الدكتور فرج بن غانم
لا شك أن وفاة الأخ الدكتور فرج بن غانم تعد خسارة حقيقية لليمن فقد كان من السياسيين التكنوقراطيين وأيضا المثقفين البارزين في اليمن. وتعود معرفتي به الى عام 1967 في بداية فترة استقلال جنوب اليمن من الإستعمار البريطاني إذ كنا نعمل في مناصب حكومية رئيسية ، هو في وزارة المالية كنائب وكيل للوزارة بينما كنت نائبا لوكيل وزارة الأشغال والمواصلات ومديرا لدائرة الإحصاء والتخطيط فيها. وكانت لنا لقاءات عدة في دائرةالتخطيط المركزي حيث كان كل منا يمثل وزارته في إعداد الخطة الخمسية الأولى. ثم أصبح هو فيما بعد وزيرا للتخطيط ولكن علاقتنا توثقت عندما سافرنا في ما أظنه أول وفد رسمي من اليمن الجنوبي للخارج بهدف الحصول على معونات فنية للدولة في صيف 1968. كان الوفد في الأساس مكونا من ثلاثة ممثلين عن وزارة الزراعة واثنين من خارجها, فرئيس الوفد كان الأخ أحمد صالح الشاعر رحمه الله وزير الزراعة الذي قضى في حادث الطائرة المشؤومة الشهير، وكان الثاني الاخ المهندس محمد باعامر رحمه الله وكيل وزارة الزراعة وكان آخر عهدي به لقاء في الجامعة الأمريكية ببيروت في ديسمبر 1972 حيث كان يحضر لشهادة الماجستير بينما كنت أعمل رئيسا للمهندسين في إحدى الشركات اللبنانية السوبسرية الصناعية الكبيرة بلبنان. أما ثالثهم فكان الأخ المهندس محمد عبيد الذي كان كما أذكر مديرا في دائرة الري في وزارة الزراعة وكان أيام الصبا زميلا يسبقني يسنتين في كلية عدن حيث كان يفوز دائما بالمركز الأول في سباق الميل في المباريات السنوية، وقد ترك اليمن وحصل على شهادة الدكتوراه ولقيته أكثر من مرة في الإمارات التي هاجر إليها وعمل فيها. أما عضوا الوفد الآخران فكانا الأخ فرج بن غانم رحمه الله عن وزارة المالية وأنا عن وزارة الأشغال والموصلات للمساعدة في تحديد المساعدات الفنية والمواد الهندسية اللازمة.كانت رحلة الوفد رحلة طويلة جدا وقد سافرت في حياتي إلى أكثر من خمسين دولة وحضرت أكثر من 120 مؤتمرا ولكن تلك كانت أطول رحلة عمل مرت بي إذ استغرقت نحو شهرين. وكنت اعتذرت في البداية عن الذهاب لثلاثة أسباب أولها أنني لم أكن أمت إلى النظام الجديد بأي صلة سياسية وكنت لا أريد أن اعطى انطباعا عكس ذلك وكنت قد التحقت بالعمل الحكومي عام 1966 قبيل الاستقلال. والحقيقة أنني لم أنتم لأي حزب من قريب أو بعيد طيلة عمري، وبعد هذه الخبرة الطويلة بالحياة وبالدول العربية والسياسات الملتوية فيها أعتقد أن ذلك الخيار بأن أبقى مستقلا دائما كان من أفضل وأعقل الخيارات التي توصلت اليها مبكرا. والسبب الثاني أنني كنت يومها على وشك الزواج. والسبب الثالث انني كنت على وشك السفر للدراسسة العليا مباشرة بعد الزواج . ولكن الوزارة اصرت على سفري في الوفد وقيل لي بأن الرحلة لن تستغرق أكثر من أسبوعين فقط . وكان الوزير يومها الأخ المهندس فيصل بن شملان وهو شخص شديد التهذيب والتواضع وعملت معه فيما بعد عضوا في مجلس هيئة الكهرباء الذي ترأسه بعد تركه الوزارة وتوطدت الصداقة بيننا خصوصا انه مهتم بالشعر والفكر والثقافة ، أما وكيل الوزارة فكان الاخ المهندس نديم حسين علي رحمه الله الذي كان زميل فصل في كلية عدن ثم درسنا في بريطانيا في زمن واحد في جامعتين مختلفتين ولكن كانت لنا لقاءات في الغربة. وقد اضطر نديم بعد ذلك بسنوات قليلة للهجرة إلى دبي حيث تجدد لقائنا بعد أن هاجرت أنا أيضا الى نفس المدينة . وقد انتقل نديم إلى رحاب الله هناك منذ سنوات قليلة. واتضح لي بعد أيام خلال تلك الرحلة أن محمد عبيد وفرج بن غانم كانا أيضا لاينتميان سياسيا للنظام الجديد ، على الرغم من اهتمامات فرج السياسية. ولكن الذي أفرحني أكثر هو اهتمامات فرج الثقافية فكنا نتناقش في أمور الفكر والشعر، الأمر الذي خفف من عناء الرحلة الطويلة وكان فرج معتدا بحضرميته ويردد بفخر قول علي أحمد بكثير رحمه الله ، (صديق جدي محمد علي لقملن ، وصديق والدي وقد تعرفت على باكثير خلال زيارة له لوالدي في أواخر الستينيات) :[c1]ولو ثقفت يوما حضرميا[c1] *** [/c]لجاءك آية في النابغينا[/c]أخذتنا رحلتنا الطويلة الى ثمان دول أولها كانت مصر حيث التقينا بكبار رجال الدولة ووزرائها والتقى بعض اعضاء وفدنا بالزعيم الكبير جمال عبدالناصر رحمه الله كما التقينا هناك بالرئيس قحطان الشعبي رحمه الله . ورتب لي وحدي لقاء بوزير الاشغال زين العابدين الذي سجنه أنور السادات فيما بعد بتهمة الانتماء الى مراكز القوى .ثم زرنا يوغسلافيا والتقينا هناك بالماريشال تيتو وشعرت بأن له شخصية ساحرة طاغية كما التقينا عنده بذاكر حسين رئيس جمهورية الهند. وفي الفندق ببلغراد التقيت بالشيخ الأستاذ أحمد محمد نعمان وولده عبدالرحمن وقد ميزني الشيخ بذكائه الخارق إذ ذكرني من طفولتي أو لمح شبهي بوالدي وعندما تأكد من شخصيتي عانقني وسألني عن والدي وعن آل لقمان واحدا واحدا. ثم سألني عن أخبار الوطن فقلت له “الحمد لله” . فقال لي مبتسما ابتسامة ذات مغزى: “تقصد الحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه؟”. وكان الشيخ رحمه الله قد أطلق يومها من الاحتجاز في مصر مع عدد من الزعماء اليمنيين الذين كانوا يدعون لوقف الحرب الأهلية والمصالحة ، والتي تمت بعد ذلك بنحو عامين بعد أن سالت دماء كثيرة ، وعين نعمان عضوا في مجلس الرئاسة في الشمال. وكنا على وشك مغادرة الفندق للسفر الى براغ عاصمة شيكوسلوفاكيا ولكن ألغي السفر في آخر لحظة لأن الجيش السوفييتي اقتحم يومها تلك العاصمة فيما عرف بعد ذلك بربيع براغ. وزرنا المجر وبولندا والمانيا الغربية وألمانيا الشرقية والتقينا بكبار المسؤولين هناك . ثم زرنا الإتحاد السوفييتي في طريقنا إلى كوريا الشمالية حيث التقينا بكيم أيل سونج ، وكان أيضا ذا شخصية كريزماتية طاغية وصاحب ابتسامة شديدة الثقة ، والكوريون يتحدثون عنه كما لو كان نصف إله. وقد استضافنا على مائدة غذاء مقتصرة فقط على وفدنا بالاضافة الى رئيس وزرائه ووزير زراعته. وكان وضعي على الطاولة مباشرة على يسار كيم ايل سونج الذي استفسر عن صحتي لانني كنت قد اصبت بوعكة ودوار في اليوم السابق اثناء زيارتنا المطولة لمنزل والد سونج وكان فرج بن غانم يتندر على الأمر فيما بيني وبينه ويظنني كنت أمثل دور المريض احتجاجا على طول الزيارة بينما كانت الوعكة حقيقية جدا. وبعد عودتنا من السفر تزوجت وسافرت مباشرة للدراسة العليا والحصول على الماجستير من جامعة روركي الشهيرة في الهند ، ولا اعرف احدا غيري قضي شهر العسل وهو يحضر محاضرات عويصه وينقل هو وزوجته المحاضرات الكثيرة التي فاتته بسبب طول الرحلة ! وقد كان فرج بن غانم هو الشخص الذي حصل على مسكني الحكومي بعدن عند سفري.وفي يوليو عام 1972 دعاني رئيس الوزراء آنئذ الاخ على ناصر محمد الى مكتبه واستقبلني بحفاوة بالغة وهو من المحبين لوالدي د. محمد عبده غانم رحمه الله والمعجبين بشعره وكان قد سبق أن تعامل معي من خلال عمله وزيرا للأشغال والمواصلات بالإنابة ، كما كنت قد شكوت اليه في لقاء خاص له مع المهندسين بعض مظالمهم إذ كنت يومها سكرتيرا أو امينا عاما لجمعية المهندسين اليمنيين التي كنت قد قدمت اقتراحا بإنشائها عام 1970 . وبموافقة الأخ حيدر العطاس وتعاون بعض الزملاء أمثال المهندس نديم حسين علي رحمه الله والأستاذ الجليل فضل لقمان والمهندس عبدالرحمن البصري والمهندس أحمد عبد القادر وآخرين تم إنشاؤها عام 1970 وانتخبت أول أمين عام لها وبقيت كذلك حتى غادرت البلد عام 1972 . وكنت يومها قد تكلمت بصراحة شديدة جعلت بعض الأصدقاء أمثال المهندس عيدروس ميسري رحمه الله وبعض زملائي في الوزارة يخشون أن أكون قد أسرفت في النقد . ولكن الأخ علي ناصر على عكس ذلك قد سرته الصراحة فيبدو أنه كان صادقا في الرغبة في الإصلاح.طلب مني يومها الأخ علي ناصر أن اعمل معه وفرج بن غانم في مجال التخطيط الذي كان يومها تابعا مباشرة لرئيس الوزراء ، وكان فرج قد اوصاه بنقلي على الرغم من ممانعة وزير الاشغال والمواصلات آنئذ الاخ المهندس حيدر العطاس الذي كان يصر على ان ابقى في وزارته ، (وكان الأخ حيدر قد رفض قبل ذلك بأسابيع طلبا من الأخ أنيس حسن يحيى وزير الأقتصاد آنذاك أن أنتقل إلى وزارة الإقتصاد والصناعة لأعمل مديرا للصناعة). والتقيت بفرج بعد مغادرتي مكتب رئيس الوزراء وأعرب عن فرحه بانضمامي الوشيك الى التخطيط . وجاء بعد ذلك مباشرة “أسبوع الواجب” وكان القشة التي قصمت ظهر البعير ، فهاجرت من اليمن بعده بأيام ولم اتسلم الوظيفة الجديدة على الرغم من صدور قرار من رئيس الوزراء بتعييني.كان ذلك آخر لقاء لي بفرج . ولكن بعد ان ترك العمل كرئيس للوزراء في صنعاء كان في زيارتي أحد الاصدقاء من صنعاء وجرى الحديث ضمن ما جرى عن فرج وتركه رئاسة الوزارة واتضح لي ان الزائر صديق حميم لفرج وقد اتصل به على التلفون من مجلسنا ذاك بدبي فجرى بيني وبين فرج على الهاتف حديث ذكريات يعود الى الوراء عدة عقود. رحمه الله وألهم ذويه الصبر والسلوان.