في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت اليابان ومصر تبعثان البعوث إلى أوروبا من أجل معرفة سبب تقدم تلك الأمم، ونقل التجربة الأوروبية في التحديث إلى مصر واليابان. وفي بداية الخمسينات من القرن العشرين، بدأت كوريا الجنوبية انطلاقتها التنموية، فيما كانت كوريا الشمالية تعمل على تجربة تنموية مختلفة، وتحكم شعبها حكماً شمولياً يحسب على الفرد خطواته، ويتحكم في ما يأكل ويشرب، وكم يأكل ويشرب، وحتى كيف تكون علاقته مع زوجته أو رفيقته. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، انقسمت ألمانيا إلى شرقية وغربية، كان الحكم في الجزء الشرقي منها شمولياً، لم يكن الفرد فيه إلا مسماراً صغيراً في آلة ضخمة هي الدولة. وقبيل دخول الخمسينيات من القرن الماضي، انقسمت الهند التاريخية إلى هند وباكستان متعاديتين، كما هو الحال بين الكوريتين والألمانيتين.ومع بدايات القرن العشرين، بدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي انطلاقتهما نحو الحداثة، وبطريقين مختلفين ومتناقضين، حتى أصبحا بعد الحرب العالمية الثانية سيدي العالم المعاصر. وفي عالم العرب، تأسست دولة إسرائيل بُعيد الحرب العالمية الثانية، وشهدت تحولات في تاريخها القصير من كونها «دويلة العصابات الصهيونية»، إلى «الكيان الصهيوني»، إلى «ما يُسمى دولة إسرائيل»، ثم أصبحت دولة القوة العسكرية في الشرق الأوسط.اليوم، وحين نقارن وضع هذه الدول، نجد التالي: أصبحت اليابان معجزة في الاقتصاد والتقنية، فيما تحولت مصر إلى مثال يُضرب في البيروقراطية وعدم القدرة على مراوحة المكان. كوريا الجنوبية تحولت إلى دولة صناعية، يتجاوز دخل الفرد فيها التسعة عشر ألف دولار سنوياً، فيما شقيقتها الشمالية ترسانة سلاح، ومجتمع فلاحي بسيط يفتقد إلى أبسط أنواع التقنية، والمجاعة والخوف والعزلة وعبادة الزعيم تخيم بظلالها على كل ركن من أركان بلاد كيم إيل سونغ وكيم يونغ إيل. وفي ألمانيا، تحولت ألمانيا الاتحادية إلى معجزة في تحدي الظروف، ونهضت العنقاء الألمانية من بين الأنقاض، ونافست محتليها في كل المجالات، فيما سقطت شقيقتها «الديموقراطية» سقوطاً دراماتيكياً سريعاً، في لحظة مشهودة من لحظات الزمن، وأصبح الجميع اتحادياً. والهند اليوم أصبحت تنافس على مقعد من مقاعد المتقدمين، فيما بقيت باكستان تعاني من أزمة تلد أخرى، رغم أن الجميع في النهاية من الهنود تاريخياً. وبعد سبعين عاماً من التجربة السوفيتية، سقط اتحاد لينين وستالين وخروتشوف وبريجينيف، في أول تجربة له في فتح النوافذ للشمس على يد غورباتشوف، وأصبحت الولايات المتحدة هي المهيمنة على عالم اليوم، اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، فقد غزت العولمة ذات المنشأ الأميركي كل ركن من أركان المعمورة، وأصبح «الأسلوب الأميركي في العيش» هو السائد عالمياً، حتى لو كان العداء لأميركا يسير جنباً إلى جنب مع انتشار ذلك الأسلوب. وفي بلاد العرب، تحولت «دويلة العصابات الصهيونية» إلى مارد اقتصادي وتقني، يُنتج السلاح وشرائح الكومبيوتر والطائرات، ويفوق فيه دخل الفرد السنوي معظم الدخل الفردي للعرب في مختلف بلادهم، ويصرحون بأنهم سيصبحون في مصاف الدول الأوروبية خلال عشر سنوات أو أقل، في الوقت الذي يتنازع الفلسطينيون حول سلطة باهتة وهشة غير كاملة، ويجزر العراقيون بعضهم بعضاً، في بحر دماء أمطاره لا تتوقف، ويدخل اللبنانيون إلى طائفية بغيضة حسبنا أنهم تجاوزوها من زمن، ونفق مظلم الله وحده يعلم إلى أين يقودهم، ولا بصيص نور في أخره. ويتنافر الخليجيون في وقت لا بد فيه من التعاون والتكامل، ويقبع السودانيون في ظلام صراع دام بين جنوبه وشماله، ويتصارع المغاربة حول أمتار من الأرض، وتضيع ثروة الليبيين في مغامرات لا هدف لها إلا إرضاء الزعيم , ويتناحر الصوماليون على أمل إعادة التجربة الطالبانية الفاشلة، ورغم ذلك يتقاتلون. والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: لماذا كان الفرق، رغم الفرصة التاريخية الواحدة، ورغم تشابه الظروف، إن لم نقل تماهيها، ورغم أن الله خلق آدم وحواء وسلالة البشر بذات العقل؟الجواب يكمن في الآيديولوجيا والثقافة المجتمعية التي تنتجها، والتي تقف وراء سلوك الفرد والدولة والمجتمع في آن واحد. والحقيقة أننا لا نستطيع تناول هذا الموضوع من كل جوانبه في مقالة عاجلة، لذا سيكون التركيز على مفهوم «التحدي»، المتحدث عنه في المقالة السابقة، وكيف يتأثر بالثقافة السائدة، وما ينتج هذه الثقافة من عقل مُشكل. فحين يكون العقل مؤدلجاً، فإنه يُنتج ثقافة مجتمعية مؤدلجة، تتسرب إلى عقل الفرد من خلال مؤسسات التنشئة، فتعجنه من جديد إما سلباً وإما إيجاباً. فعندما يلقن السوفيتي أو الكوري الشمالي أو الألماني الشرقي أو الناصري (نسبة لجمال عبد الناصر) والبعثي، أنه لا حقيقة إلا حقيقة الآيديولوجيا المهيمنة، والتي يمثلها الحزب الواحد والزعيم الأوحد، فإنه يُعطى كل الإجابات لكل شيء في الحياة، وما بعد الحياة ربما، ويُحدد له الطريق الأوحد للتفكير والسلوك، ويتحول إلى كائن معتمد على الدولة في كل وجه من وجوه حياته، فيتعطل العقل لديه، ويموت الحافز في أعماقه، وتذبل شرارة التحدي، فيكون التخلف كل التخلف، مهما بدا أن الدولة تفعل كل شيء، كما في حالة التجارب الشيوعية السابقة. الدولة والحزب هي التي تتحدى، وذلك لأغراض آيديولوجية بحتة، وهي التي تفعل كل شيء نيابة عن الفرد، ومن المعلوم أن أي عضو لا يستخدم مآله الضعف ومن ثم الاندثار، وهذا هو بالضبط ما حدث في الحالة المتحدث عنها. فالتحدي، حين يكون مدفوعاً بمحفزات آيديولوجية بحتة، لا ينتج واقعاً حضارياً بقدر ما يُنتج شكلا حضارياً هشاً، قابلا للانهيار في أي لحظة تضعف فيها الآيديولوجيا، في حالة مشابهة لحالة العصبية لدى ابن خلدون. صحيح إن الآيديولوجيا تعتبر من الضرورات في بداية بناء الحضارة، ولكنها تتحول إلى كارثة على الحضارة إذا استمرت في توجيه مسارات الحضارة بعد ذلك. كل الحضارات، وكل الدول والكيانات التاريخية بدأت وفق نظرة معينة إلى الوجود، أي آيديولوجيا معينة، ولكن الحضارات التي استمرت بعد ذلك، هي تلك التي استطاعت الانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التكوين، ولم تبق في سجن آيديولوجيا التأسيس إلى ما لا نهاية، وهنا يكمن الفرق بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، أو حتى إسرائيل والدول العربية مثلا. فالولايات المتحدة تأسست وفق آيديولوجيا معينة، وآيديولوجيا دينية تحديداً، ولكنها بعد ذلك بقيت نصاً مفتوحاً قابلا للزيادة والنقصان، فيما تأسس الاتحاد السوفيتي وفق آيديولوجيا مغايرة، وهذا ليس نقصاً، ولكن النقص كان حين استمرت هذه الآيديولوجيا في تحديد المسارات التي لا يمكن الخروج عن خطوطها بعد ذلك، فكان الانهيار في النهاية. واليوم، ومع إدارة المحافظين الجدد، تقع الولايات المتحدة في نفس الخطأ السوفيتي حين يغلقون نصاً يفترض أن يكون مفتوحاً، وذلك هو بداية الانحدار إن لم تُدارك الأمور. وإسرائيل تأسست وفق الآيديولوجيا الصهيونية، ولكن هذه الآيديولوجيا الصهيونية الأساسية لم تعد هي المعيار الرئيس بعد ذلك.الحضارة الحقيقية والباقية هي تلك التي ترسخ شرارة بروميثوس وثقافة التحدي في أعماق الفرد أولا، وليست تلك التي تبني أشكالاً حضارية لأغراض لا علاقة لها بالحضارة، بقدر ما لها علاقة بالدعاية للآيديولوجيا و«انتصاراتها»، دون أن يكون لفلسفة الحضارة وقيمها مكان في عقل ذات الفرد. أثينا الحضارية، وسبارطة المؤدلجة، كانتا ملء السمع والبصر ذات يوم من أيام التاريخ، ولكن أثينا بقيت حتى يومنا بحضارتها وقيمها، فيما لم يعد لسبارطة أي ذكر أو قيمة إلا كدرس من دروس التاريخ.من هنا يمكن تقسيم العالم، بل وتاريخ الإنسان على هذه الأرض، إلى قسمين: المتحدون حضارياً، والمتحدون آيديولوجياً، وبينهما من هو في الهامش حضارياً وآيديولوجياً، لا له ولا عليه، أو «لا يهش ولا ينش»، كما يقول المصريون في أمثالهم. المتحدون آيديولوجياً قد ينتجون شكلا من أشكال الحضارة للحظة زمنية معينة، ولكنها حضارة سرعان ما تندثر ولا تترك بصمة خالدة في التاريخ. أما المتحدون حضارياً، أي أولئك الذين يكون الفرد فيهم متشرباً لقيم الحضارة، وأولها قيمة التحدي، فإنهم يبقون في سجل الخلود وإن اندثروا مادياً. مشكلتنا العربية المعاصرة، وهذا محاولة للإجابة على السؤال في أول المقالة، هي أننا دائماً من الصنف الثاني، أي المتحدون آيديولوجياً، دون أن نتشرب قيم الحضارة، كما فعلنا ذات يوم من أيام التاريخ. وسواء كنا نرفع لواء الإسلامية أو الليبرالية أو القومية أو اليسارية، فإننا نبقى أسرى الآيديولوجيات دون أن نحاول الخروج منها ولو بعد حين. سر تخلفنا وأزماتنا هو أننا لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية..بل آيديولوجية، بالإذن من نزار قباني.[c1]* مفكر وأكاديمي سعودي[/c]
|
فكر
من التحدي الآيديولوجي إلى التحدي الحضاري
أخبار متعلقة