أحمد الحبيشي الحديث عن حياة عصام سعيد سالم يأخذ أبعاداً متعددة، لأنّ حياته كانت حافلةً بمشاهد مختلفة تجسدت فيها شخصيته كإنسان وصاحب قلم متميز أثرى بإسهاماته الحية مسيرة حياته الطيبة.في يوم الجمعة الموافق 13 يناير 2006م، توقف قلب عصام سعيد سالم عن الحياة ، ونزل خبر موته كصاعقةٍ ثقيلة أوجعت قلوب أصدقائه وزملائه ومحبيه الذين فجعوا بالخسارة الناجمة عن رحيله ، وعبروا بمختلف وسائل التعبير عن حزنهم لغيابه .. لكن الرجل كان وسيظل حياً وحاضراً في قلوبهم وعقولهم.حين أتحدث عن عصام ، لا أستطيع أن أتجاهل مسيرة طويلة من الأخوة والزمالة والصداقة جمعتني به لحقبة تقارب نصف قرن من الزمن والعمر.. وقد كان عصام حريصاً في مختلف محطات هذه المسيرة على أن يناديني بعبارة “يا صديق عمري”، بكل ما تختزله هذه العبارة من معاني إنسانية عميقة.بوسعي القول إنّ عصام كان حقاً صديق عمري ، وكنت واحداً من أتراب طفولته وصباه ورفاق شبابه ومرابعه، وصديقا حميما لأسرته الكريمة، وأحد مريدي وتلاميذ والده خالد الذكر سعيد سالم اليافعي الذي تعلّمنا على يديه دروساً قيمة ، قلّ أن يجود الزمان بمثلها.. ولا يمكن من دونها معرفة الجذور التي زرع عصام على تربتها أشجار وزهور حديقته الإنسانية الحية.في ملاعب الطفولة ومرابع الصبا عرفت عصام سعيد سالم، ولعبت معه ومع أترابه.. وفي المدرسة الابتدائية الشرقية والمدرسة المتوسطة بالشيخ عثمان وكلية عدن الثانوية بدار سعد تعلّمنا سوياً.. وعلى يد والده الراحل سعيد سالم اليافعي تربينا وتعلّمنا أبجدية المعرفة والسياسة ، وعرفنا معنى الحرية واكتشفنا حقيقة الوطن اليمني الواحد، وهوالاكتشاف الذي صاغ في وقت لاحق الوعي الوطني الوحدوي للفقيد الغالي عصام سعيد سالم، وظل يلازمه في مختلف مراحل حياته وحتى لحظة وفاته.عندما تـُوفي والده خالد الذكر سعيد سالم اليافعي الذي كان واحدا ً من أبرز الشخصيات الاجتماعية الكاريزمية ، ومن أوائل مؤسسي الحركة المسرحية والثقافية في عدن مطلع القرن العشرين، بكى عصام كثيرًا.. وترك مخطوطات لم تـُنشر حتى الآن عبّر فيها بقلمه الحزين عن مشاعر إنسان مفجوع بخسارة رجل عظيم.بوسعي القول إنّه من الصعب التعرف على مفتاح التميز في شخصية عصام سعيد سالم من دون التعرف على بعض المحطات التاريخية في حياة والده الذي كان بالنسبة له ولإخوانه وللكثير من أصدقائه ولي شخصيًا مدرسة وطنية وإنسانية نادرة المثال.كان لخالد الذكر والد عصام سعيد سالم منتدى يومي تعددي يرتاده مشاهير رجال السياسة والقانون والفكر والأدب والصحافة ، ويضم رموز مختلف التيارات الفكرية والحزبية والسياسية والثقافية التي شكلت حقبة متميزة في التاريخ الحديث لمدينة عدن.في ذلك المنتدى الذي كان موجوداً في منطقة السيلة بالشيخ عثمان ، وفي ظلال والده -صاحب المنتدى- تعلّم عصام سعيد سالم قيم الاختلاف والتعايش والقبول بالآخر في إطار إنساني، الأمر الذي أسهم في تشكيل شخصية عصام في طفولته وصباه وشبابه وحتى وفاته، حيث كان رحمه الله يحمل معه دائمًا ابتسامة لا تفارقه في حله وترحاله، كما كان يحرص دائمًا على أن يطيل حبال الود مع مخالفيه.انخرط عصام مبكرًا في الحركة الطلابية اليمنية مناضلاً ضد الاستعمار، ومن أجل الحرية والاستقلال والوحدة، واسمحوا لي أن أضع كلمة (الوحدة) بين هلالين، لأنني شاهد تاريخي على إيمان عصام بوحدة الوطن أرضاً وشعباً منذ أن كان صبياً، يوم كانت مشاريع التجزئة والهوية البديلة تجد من يتعاطاها ويبدي استعداداً لتسويقها على حساب الهوية الوطنية اليمنية الواحدة.وحين أدلي بشهادتي على هذه المحطة البارزة في السيرة الشخصية لعصام سعيد سالم، أجدني ملزماً بأن أدلي بشهادتي أيضًا على المدرسة التي شكلت الوعي الوطني الوحدوي لعصام سعيد سالم، بما هو أخي الذي لم تلده أمي.. وبما هو أيضًا بحسب تعبيره المحبب لديه: ((أخي وصديق عمري)) .. أنّها مدرسة الشخصية الوطنية والاجتماعية الخالدة سعيد سالم اليافعي.. أبي ومعلمي.ربما لا يعرف كثيرون أنّ والد عصام سعيد سالم كان مؤسساً وسكرتيرًا لهيئة سواقط القيد التي علّمتنا منذ كنا صغاراً حقيقة أنّ الوطن اليمني واحد ، وأنّ التمييز بين “ أبناء الجنوب وأبناء الشمال “ حرفة استعمارية قذرة ، يجب مقاومتها ولا يجوز التهاون معها .في النصف الاول من الستينيات في القرن العشرين المنصرم ، أصدر الاستعمار البريطاني قانون تسجيل الأجانب الذي اعتبر أبناء الشمال أجانب في عدن، وألزمهم بتسجيل أنفسهم في دائرة الهجرة والجنسية بهدف الحصول على تراخيص إقامة مؤقتة تتجدد دورياً بحسب منطوق ذلك القانون!!.تزامن صدور ذلك القانون الإستعماري الجائر مع صمود ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في وجه المؤامرات التي استهدفت القضاء عليها وإطفاء نور جمهوريتها الأولى في شبه جزيرة العرب.. جنبا ًالى جنب مع تصاعد الكفاح الشعبي المسلح ضد الاستعمار وانطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963م ، والتي وجدت في جمهورية السادس والعشرين من سبتمبر قاعدة صلبة لها..اللافت للنظر أنّ ذلك القانون استثنى أبناء دول الكمنولث ورعاياهم المقيمين في عدن من هذا القيد، باعتبار أنّ مستعمرة عدن عضو في الكومنولث البريطاني، وتقع تحت حكم التاج البريطاني وتدار من قبل وزارة المستعمرات البريطانية في لندن.الثابت أنّ الحركة الوطنية والعمالية اليمنية تصدت بجسارة وثبات لذلك القانون الاستعماري، وأصدرت نداء تاريخياً للمواطنين اليمنيين طالبتهم فيه بعدم الانصياع له وعدم الذهاب إلى إدارة الهجرة والجنسية للتسجيل ، والامتناع عن الحصول على تراخيص إقامة مؤقتة في عدن، لأنّها جزء من الوطن اليمني الواحد.. ولأنّه لا يجوز للمواطن اليمني أن يحصل على ترخيص إقامة في وطنه.تجاوب المواطنون والعمال اليمنيون في جنوب الوطن المحتل آنذاك مع هذا النداء الوطني الخالد ورفضوا الاعتراف بالقانون الاستعماري الانفصالي، الأمر الذي دفع السلطات الاستعمارية بعد مرور شهر على القانون إلى القيام بأكبر عملية ترحيل جماعي للمواطنين اليمنيين الذين ينحذرون من مدن وقرى الشطر الشمالي من الوطن آنذاك ، حيث جرى تجميعهم في معسكرات احتجاز جماعية في منطقة دار سعد التي كانت تتبع سلطنة لحج.. تمهيدًا لتسفيرهم إلى خارج ما كان يسمى باتحاد إمارات الجنوب العربي المقبور.. وتحديدا ً إلى مدينة تعز.في تلك الظروف العصيبة تنادى عدد من الشخصيات الوطنية والاجتماعية اليمنية في جنوب الوطن المحتل وعلى رأسهم الفقيد الخالد سعيد سالم اليافعي لتشكيل ما أسموها “ هيئة سواقط القيد” بهدف إحباط مخطط تسفير المواطنين اليمنيين بمقتضى قانون تسجيل الأجانب سيئ الذكر، وقد حرصت هذه الهيئة على استثمار بعض القوانين السائدة آنذاك لإسقاط ذلك القيد الثقيل.كان والدي واحدًا من الذين تمّ انتزاعهم من بين أسرهم وأطفالهم قهرًا، وترحيلهم إلى دار سعد تمهيدًا لتسفيرهم إلى تعز.. وكان عصام في ذلك اليوم حزينا ً للمصاب الذي حل بي وبالكثير من أترابه واصدقاء طفولته وصباه.. وبدأ سؤال الوحدة يشغل عقله اليافع الطري بحثا ًعن إجابات على تناقضات ذلك المشهد التراجيدي الذي ألقى ظلالاً ثقيلة عليه.. وأشهد أنّ حزنه كان يشتد كلما رأى الدموع والحزن والقهر في عيون ووجوه أترابه وأصدقائه الذين لم يكن يتوقع أنّ آباءهم تعرضوا قهرًا للترحيل.. لأنّهم ببساطة : أجانب في وطنهم!!.في تلك الأيام العصيبة شكل الوالد سعيد سالم اليافعي غرفة عمليات في منتداه في منطقة السيلة في الشيخ عثمان، والذي أصبح مقرًا لهيئة سواقط القيد.. وكان عصام وأترابه وأصدقاؤه المنكوبون ينشطون تحت قيادة والده الراحل لتجميع شهادات ميلاد أبناء المرحلين وحشدهم مع أمهاتهم في تجمعات واعتصامات احتجاجية بهدف إسقاط القيد عنهم ، وإعادتهم إلى أعمالهم وأسرهم وأطفالهم.تحوّلت مبادرة الوالد سعيد سالم اليافعي الرامية إلى إسقاط القيد عن آلاف المرحلين إلى حركة شعبية غاضبة من خلال المظاهرات والاحتجاجات الواسعة التي أجبرت الإدارة الاستعمارية على الرضوخ للإرادة الوطنية الشعبية، وإيقاف العمل بذلك القانون الاستعماري الجائر.أشهد على أنّ تلك الواقعة كانت محطة بارزة في حياة عصام سعيد سالم الذي انطلق منها للانخراط في كفاح الحركة الطلابية اليمنية المناهضة للاستعمار من أجل الاستقلال والوحدة في وقتٍ مبكرٍ من عمره.. وأفخر بأنني رافقت عصام سعيد سالم في تلك المحطة وغيرها من المحطات اللاحقة التي جعلت من عصام مناضلاً وطنيًا في سبيل الحرية والاستقلال والوحدة، ومثقفاً ثورياً يؤمن بقيم الحرية والمساواة وبحقيقة الوطن الواحد، وهو ما تميزت به السيرة الشخصية لعصام بعد أن أصبح قلماً مدافعاً عن قضايا الوطن والمجتمع، وكاتباً للعمود الصحفي المتميز، وإنساناً يحب الناس ويكره الحزن والألم، ويحرص على صناعة الابتسامة.. ولعل ذلك يفسر ريادته في تأسيس مجلة (( صم.. بم)) بما هي أول مجلة كاريكاتيرية ساخرة في اليمن.عندما داهمه المرض ، كان عصام حريصاً على إخفاء آلامه وأوجاعه خلف ابتسامته التي لم تفارقه منذ طفولته وصباه وشبابه.. وحين رحل عنا بجسده ظل طيف ابتسامته باقيا .. وظلت سيرته الوطنية والمهنية والإنسانية شاهدة ًعلى أنّ عصام سعيد سالم سيظل الغائب الحاضر أبداً.. ولئن غاب عصام عن حياتنا بجسده.. فإنّ أعماله وسيرته الزاهرة ستبقى حية لا تموت.رحل عنّا عصام بجسده .. لكنّه خلّف لنا إلى جانب سيرته الزاهرة ، خمسة من الأبناء والبنات ، وتسعة من الأحفاد في أروع صورة تجسد الامتداد الإنساني للأصل بالفروع.. والحاضر بالماضي والقضية بجذورها والإنسان بتاريخه.نعم لم يمت عصام الإنسان والأصل والجذر والماضي والقضية، ما دامت فروعه تنبض بالحياة والأمل.. ولم يمت عصام طالما بقي من يحمل اسمه وقضيته ويتنفس بعبق تاريخه.. ومما له دلالة كبيرة في هذا السياق إنّ أحد أحفاد عصام التسعة اسمه عصام في أروع تجسيد لحقيقة أنّ عصام لم يمت.. وأنّه لا يزال حياً بيننا.سلاماً ياأبا أياد وحسام وأيمن وإلياذة ومنالسلاماً ياصاحبيسلاماً يا صديق عمريسلاماً وفي كل ما استعيدُمن الذكريات وما استفيدُمن العبر الموعظات الدوامياحس دبيباً لها في عِظامي[c1]ألقيت في أربعينية الفقيد /عصام سعيد سالم [/c]
سلاماً يا صاحبي .. سلاماً يا صديق عمري
أخبار متعلقة