لا أحد ينكر أن الساحة العراقية تعيش هذه الأيام فتنة طائفية مدمرة، أكلت الأخضر واليابس، وغدت تهدد وحدة الكيان الوطني نفسه، كما بدت نذرها تسجل في ساحات عربية وإسلامية أخرى عديدة. وتسير أغلب التحليلات الرائجة إلى النظر إلى هذه الفتنة في سياق الصراع العقدي القديم بين الجماعتين الرئيسيتين في النسيج الإسلامي (السنة والشيعة).من هذا المنظور يقرأ الصراع الدائر حاليا في العراق، بأنه ثأر من اضطهاد الدولة السنية التي حكمت العراق الحديث، للأغلبية الشيعية التي أصبحت تتمتع بالسلطة المكفولة لها بالموازين الديمقراطية. وللتدليل على هذه المقاربة، لا تغور الأدبيات العقدية والسياسية التي تستخدم القاموس التراثي الشيعي الوسيط في تكريس المعادلة السياسية الحديثة، في الوقت الذي تقدم الأطياف المتنوعة التي تتشكل منها المقاومة العراقية وحركات الإرهاب النشطة بأنها ردة فعل سنية على السيطرة الشيعية. ولئن كانت هذه الصورة المبسطة مغرية لاستكناه المعادلة العراقية المعقدة، إلا أن تاريخ الأفكار يبين لنا أن المفاهيم والرموز والمعتقدات عندما تنتقل من سياقاتها الأصلية تتغير رهاناتها، ووظائفها وإن لم تتغير ملفوظاتها وصيغها الدلالية.وفقا لهذا المبدأ لا معنى للنظر إلى الصراع الدائر حاليا في العراق بأنه صراع عقدي سني ـ شيعي، حتى ولو كان في أحد أهم جوانبه صراعا تؤدي فيه المؤسسة الشيعية دورا محوريا.فالفرق واسع بين التشيع كهوية عقدية والتشيع كتركيبة مؤسسية لا تستوعب بالضرورة هذه الهوية، على الرغم من منزلة المرجعية والإمامة في البنية المذهبية الشيعية.ففضلا عن كون الطائفة لم تعد المحدد الرئيس في هوية المواطن العراقي الحديث الذي صاغت الدولة الوطنية وعيه السياسي فإن المؤسسة الدينية نفسها خضعت للتحول نفسه، وأرغمت على إعادة بناء هويتها وتركيبتها وفق التحولات الجديدة. وغني عن البيان أن الدولة العراقية الحديثة في نشأتها لم تكن طائفية بل بنيت على أساس النموذج البريطاني، وأريد لها أن تكون كيانا فيدراليا يستوعب التنوع القومي والديني والطائفي. كما أن الهوية الإيديولوجية (اليسارية ثم القومية) للدولة الجمهورية التي تلت انهيار المملكة الهاشمية تجاوزت الاستقطاب الطائفي وألغته. صحيح أن فترة حكم صدام حسين شهدت (خصوصا بعد دخوله في الحرب مع إيران) مواجهة حادة مع المؤسسة الشيعية، ذهب ضحيتها رموز فكرية ودينية مرموقة، من أمثال الأخوين باقر وصادق الصدر، كما تم تهجير آلاف العراقيين الشيعة إلى إيران بعد نزع الجنسية منهم بحجة أن أصولهم إيرانيه، وتعرض سكان جنوب العراق إلى القمع الشديد بعد انتفاضة 1991، إلا أن هذه الأحداث لا تنفصل عن غيرها من فصول القمع التي تعرضت لها أطياف أخرى من الشعب العراقي في مقدمتهم الأكراد السنة، وباقي ألوان الطيف السياسي (الإخوان المسلمون والحزب الشيوعي والتيار الناصري بل القيادة التاريخية لحزب البعث نفسها). ويجب الإقرار مع ذلك، أن الحرب العراقية الإيرانية واكبها استقطاب طائفي وظف لأغراض إيديولوجية وإستراتيجية آنية، فكان من السهل تفكيك المرامي الطائفية في رمزية الصراع العربي الفارسي التي رفعها النظام آنذاك، كما ان الصيغة الطائفية البارزة للجمهورية الإيرانية الجديدة حولت قم إلى مركز استقطاب إيديولوجي طبيعي لشيعة العالم، وفي مقدمتهم شيعة العراق الذين ترتبط حوزاتهم العريقة في النجف وكربلاء بعلاقات عضوية مع حوزات قم ومشهد.ومن هنا كان من البديهي أن يمتزج المعطى الطائفي بالمعطى السياسي الاستراتيجي وأن يترك الصدام القائم بين النموذجين العروبي ـ العلماني (العراق) والفارسي ـ الشيعي (إيران) أثره على طبيعة المؤسسة الشيعية في العراق، التي خرجت منها فكرة ولاية الفقيه (أيام إقامة الإمام الخميني في النجف).فبالإضافة إلى كون أهم التنظيمات الشيعية الحاكمة اليوم في العراق أسست في إيران واحتضنت قيادتها طويلا من الحكومة الإيرانية، فإن وحدة المرجعية المذهبية ولدت رباطا قويا قابلا للاستثمار السياسي (منزلة السيد السيستاني في البنية المؤسسية الشيعية الراهنة).وقد أفضت التجربة الديمقراطية الهشة التي عرفها العراق بعد سقوط النظام البعثي إلى إعادة إنتاج الهوية الشيعية، بفعل مزدوج من دور المؤسسة الدينية التي كانت مغيبة عن الصراع السياسي وأثر انهيار البنية المركزية للدولة الذي أدى إلى النكوص إلى الهويات الخصوصية الضيقة. بيد أن الأمر هنا لا يعني الرجوع لهوية شيعية ما قبل حديثة، على الرغم من الواجهة الخطابية، بل يعني توظيف المعطى الطائفي في صراع مواقع ومصالح وتحالفات إقليمية، ليس من الصعب إبراز مراميه ورهاناته.ونلمس الاتجاه نفسه على الضفة السنية، وإن اختلفت الآليات لغياب مؤسسة دينية منظمة وفاعلة.فالتيارات السلفية المتطرفة تعود لكتب الفتنة لتكفير الشيعة وتبرير قتلهم فيتغير منطق المواجهة من محاربة المحتل إلى استهداف المخالف في المذهب، وبعض أطياف المقاومة (بما فيها الاتجاهات القومية والعلمانية) توظف هاجس خوف المجموعات السنية من التهميش والإقصاء لإذكاء رفضها للاحتلال وللحكومة الموالية له.إنها بطبيعة الأمر هويات منتجة، مصنوعة، ليست طبيعية أو عفوية، لا تعبر عن انتماءات عقدية أو مذهبية، بل تندرج في منطق صراع سياسيي استراتيجي يحسمه الساسة وليس الفقهاء وعلماء الكلام. [c1]* كاتب موريتاني[/c]
|
فكر
إنهم يعيدون إنتاج الطائفية
أخبار متعلقة