نحن نعيش في عصر الانقطاعات! ليس هناك مجال لكي يصوغ الكاتب فكرة ومدها على استقامتها حتي يصل إلي نتائج ملموسة، يمكن أن يبني عليها أفكارا أخري! وأصبح التنبؤ بمستقبل الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية مسألة مستحيلة، بعد أن سقطت النظرية، وسلمت أمرها لله نتيجة لغرائب الواقع!كنا نتحدث في المقالات الماضية عن التطرف الايديولوجي وأهمية إحداث تحولات جوهرية في الثقافة الاستراتيجية لدي كل طرف من أطراف الصراع العربي الاسرائيلي، حتى يتحقق الســـــــلام . وأشرنا إلى أن التطرف الايديولوجي في الطرف العربي يتمثل في مواقف حماس المعلنة التي تنادي بأنه لا اعتراف بإسرائيل ولا تفاوض معها. ومن ناحية أخرى يتمثل التطرف الايديولوجي في الطرف الاسرائيلي بالعقيدة السياسية لبعض التيارات والأحزاب الاسرائيلية، التي ترفض التفاهم مع الفلسطينيين، والتي مازال الشعار الصهيوني القديم العرب لا يعرفون سوي لغة القوة والردع معششا في أذهانهم ، وكان تصورنا أنه لا يمكن تحقيق السلام إلا بالتغيير الجوهري للثقافة الاستراتيجية السائدة لدى كل طرف من أطراف الصراع ، وعلى ذلك لابد لحماس باعتبارها الطرف الفلسطيني الذي حصل على الأغلبية في الانتخابات أن تغير من شعاراتها التقليدية وتدرك عدم واقعية شعار عدم الاعتراف بإسرائيل من ناحية ، وسذاجة شعار لا تفاوض مع إسرائيل من ناحية أخرى !وكذلك لابد للطرف الاسرائيلي أن يغير من ثقافته الاستراتيجية، مدركا أن لا حياة آمنة للشعب الاسرائيلي إلا بتحقيق السلام مع الفلسطينيين، من خلال القبول بدولة فلسطينية مستقلة تعيش جنبا إلى جنب بجوار دولة إسرائيل وفق شروط وضمانات يقبلها الطرفان. انقلاب الواقعغير ان الواقع انقلب على النظرية ! وسقطت كل تحليلاتنا السياسية بعدما قامت حماس بانقلابها على السلطة الفلسطينية و إعلانها غزة إمارة إسلامية مستقلة! ولو حللنا خطاب حماس بعد إتمام هذا الانقلاب لأدركنا على الفور أننا عدنا ـ والحمد لله تعالي ـ إلى حروب الجاهلية ، ومازالت ذاكرتنا تحفظ ما درسناه عن حروب داحس والغبراء وغيرها من صراعات القبائل العربية.لقد وصفت أصوات اعضاء حماس الانقلاب بأنه التحرير الثاني لغزة! وقال متحدث آخر بانفعال بدائي ان ما حدث أشبه بفتح مكة !ولو تركنا لغة الخطاب وانتقلنا إلى ما حدث في الواقع لراعتنا الأحداث الاجرامية التي أقدم عليها اعضاء حماس ضد فتح! لقد ألقى بعض اعضاء حماس أحد الفتحاويين من الطابق الثامن عشر! وقام البعض الآخر بإعدام ثمانية من قادة فتح أمام أسرهم !وفي نوبة من نوبات الكرم الاسلامي الثوري أصدرت قيادة حماس قرارا بالعفو عن بعض قيادات فتح !وتم اقتحام مقار السلطة الفلسطينية وتدميرها باعتبارها مواقع الأعداء الكفار!وفي الوقت الذي أعلن فيه أبو مازن باعتباره رئيسا للسلطة الفلسطينية قرارا بإقالة رئيس الوزراء السيد هنية وإعلان حالة الطواريء، أعلن هنية وقادة حماس أنهم لا يقبلون القرار، ومستمرون إلى ما شاء الله في الحكم وبغض النظر عن إرادة الشعب الفلسطيني الذي خرج في مظاهرات احتجاجا علي الاقتتال بين حماس وفتح، فما كان من أنصار حماس إلا أن أطلقوا النار على المظاهرات !المسـؤوليةلقد كنت من الذين رحبوا بفوز حماس في الانتخابات وتشكيلها للوزارة، وقررت أن هذه فرصة مواتية لكي تنتقل حماس من الايديولوجيا إلي الواقع ، بمعنى أن الشعارات الثورية. التي ترفعها كفصيل فلسطيني معارض، وأهمها عدم الاعتراف بإسرائيل، وعدم التفاوض معها ـ ستنتهي فور تسلمها السلطة لأن تولي السلطة معناه أنها أصبحت مسؤولة عن الشعب الفلسطيني وإشباع احتياجاته الأساسية ، وهذه المهمة تقتضي بالضرورة التفاوض مع إسرائيل في الأجل القصير للافراج عن الأرصدة الفلسطينية التي هي من حق الشعب الفلسطيني، وتعد ضرورية لتسيير الأمور في غزة والضفة، وفي الأجل الطويل للوصول إلي سلام واقعي وعادل مع إسرائيل، وذلك لأن المقاومة مهما اشتدت فهي لن تجبر إسرائيل علي الموافقة لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ، كان هذا هو أملي أن تغير حماس من جمود شعاراتها وأن تنزل إلي أرض الواقع.هذه الواقعية حدثت في كل حروب التحرير في العالم . مقاومة نعم ، ولكن تفاوض أيضا للوصول إلي الهدف النهائي وهو تحرير الأرض، كما حدث في حروب التحرير في فيتنام والجزائر واليمن ، فلماذا لا يحدث بين حماس والدولة الاسرائيلية بشرط عدم التنازل عن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني؟.غير أنني لا أريد في الواقع أن أحمل حماس كل المسؤولي ة، وذلك لأن الانهيار في الموقف الفلسطيني بدأ في ظل سيطرة فتح على الأوضاع ونحن نعرف جيدا التاريخ القريب ، حيث قامت انشقاقات عديدة في صفوف فتح، بالاضافة إلى الفساد الاجرامي الذي استشري في صفوف قادتها، الذين استولوا بدون وجه حق على أموال الشعب الفلسطيني ولا ننسى أن السلطة الفلسطينية في عهد الرئيس عرفات ضيعت فرصا متعددة لتحقيق سلام عادل نتيجة التشبث بشعارات جامدة وغير واقعية ، إلى أن دهمتها حقيقة أن الشارع الفلسطيني انحاز في الانتخابات إلى حماس ظنا منه أنها ستحقق له الخلاص من الاحتلال الاسرائيلي ، وستجلب له الدولة الفلسطينية المستقلة.ولكن خاب فأل الشارع الفلسطيني كما خابت مراهناتنا حين توقعنا تحولات جذرية في اتجاهات حماس إزاء الدولة الاسرائيلية، سعيا وراء حل عادل للقضية الفلسطينية يصل إلى تحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة.غير أنه يبدو أن التيارات الاسلامية التي تدعي الثورية، وتسعي إلى تغيير الواقع بأساليب انقلابية تنطلق من مجموعة من الأوهام الايديولوجية، أبرزها أنها تستطيع بوسائل شتى أن تغير الواقع وتشكله كما تشاء، حتى يستجيب ولو بالقوة المسلحة أو بالارهاب لما تريد أن تحققه من أهداف. وفتح مكة معناه ببساطة تحريرها من الكفار الذين هم هنا أعضاء حركة فتح! ولا أنسى ـ حين كنت أمينا عاما لمنتدى الفكر العربي في عمان عاصمة الأردن(1990-1992م) ـ أن التيارات الاسلامية الأردنية راهنت بغباء على انتصار صدام حسين، وحين هزم هزيمة منكرة، لم تجد مخرجا إلا بتنظيم اجتماع شعبي حاشد حضره الألوف من أنصارها للاحتفال بذكرى فتح مكة!،ما أقرب اليوم إلي البارحة! [c1]* مفكر مصري[/c]
|
فكر
عودة إلى حروب الجاهلية!
أخبار متعلقة