مستخدما طبلته الصغيرة وأنامله المدربة
القاهرة/14اكتوبر/ وكالة الصحافة العربية : ( اصحى يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم). بهذه الكلمات التي تصاحبها دقات على الطبلة بعصا صغيرة يبدأ المسحراتي مهمته الليلية في الواحدة من بعد منتصف الليل يجوب شوارع القاهرة وأزقتها وأحياءها الشعبية ليوقظ أهلها لتناول السحور.. وقد أصبح منذ بدايته في صدر الإسلام وحتى الآن شخصية محببة للصغار قبل الكبار وكان الصغار في الأحياء الشعبية يشاركونه النداء ومعهم فوانيس رمضان.فالمسحراتي بطل شهر رمضان لمدة 30 يوما أدواته صوت جهور جميل ينشد الابتهالات الدينية والأغاني الشعبية مع طبلة صغيرة الحجم يدق عليها دقات منتظمة ثم طورت الطبلة من صغيرة إلى كبيرة نسبيا يدق عليها بأنامله المدربة أو بعصا صغيرة يصنعها المسحراتي يدويا قبيل الشهر الكريم وكان المسحراتي يردد في جولاته الليلية اليومية الأدعية والابتهالات ففي العشر الأوائل من رمضان ينادي «جئت يا شهر الصيام بالخير والبركات» والأيام العشر الثانية يقول: «يا نصف رمضان يا غفران الذنوب»أما في العشر الأواخر يقول: «يا وحشة لك يا شهر الصيام».ومهنة المسحراتي ليست غريبة على العالم الإسلامي .. حيث كان بلال مؤذن الرسول - صلى الله عليه وسلم- هو أول مسحراتي عرفه التاريخ الإسلامي ، فكان بلال يجوب الطرقات لإيقاظ المسلمين .وبعد ذلك انتشرت هذه المهنة ، فأصبح المسحراتية يقومون بالنداء أمام كل منزل بقدر المكافأة التي يقدمها صاحب المنزل ، وقيل إن مصر عرفت المسحراتي أول ما عرفته حاكماً ، فقد لاحظ إسحاق بن عتبة والي مصر وذلك في عام 338 هـ ، حيث كان لا أحد يقوم بتسحير الصائمين في رمضان فقام بهذا العمل تطوعاً ، ومن ثم استقرت هذه الشخصية في الوجدان الشعبي [c1]مسحراتي الفاطميين [/c]وشخصية المسحراتي معروفة منذ عهد الدولة الفاطمية، لكنه كاد أن يختفي في عهد المماليك ، إلا أن الظاهر بيبرس أعاده وكثر الحديث عنها في كثير من المؤلفات ، حتى أولئك المستشرقين ، قد جذبتهم هذه الشخصية ، بعد أن زاروا مصر ، ورأوها رأي العين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، ولعل من أبرز المستشرقين الذين بهرتهم شخصية المسحراتي .. المستشرق الإنجليزي “أدوارد لين” الذي زار مصر مرتين خلال القرن التاسع عشر ، وشغف شغفاً كبيراً بعادات المصريين وتقاليدهم ، ودوّن ملاحظاته في سفره القديم المعروف باسم “المصريون المحدثون ، شمائلهم وعاداتهم “الذي يقول فيه عن المسحراتي : “يبدأ المسحراتي جولاته عادة بعد منتصف الليل ، ممسكاً بشماله طبلة صغيرة “بازا” ، وبيمينه عصا صغيرة ، أو قطعة من جلد غليظ يضرب به ، وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحاً أو قنديلاً يضئ له الطريق ويأخذ المسحراتي في الضرب على الطبلة ثلاثاً ، ثم ينشدقائلاً : “يسعد مين يقول لا إله إلا الله” ثم يعود لضرب طبلته ، ويواصل كلامه (واسعد لياليك) ثم يسمي صاحب البيت ، ويسمي أفراد أسرته فرداً فرداً ما عدا النساء ، ويردد أيضاً أثناء تجوله على إيقاع الطبلة كثيراً من القصص والمعجزات والبطولات عن الرسول «أو أبو زيد الهلالي وغيره ».ويسعد الناس كثيراً بسماع صوت هذه الشخصية المحبوبة .. وعلى الأخص الأطفال ، الذين ينتظرون موكب المسحراتي يومياً ليغنوا معه أغانيه الشهيرة ، ومقابل ذلك يمنحونه في سخاء العطايا والهبات من خيرات هذا الشهر.ويحكي التاريخ أن النداء التقليدي في السحور لم يكن مقصوراً على الرجال ، فقد كانت هناك بعض المسحراتية من النساء تقمن بهذا العمل ، وقد تغزل في إحداهن أحد الشعراء ، ووصفها بأنها شمس ، تطلع في وقت السحور فكيف يأكل الناس والشمس طالعة .. فقال الشاعر “عجبت في رمضان من مسحرة قالت ..ولكنها في قولها ابتدعت .. تسحر .. ويا عبد الله قلت لا .. كيف السحور وهذي الشمس قد طلعت .. وفي عهد الطولونيين ، كانت السيدات تقمن بعمل المسحراتي دون أن تبرحن منازلهن ، فكانت كل سيدة تنادي على جارتها من نافذة منزلها لإيقاظها .وتختلف طريقة المسحراتي من قطر إلى قطر .. فهو موجود في جميع الدول العربية والإسلامية ، في كل دولة يطلق عليه اسم مختلف ، فاسمه في السعودية “أبو طبيلة” وهو يردد الأدعية الدينية أثناء سيره في الشوارع مثل “لا إله إلا الله .. محمد رسول الله ، جعله الله شهراً مباركاً “ ، كما توجد أسماء عدة للمشاهير في هذا المجال ، ومنهم الترمذي في مكة المكرمة قديماً ، أما أهل اليمن فيتسحرون بدق الأبواب على أصحاب البيوت وينادون عليهم “قوموا كلوا” . وأهل الشام فإنهم يتسحرون بدق الطار وضرب المزمار والرقص واللهو واللعب ، وبعض أهل الشام يضربون بالنقير على المناور سبعاً أو خمساً .أما أهل المغرب فيتشابهون في عاداتهم مع أهل الشام ، وإذا كان المسحراتي في القرية والأحياء الشعبية المصرية يستخدم الطبلة لإيقاظ النائمين فتلك المهمة تقوم بها الكشافة في أندونيسيا .. فالمسحراتي من العادات وليست من العبادات لهذا نلاحظ أنها تختلف من قطر إلى قطر ، ومن عادة بعض النساء أن يعمدن إلى وضع قطعة من نقود فضية في ورقة ويلقين بها من النافذة إلى المسحراتي ، حيث يأخذها فيرفع صوته بعد ذلك ويقرأ الفاتحة لصاحبتها .ويوضح علماء اجتماع ومؤرخون أن المسحراتي ظاهرة اجتماعية ارتبطت بالشعب المصري لأنها بدأت فيه وذلك لأسباب كثيرة أهمها أن المجتمع المصري بكل طبقاته مجتمع ذو علاقات حميمة وروابط اجتماعية قوية راسخة شعب لا يفرط في قديمة تحت أي ظروف وكان لكل حي المسحراتي الخاص به لإيقاظ أهله في ليل رمضان المشبع بالروحانيات ونور الإيمان.والطريف في الأمر حاليا أن الشباب المصريين ينزلون إلى الشوارع خاصة في المناطق الشعبية ممسكين بطبلة وحولهم أطفال صغار بالفوانيس يقومون بعمل المسحراتي كنوع من الطرافة وإدخال الفرحة على أهل الحي ولكن ماذا لو صادفوا مسحراتيا محترفا؟هنا تكون المفارقة والتي ترتب عليها شخصية المسحراتي فيمكن لهم أن يسيروا معه أو بطريقته التي لا تخلو من المرح يبعدهم عن طريقه ومهنته التي شب عليها واعتبرها إرثا حقيقيا توارثه عن عائلته أبا عن جد.وللمسحراتي مكانته في الأحياء الشعبية خاصة أنه يعرف كل الأسر الموجودة في المكان ولهذا السبب يكون هو أول المدعوين في أفراح الناس ويسارع كذلك لمشاركتهم أحزانهم في فقدان عزيز لديهم وربما يظل يتردد على المقاهي في الأحياء الشعبية ويشارك أهل الحي تفاصيل يومهم ثم يختفي قبيل رمضان ليستعد لمهمته التي تحتاج منه شراء أو تفصيل الجلباب الشعبي المصري والطواقي البيضاء .ويصلح من شكل الطبلة ويهذب لحيته ويستعد ليبدأ مرة أخرى إيقاظ الناس بترديد ما اعتاد عليه واعتاد الناس على سماعه «اصحي يا نايم وحد الدايم».وشخصية المسحراتي لم تتراجع كثيرا في الأحياء الأرستقراطية بمصر وبقيت كما هي بانتشارها القوي وحضورها الجميل في الأحياء الشعبية والأزقة والحارات المزدانة بالفوانيس وأشكال زخرفية بأوراق ملونة على جدران المنازل شخصية المسحراتي لم تتراجع أمام وسائل الإعلام التي تجعل من الناس سهارى حتي وقت الفجر والطريف أن بعض الفنادق الخمس نجوم والسبع نجوم التي تنصب الخيم الرمضانية خصصت شخصيات حقيقية من المسحراتية كفقرة جميلة وكأنها توصل رسالة لرواد الخيم بقرب موعد السحور والسحور هنا يختلف فهو سحور سبع نجوم حيث طبق الفول الشعبي يتوج موائد الخمس نجوم والسبع نجوم فهو قوي الحضور بمذاقه الرائع فلم تتمكن أي نجمة من النجوم السبع أن تطيح به أمام الأطباق الرائعة الأخرى.