مع الأحداث
في التاريخ القديم والحديث كانت تتشكل حركاتٌ دينية عابرةٌ للحدود لها طموحات سياسية، ربّما قيّض لها الوصول للسلطة السياسية وربّما قُضي عليها من قبل هذه السلطة، وعلى هذا نماذج متعددة منها القديم ومنها المعاصر، فمن القديم حركات الخوارج ودعوة بني العبّاس قبل استيلائهم على السلطة السياسية المتمثلة في الخلافة وغير ذلك، ومن المعاصر قصّة الأحزاب الشيوعية في كثيرٍ من بلدان العالم.مشكلة مثل هذه الحركات والأحزاب أنها تظلّ دائماً تحت ضغط متواصل بسبب محاولتها المواءمة بين ولاءين:الأوّل: ولاءٌ للحزب وأفكاره ومرجعيته الفكرية والسياسية، التي كانت هي الأساس الذي بنى عليه هذا الحزب أو هذه الحركة مشروعيتهما السياسية والاجتماعية والفكرية، والثاني: ولاءٌ للوطن الذي يتشارك فيه معهم كثيرٌ من الحركات والأحزاب والمواطنين بشتى تصنيفاتهم وبأفكارهم المتخالفة ومفاهيمهم المتعددة، والوطن بمفهومه الحديث والمعاصر يشترط ولاءً غير مقسّمٍ وغير منقوصٍ، ويشترط أولويّةً في الولاء لا تنازعها أولويةٌ أخرى مهما كانت.في العالم العربي والإسلامي تعيش كثيرٌ من الحركات والأحزاب هذا التناقض الداخلي الذي تفرضه الولاءات المشتّتة، والتي تصل –أحياناً- حدّ التعارض، وعلى هذا أمثلةٌ متعددةٌ منها على سبيل المثال: “حزب الله” اللبناني ذو المرجعية الإيرانية المطلقة، وبعض أحزاب حركة “الإخوان المسلمين” في عددٍ من البلدان العربية والإسلامية، كالأردن وفلسطين والكويت وغيرها.إنّ وجه التشابه والالتقاء في هذا المأزق بين حزبٍ شيعيٍ تابعٍ بقضّه وقضيضه، بقيادته وأفراده للوليّ الفقيه، وبين حركاتٍ سياسيّةٍ سنيّةٍ تشارك في برلمانٍ وطنيٍ منتخبٍ في الأردن وفلسطين والكويت وغيرها، وجه التشابه في هذا المأزق تدفع إليه عدة ركائز أساسيةً في تكوين الحزب أو الحركة منها: 1- أن هذا الحزب أو الحركة يمثّل حالةً أيديولوجية عقائدية مطلقة، تعمل وفق شروط وطنٍ واقعيٍ محدود زمانياً ومكانياً، أو تاريخياً وجغرافياً.2- أنّ هذا الحزب أو الحركة في عملهما الاجتماعي يسعيان جاهدين إلى عزل المجموعات البشرية التابعة لهما عن بقية المجتمع في الوطن، عبر عددٍ من المفاهيم والآليات والوسائل، تضمن عيش هذه المجموعات في المجتمع من جهةٍ مع انعزالٍ شعوري عنه في الوقت ذاته، ويمكن رصد ذلك فيما كتبه وضّاح شرارة عن “حزب الله” في كتابه الجميل “دولة حزب الله”، وفي أدبيّات الإسلام السياسي المتعلّقة بمفهوم “العزلة الشعورية” الذي دشّنه سيّد قطب.3- أنّ هذا الحزب وتلك الحركة متأثران في تكوينهما الحركي بالأحزاب الشيوعية واليسارية والاشتراكية، حيث المركزية ودقّة التنظيم والولاء المطلق لدى الأتباع، ويظهر هذا جلياً في خطابات القيادات الفكرية المؤسسة لهذا الحزب أو تلك الحركة، فمن خطابات الخميني التي تأثر فيها كثيراً برموز الشيوعية استشهاده المتكرر بقول ماوتسي تونغ الزعيم الشيوعي الصيني:”الحزب من الجماهير كما السمكة من الماء”، إلى خطابات حسن البنّا التي أثنى فيها ثناءً عاطراً على التجربة الستالينية في روسيا وتجربة هتلر في ألمانيا وتجربة موسوليني في إيطاليا، وكذلك سيّد قطب في كثيرٍ من تنظيراته الاجتماعية والسياسية.4- أنّ هذا الحزب وتلك الحركة قد شيّدا لهما وعبر مدّة طويلة من العمل عدداً من الأذرع الاجتماعية والاقتصادية المستقلّة عن الدولة، والتي يمارسان من خلالها استقطاب الأتباع الجدد والمحافظة على الأتباع الحاليين، وذلك عبر تقديم كافّة أشكال الرعاية من الرعاية التعليمية إلى الرعاية الصحيّة إلى غيرها من وسائل المساعدة المادية والمعنوية.5- استخدم الطرفان “المسجد” كأساسٍ للانطلاق وتوسّعا في دوره من كونه داراً للعبادة، إلى جعله داراً للعبادة والسياسة واستقطاب الأتباع والتدريب على القيادة والتنظيم، وترويج الشعارات والأفكار والمفاهيم الحزبيّة بعد إدماجها بالشعارات والأفكار والمفاهيم الدينية الخالصة بهدف الحصول على أكبر قدرٍ من التأثير في الأتباع من خلال تحفيز العاطفة الدينية المغروزة في طبيعة البشر ووجدانهم.6- استغلّ الطرفان الأحداث الإقليمية والدولية الكبرى أقوى استغلال لتقوية بنيان الحزب أو الحركة، وتطوير القدرات القيادية لدى الأتباع، واختبار آليات التنظيم والحركة، وعلى ذلك أمثلة عدّة منها مثال أفغانستان في الثمانينيات وما اكتنفه من ظروفٍ إقليمية ودولية على جانب الحركات ذات البعد السنّي، وعلى البعد الشيعي أمثلة أخرى منها عددٌ من الحروب التي خاضها أو اشترك فيها “حزب الله” في لبنان منذ إنشائه وحتى اليوم.يكمن واحدٌ من أهمّ الفوارق بين حركات الإسلام السياسي وبين “حزب الله” في أنّ الثاني ينطلق من أساس مرجعيّةٍ سياسيةٍ ثابتةٍ وضاربة الجذور في المشهد السياسي العالمي وتتمثّل في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقائدها “الوليّ الفقيه”، بينما لم تزل الأولى –أي حركات الإسلام السياسي- تلتزم بمرجعيّةٍ حركيّةٍ مقرّها مصر (لدى أهمّ هذه الجماعات وهي حركة الإخوان المسلمين) وتسعى جاهدةً- في كلّ مكانٍ تنشط فيه- إلى إقامة جمهوريةٍ إسلاميةٍ تكون “دولة الخلافة” والمرجعيّة السياسية الثابتة لها، وهو ما لم يتحقق لها بعد، فالحركات الإسلامية التي وصلت إلى السلطة إمّا تحوّلت عن طروحات الحركة الأصليّة ولم تلبّ طموحاتها ومشروعها المتخيّل وإمّا لم تكن منها أصلاً وشواهد ذلك نماذج التجربة في تركيا والسودان وأفغانستان.في تركيا، الحزب الذي يمثل حركة الإسلام السياسي هناك وهو حزب العدالة والتنمية يكاد أن يكون حزباً ليبرالياً لا علاقة له بأطروحات الإسلام السياسي، فهو خاضعٌ بشكل كاملٍ لشروط اللعبة السياسية والولاء الوطني لتركيا، وقد اضطره الحال إلى ترك منظومة الإسلام السياسي الفكريّة وراءه ظهرياً ما أكسبه نجاحاً في الشارع وجماهيرية أعرض.أما في النموذجين “الطالباني” والسوداني، فقد كانت “طالبان” تمثّل حالةً استثنائيةً وربما شذوذاً في المشهد العالمي، ذلك أنّها حركة لو لم يتوفّر لها دعمٌ إقليمي قويٌ في البناء والتنظيم والدعم تمثّل في باكستان، لولا ذلك لما كانت حركة قابلة للنجاح ولا للاستمرار، وقد وقعت في شرّ أعمالها حين حاولت، بغباء لا تحسد عليه، أن تعاكس حركة التاريخ وشروط الواقع.أما في السودان، فقد وأدت الطموحات الشخصية والضغوطات الدولية وحاجات المواطنين كلّ حلمٍ ببناء النموذج المتخيّل لدى حركات الإسلام السياسي وانخرط السودان في حكمٍ استبداديٍ لا يختلف عن الأنظمة التي ثار عليها إلا بالمزايدة عليها فيما كان يتهمها به!إنّ طريق الخلاص من هذه الأحزاب والحركات واعتقالها لتصوّر الأفراد الديني، يكمن في بناء خطابٍ ديني متسامح وبنّاء، يحمي المجتمع وأفراده من التطرف أو الولاءات عابرة الحدود، كما يمنح الدولة مجتمعاً متصالحاً مع خطط التنمية ومع الوازع الديني الذاتي، كما يكمن في إعادة بناء سلّم الأولويّات والمفاهيم الدينية لدى الفرد، ونشر ثقافة البناء بدلاً من ثقافة الهدم، وثقافة الحياة بدلاً من ثقافة الموت، وتصحيح مفاهيم دينية متداولة والتحكّم في مدلولاتها، وذلك مثل مفهوم “التكفير” أو “الحاكمية” أو “الجاهلية” أو “الولاء والبراء” أو “الجهاد” أو نحو ذلك من المفاهيم المنتشرة والمتفشيّة بشكلٍ مرض[c1]عن / صحيفة “الاتحاد” الاماراتية[/c]