادة الاعتبار لإنسانية الإنسان المستلبة وما شيوع العيادات الفلسفية - على غرار العيادات النفسية - في معظم دول أوروبا وأمريكا إلا محاولة لكبح جماح التقدم المادي للعلم على حساب الروح الإنسانية للفلسفة.
|
ءات
المجتمع بين داء الإرهاب ودواء الفلسفة
أخبار متعلقة