في أيلول (سبتمبر) من كل عام تتجدد ذكرى الانقلاب العالمي الذي حدث في 11 /9 /2001 . ونقصد بهذا الانقلاب الذي هزّ العالم في الغرب والشرق على السواء، الهجوم الإرهابي الذي شنه بضعة عشر إرهابياً عربياً ضد مراكز القوة الأميركية الاقتصادية والسياسية والعسكرية.حدث جلل كانت له آثار كارثية بعد أن أعلن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الحرب ضد الإرهاب، والتي هي - كما قال - حرب دائمة لا يحدها مكان ولا يقيدها زمان!تتوالى، ونحن نكتب هذا المقال، الأخبار من أفغانستان وهي الدولة التي قامت الولايات المتحدة الأميركية بغزوها عسكرياً عقب الهجوم الإرهابي بدعوى أن نظام «طالبان» كان يؤوي أسامة بن لادن زعيم تنظيم «القاعدة» ورفض تسليمه، الأخبار تؤكد أن القوات المسلحة الأميركية ومعها قوات الدول الحليفة تواجه هزيمة ساحقة على يد قوات «طالبان» التي تجيد حرب العصابات، والتي فرضت سيطرتها من جديد على مناطق شاسعة في أفغانستان، وهي تقترب حثيثاً من العاصمة كابول.وتوالت تصريحات القادة العسكريين الأميركيين بما يفيد أن الهزيمة آتية لا محالة، وأن الاستراتيجية العسكرية الأميركية في أفغانستان فشلت فشلاً ذريعاً، وأن من الضروري التفاوض مع «طالبان» للوصول إلى حل مشرف يؤدي إلى انسحاب غير مهين، على الرغم من أن الرئيس أوباما دفع - بعد توليه السلطة - بعشرين ألف جندي أميركي تعزيزاً للقوة الأميركية بعد انحساب الجيش الأميركي من المدن في العراق إلى قواعد بعيدة من متناول قوات المقاومة والعصابات الإرهابية من مختلف الأشكال.منذ الهجوم الإرهابي ضد مراكز القوة الأميركية، والذي أذهل العالم بجسارته ووسائله غير المسبوقة، وقدرة بضعة عشر إرهابياً عربياً على تخطي كل الموانع الصاعقة للأمن القومي الأميركي والأسئلة من كل نوع تتوالى. وهذه الأسئلة أثارها محللون استراتيجيون ومثقفون وكتاب وإعلاميون.ولعل السؤال المحوري الذي طرحه في البداية بعض خبراء العلاقات الدولية هو: هل يمثل الهجوم الإرهابي الذي وقع ضد الولايات المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2001 «قطيعة تاريخية» تفصل بين عصر وعصر، بحيث يمكن التمييز بوضوح بين ما قبل وما بعد أيلول (سبتمبر)؟ وما المعايير التي على أساسها يمكن القول بنهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى؟على سبيل المثال: هل عام 1993 الذي عادة ما يؤرخ به لنهاية عصر الحرب الباردة، ونهاية النظام الدولي الثنائي القطبية، وبروز النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن فيه الولايات المتحدة الأميركية على العالم، يصلح حقاً لتحقيب Periodisation العقد الأخير من القرن العشرين، أم أن النظام الأحادي القطبية هو استمرار - بصورة أخرى - للنظام العالمي السابق؟وسؤال آخر: هل مرحلة ما بعد أيلول (سبتمبر) 2001 ستؤدي - كما يرى هنري كيسنجر في مقالة له نشرت ترجمتها العربية في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 3 / 2/ 2002 إلى صياغة النظام العالمي للقرن الواحد والعشرين؟ أم أنها في الواقع ستكون استمراراً للنظام العالمي قبل أيلول، والذي كانت فيه الولايات المتحدة الأميركية هي القوة الأكبر؟وهل تتفق هذه التفرقة المهمة مع بعض تقديرات الخبراء من أن الولايات المتحدة الأميركية تتحول في الواقع من قوة عظمى وحيدة إلى امبراطورية؟وأهمية هذا التساؤل الأخير تبدو في أن فكرة الإمبراطورية الأميركية طرحت للنقاش الأكاديمي عبر مؤلفات مهمة صدرت باللغتين الإنكليزية والفرنسية، تتضمن وجهات نظر مختلفة حول الموضوع.لم يكن السؤال الأول حول ما يمثله انقلاب أيلول من قطيعة تاريخية هو الأوحد، بل إن هناك أسئلة أخرى أثارها هذا الحدث العالمي الفريد من بينها ما يتعلق بالمقارنة بين الأمم والشعوب في سجل القدرات التكنولوجية.فقد ثارت أقوال بعد وقوع الحدث مباشرة تستبعد أن يقوم بهذا العمل الإرهابي الفائق التخطيط والدقيق التنفيذ إرهابيون عرب أو مسلمون، سواء كانوا يتبعون تنظيم «القاعدة» بقيادة بن لادن أو سواه، على أساس أن هؤلاء (الإرهابيين العرب) لا يمكن أن يصلوا الى هذا المستوى التخطيطي والتقني الرفيع!والواقع أن التسليم بهذه الأقوال سواء صدرت من الغرب أو حتى من العالم العربي والإسلامي، خير تسليم بالمقولات الاستشراقية عن سمو الغربيين عن غيرهم، وعن دونية «الشرقيين» (العرب والمسلمين) وعجزهم عن الارتقاء إلى المستوى الغربي في التخطيط والتنفيذ.والواقع أنه في هذه التساؤلات تجاهل فاضح للتحولات الأساسية التي حدثت في بنية المجتمع العالمي. وأهمها على الإطلاق التحول من بنية المجتمع الصناعي إلى نموذج المعلومات العالمي، والذي تشكل بناء على الثورة الاتصالية الكبرى وفي سياق العولمة التي وحدت العالم ومنحت الأجيال الجديدة من الشباب في كل مكان أدوات العصر في الاتصال عبر شبكة الإنترنت، ما أتاح لهم أن يكتسبوا مهارات بالغة التفوق في التكنولوجيا والبحث العلمي وعلوم الكومبيوتر، بحيث إنه لا يمكن أن توجد فروق لها دلالة بين الأميركي والهندي والعربي والصيني!والسؤال الثالث المهم الذي يثيره الانقلاب العالمي في أيلول (سبتمبر)2001 يتعلق بالتقصير الأمني الأميركي الفادح رغم ضخامة موازنات البنتاغون وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية لأحدث الأسلحة في العالم، إضافة إلى أجهزة استخباراتها التي تمتد شبكاتها إلى كل مكان في مختلف القارات.والواقع أن السؤال السابق يثير موضوعاً بالغ الأهمية يتعلق بأحد تحولات المجتمع العالمي من المذهب التقليدي للأمن القومي إلى النموذج المعرفي الجديد للأمن القومي والذي يقوم على مفاهيم جديدة أبرزها مفهوم الحروب الفضائية Cyber War وحروب الشبكات Net War.مفهوم الحروب الفضائية يتعلق بالأسلحة الحديثة الذكية وبالقدرة الاتصالية الفائقة التي تمكن الدولة الأكبر من التشويش الإلكتروني على دفاعات واتصالات الخصوم.غير أن المفهوم الآخر وهو حرب الشبكات وثيق الصلة بنشاط الجماعات الإرهابية. وقد ثبت من التحقيقات بعد أحداث أيلول أن الإرهابيين الذين قاموا بالهجوم كانوا يتصلون ببعضهم بعضاً من خلال شبكة الإنترنت. كما أن التحويلات المالية كانت تتم أيضاً عن طريقها. بعبارة أخرى نحن في عالم الأمن القومي أصبحنا نعيش في عالم جديد تسيطر عليه أدوات العولمة والثورة الاتصالية، وأجواء ما بعد الحداثة!وقد كان من أذكى التعليقات على ما حدث هو أن لجوء المنظمات الإرهابية إلى «إبداع» إرهاب من نوع جديد، مثّل اجتياز الحاجز الفاصل بين العقل والجنون!وفي تقرير للجنرال تيناني في البنتاغون قبل 11 أيلول 2001 وردت عبارة تستحق التأمل هي أنه «إذا كان الإرهاب يستوحي عملياته من كتاب «الجنون» فعلى مخططي الأمن الأميركي أن يرجعوا إلى المرجع نفسه!».ولكن تبقى العقبة الحقيقية وهي كيف يمكن تدريب المسؤولين عن الأمن القومي وفي أجهزة الاستخبارات على نمط التفكير الجنوني؟! وتبدو أهمية هذه النقطة في أنه لم يدر بخلد أحد حقاً تحويل الطائرات المدنية المختطفة بركابها إلى أسلحة للتدمير الشامل!وسؤال آخر أثاره الهجوم الإرهابي وهو ما هي التغيرات الجوهرية التي لحقت ببنية المجتمع العالمي منذ عام 2001 حتى الآن؟يجمع خبراء العلاقات الدولية على توصيف هذه التغيرات بأنها تعبر عن «انفلات العالم من ناحية ومحاولة ضبط إيقاعه» من ناحية أخرى. ومؤشرات الانفلات متعددة ولعل أهمها ثورة الأعراق، والانفصال عن الدول القومية، والحروب الأهلية ذات الطابع الديني، ودعوات التطهير العرقي، وزيادة حدة الاستثمار الاستيطاني في فلسطين.أما محاولات الضبط فأخذت أساساً اتجاهين وهما التدخل الإنساني (كما حدث في الصومال) والتدخل السياسي كما حدث في كوسوفو. وكل اتجاه منهما يثير إشكاليات قانونية وسياسية وعملية.وإذا نظرنا إلى نمط العلاقات الدولية الذي ساد بعد 11 أيلول 2001 فقد ثارت تساؤلات مهمة أبرزها على الإطلاق هل سننتقل من هيمنة القطب الأكبر ونعني الولايات المتحدة الأميركية إلى الهيمنة الشاملة للإمبراطورية الأميركية؟ وما انعكاسات ذلك على مجمل العلاقات الدولية واتجاهاتها في العقود المقبلة؟الواقع أن هذا السؤال الذي سبق لنا أن أثرناه عقب 11 أيلول (سبتمبر) 2001 مباشرة في كتابنا «الحرب الكونية الثالثة: عاصفة أيلول والسلام العالمي»، (دمشق - دار المدى، ط2، 2003) وجدنا إجابة له في الممارسات الأميركية التي أعقبت أحداث أيلول.فقد تصرفت الولايات المتحدة وكأنها إمبراطورية تحكم العالم ومن حقها أن تزرع صواريخها الطويلة المدى في أي مكان حتى في «خاصرة» الاتحاد السوفياتي وعلى حدوده مباشرة بزعم الوقوف ضد التهديد الإيراني.غير أن الصحوة الروسية بقيادة فلاديمير بوتين أوقفت مسيرة الإمبراطورية الأميركية بعد التدخل العسكري الروسي العنيف في جورجيا، والذي أثبت أن روسيا عادت من جديد لتضع حدوداً لهيمنة النظام الدولي الأحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية![c1]* كاتب ومفكر مصري[/c]
|
فكر
تجديد ذكرى انقلاب أيلول!
أخبار متعلقة