ما رأي فلاسفة الغرب بـ "11" سبتمبر؟ غني عن القول اني لن استطيع التحدث عن آرائهم كلهم وانما سأختار من بينهم شخصاً يعتبرونه من كبار عقلائهم: ألا وهو المفكر الألماني يورغين هابرماس. فهناك إجماع عليه بأنه أكبر عقل فلسفي في الغرب الأوروبي والأميركي على حد سواء. فما رأي عالم كبير كهذا بحدث من نوعية "11" سبتمبر؟ من المعلوم ان الكثيرين يقارنون "11" سبتمبر بحادثة بيرل هاربور التي حصلت عام "1941" وأدت الى تدمير الاسطول الأميركي عن بكرة أبيه تقريباً وقد قام بالعملية، وبشكل مباغت جداً "تماماً كما حصل في11 سبتمبر" الطيران الياباني. فقد أغار عدة مرات على الأسطول الأميركي النائم والقواعد العسكرية الأخرى صبيحة "7" ديسمبر من ذلك العام تماماً كما أغارت الطائرات الانتحارية صبيحة "11 سبتمبر" على البرجين التوأمين في نيويورك.وقد دامت الغارات المباغتة ساعة واحدة وأدت الى قتل "2403" أشخاص ما بين ضابط وجندي ومدنيين ايضاً، وجرح ما لا يقل عن "1178" شخصاً آخر. هذا في حين ان ضربة "11" سبتمبر أدت الى قتل ثلاثة آلاف شخص دفعة واحدة. وبالتالي فالتشابه واضح بين كلتا الحالتين على الرغم من الاختلافات البسيطة. وقد جنّ جنون الرئيس روزفيلت عندما سمع بالنبأ تماماً كما حصل لبوش. وقرر على الفور دخول الحرب العالمية الثانية الى جانب الحلفاء ضد دول المحور: أي المانيا النازية وايطاليا الفاشية واليابان التي لم تكن تقل فاشية عنهما. وعندما نزلت أميركا بكل ثقلها في الميدان أصبح واضحاً ان هزيمة هتلر لم تعد إلا مسألة وقت..على الرغم من كل هذا التشابه بين الحدثين الصاعقين الا ان هابرماس يفضل ان يقارن "11" سبتمبر بتاريخ اعلان الحرب العالمية الأولى في شهر اغسطس من عام "1914" . فهل يعني بذلك اننا دخلنا في مرحلة حرب طويلة الأمد بين الحضارة الغربية والأصولية الاسلامية المتطرفة؟ ربما. وعلى أي حال فإن هذا ما يعتقده مفكر وكاتب ايطالي شهير هو امبيرتو إيكو في كتاب يصدر بعد أسابيع قليلة. ويرى هذا المثقف الايطالي المعروف في العالم العربي من خلال ترجمة بعض رواياته ان العامل الثقافي هو الذي سيحسم المعركة وليس العامل العسكري أو الحربي أو حتى التكنولوجي. ولذا فينبغي على الغرب ان يستخدم سلاحاً آخر مع العرب والمسلمين غير السلاح الذي يستخدمه بوش: اقصد سلاح الفكر والاشعاع الحضاري والنزعة الانسانية العميقة فهو أكثر فعالية من الجيوش الجرارة.لكن لنعد إلى هابرماس الذي يمتلك عقلاً فلسفياً وسوسيولوجياً واسعاً لا يمتلكه امبيرتو ايكو. يعتقد هذا المفكر ان "11" سبتمبر هو أول حدث تاريخي عالمي بالمعنى الحرفي للكلمة. ويقصد بذلك ان شاشات تلفزيون العالم أجمع نقلته لمليارات البشر في نفس اللحظة التي كان يجري فيها. ولكنه يرفض ان يطلق عليه حكماً من نوع: هل هو في حجم وأهمية الاحداث الكبرى الاخرى في التاريخ كاندلاع الاصلاح الديني في أوروبا مثلاً على يد مارتن لوثر، او كاندلاع الثورة الفرنسية.. الخ؟. لماذا؟ لأننا لا نزال قريبين جداً من الحدث وبالتالي فلا نمتلك المسافة اللازمة لكي نقدر مدى أهميته وحجمه. لا ريب في انه ضخم وهام، ولكن هل يصل الى مستوى ضخامة الحدثين اللذين ذكرناهما؟ لا أحد يعرف. كل ما نعرفه هو انه ناتج عن عدة عوامل متشابكة ومتضافرة لا عن عامل واحد.من أهم هذه العوامل عدم مرور العالم الاسلامي حتى الآن بالمرحلة التنويرية الفلسفية، على عكس ما حصل في أوروبا والغرب عموماً. وهذه المرحلة ضرورية لكي يتمايز اللاهوتي او الديني عن السياسي، ولكي نخرج من مرحلة الحكم الثيوقراطي "اي حكم رجال الدين" إلى مرحلة الحكم الديمقراطي. ثم يردف هابرماس قائلاً: لم يستطع العالم الاسلامي حتى الآن ان ينتقل من الموقف التقليدي في فهم الدين إلى الموقف الحديث. بمعنى انه لم يستطع، ولن يستطيع قبل وقت طويل، ان يتخلى عن احتكار الحقيقة الالهية المطلقة وتكفير كل الاديان الاخرى بما فيها المسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية، الخ.. هذا بالاضافة الى تكفير الفلسفة العلمانية الحديثة التي اصبحت الآن "دين الغرب" وأوسع انتشاراً بكثير من جميع الاديان. والواقع ان عملية الانتقال هذه هي عملية عويصة، شاقة، مرهقة. وأكبر دليل على ذلك تجربة المسيحية في مذهبها الكاثوليكي البابوي الروماني. فهي ايضا كانت تدعي احتكار الحقيقة المقدسة المتعالية لنفسها وتكفر جميع الاديان والمذاهب الاخرى. ولكنها اضطرت بسبب ضغط الحداثة والنجاحات الهائلة التي حققها العلم الى اعادة النظر في موقفها والاعتراف بمشروعية التعددية الدينية والمذهبية داخل المجتمع، بل واعترفت حتى بوجود أناس غير متدينين على الاطلاق باعتبار ان الايمان لا يمكن ان يُفْرَض على الناس بالقوة وغصباً عنهم.هذا التطور الهائل الذي حصل في الغرب والذي يتلخص بكلمة واحدة او كلمتين: الحرية الدينية، هو الذي تخشاه الحركات الاصولية الاسلامية أشد الخشية. ولذلك يزداد هيجانها كلما أحست بأنه ابتدأ يقترب من أبواب العالم العربي أو الاسلامي. لهذا السبب فان 11 سبتمبر جاء كرد فعل عنيف ومذهل على هجمة الحداثة الغربية على المنطقة، بالطبع فهذا التفسير لا يعني التبرير لضربة 11 سبتمبر الآثمة والمجرمة والتي يدينها هابرماس بكل ما أوتي من قوة. ولكنه يحاول ان يفهم ما حصل ولماذا حصل ما حصل.. وهذه هي مهمة الفلاسفة الكبار. فالاستئصال العنيف لنمط الحياة التقليدية ولكل الافكار العتيقة والاصولية المرافقة لها من قبل الحداثة والعولمة الاميركية أثار كل رد الفعل هذا الذي يشبه الزلزال.يضاف إلى ذلك انه اذا كانت المجتمعات الاوروبية قد عاشت عملية الفصل بين اللاهوتي والسياسي بشكل تدريجي وعلى مدار ثلاثة قرون، فان العالم الاسلامي مدعو لفعل نفس الشيء على مدار ثلاثة عقود فقط! وهذا ما أدى إلى زعزعته في العمق فرد بكل العنف الممكن على ما رأى فيه عدواناً على هويته ونمط حياته، بل وحتى مقدساته. بهذا المعنى فإن 11 سبتمبر سوف تكون له فوائد جمة لا حصر لها ولا عدد وأولاها:استيقاظ المسلمين من غفوتهم الطويلة التي دامت ألف سنة تقريبا والانخراط في عملية غربلة شاملة لكل موروثهم العقائدي والفقهي القديم. اذا ما حصل ذلك فإن 11 سبتمبر لن يكون قد ذهب سدى.لكي نقيس حجم الهوة الساحقة والمرعبة التي تفصل بين العالم الاسلامي والغرب يكفي ان نذكر الحادثة التالية: في عام 1793 اي في نهاية القرن الثامن عشر أصدر ملك بروسيا قراراً او فتوى لاهوتية بتهديد الفيلسوف ايمانويل كانط اذا ما استمر في مواصلة بحوثه العقلانية عن الدين المسيحي وفي عام 1994، أي بعد مائتي سنة بالضبط صدرت فتوى بتكفير نجيب محفوظ بسبب روايته "أولاد حارتنا" وتم الاعتداء عليه جسدياً أمام منزله من قبل أصولي جاهل ومتطرف. وفي ذات الوقت صدرت فتاوى اخرى عديدة ضد الكتاب العرب او المسلمين من جهات مختلفة. وكان أخطرها وأشهرها فتوى الخميني ضد سلمان رشدي عام 1989 والتي أمرت ليس بقتله فقط وانما قتل ناشريه ومترجميه ايضا! ماذا يعني ذلك؟ الا يعني ان الصدام محتدم بين الغرب والعالم الاسلامي: اي بين عالم ما بعد الحداثة وعالم ما قبل الحداثة؟[c1]* كاتب سوري[/c]
|
فكر
11 سبتمبر في منظور فلاسفة الغرب
أخبار متعلقة